إحرام المقيمين في جدة
تبين لنا -مما سبق- أن المقيمين في جدة يُحرمون من محالّ إقامتهم في جدة؛ لأنها أقرب إلى مكة من المواقيت المكانية، ولا يكلفون، فلم يرد تكليف لهم أن يخرجوا من جدة إلى آبار علي، أو إلى يلملم، أو إلى الجحفة، أو إلى غيرها من المواقيت، ولكن يحرمون من أماكنهم، ولا يكلفون الذهاب إلى تلك المواقيت ليحرموا منها؛ بل إن من يمعن النظر يجدها أبعد من قرن المنازل أو السيل وهو أحد المواقيت المكانية، كما أن أدنى الحل هو التنعيم، والتنعيم أقرب من جدة كثيرًا. قال الشيخ السيد سابق في أهل جدة وأمثالهم: “ومن كان بين الميقات، وبين مكة فميقاته من منزله”.
قال ابن حزم: “ومن كان طريقه لا تمر بشيء من هذه المواقيت؛ فليحرم من حيث شاء برًّا أو بحرًا”. فما دام الطريق لا يمر بشيء من هذه المواقيت؛ يحرم من حيث شاء برًّا أو بحرًا. هذا من حيث الجواز؛ فجدة كلها جائزة للمقيمين بها للإحرام منها.
لكن هناك من قال باستحباب المكان الأبعد من جدة؛ فقد جاء في (الموسوعة الفقهية) تحت عنوان “ميقات الميقاتي”: وهو البستاني، وهو الذي يسكن في مناطق المواقيت، أو ما يحاذيها، أو في مكان دونها إلى الحرم المحيط بمكة، كقديد، وعسفان، ومر الظهران.
ذهب الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة إلى أن ميقاته المكاني للحج هو موضعه، إلا أن المالكية قالوا: يحرم من داره أو من مسجده، ولا يؤخر ذلك، والأحسن: أن يحرم من أبعدهما؛ كلما زادت المسافة بعدًا عن الحرم كانت أولى -كما يقولون. فيحرم من الطرف البعيد من جدة مع أن منزله في وسطها، أو في أقصاها من جهة مكة.
فهم يقولون: الأولى أن يحرم من طرفها الأبعد، لكن يجوز له أن يحرم من مكانه الأقرب، فيستحب أن يحرم من طرف القرية أو الحلة -المكان الذي يحلون فيه في البادية- الأبعد عن مكة، وإن أحرم من الطرف الأقرب جاز.
ومذهب الحنفية: أن ميقاته منطقة الحل -أي: من موضعه إلى حدود الحرم- فالجميع متفقون على أن أهل جدة المقيمين فيها يحرمون منها؛ شأنهم في ذلك شأن غيرهم من السكان، أو المقيمين في البلاد الأخرى، سواء داخل مكة، أو داخل الحرم، أو خارجهما ودون الميقات، أي: جميع المسافة من الميقات إلى انتهاء الحل، ولا يلزم ذلك المحرم كفارة ما لم يدخل أرض الحرم بلا إحرام، وإحرامه من دويرة أهله أفضل، هكذا يقول الحنفية، وإن كان المالكية قالوا: إحرامه من الطرف الأبعد أفضل.
على أية حال، فقد عرفنا أن الإحرام في أي مكان للمقيمين بها، أو المقيمين بغيرها، يكون للجميع من موضعه الذي يقيم فيه، ولا يلزم الذهاب إلى الميقات، والإحرام من هناك، وليس عليه كفارة ولا أي شيء.
واستدل الجميع على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث المواقيت: ومن كان دون ذلك -أي: أقرب إلى مكة من هذه المواقيت- فمن حيث أنشأ. فجدة كلها ميقات لأهلها، ومن حيث أحرم منها فالإحرام صحيح، والأولى عند المالكية: أن يحرم من طرفها الأبعد، والأولى عند الحنفية: أن يحرم من موضعه فيها أو من دويرة أهله؛ وكذلك عند الشافعية والحنابلة. ولو أحرم بعدها قبل انتهاء الحل جاز -أي: أهل مكة- فالحنفية يقولون: لو أحرم من أقربها إلى مكة -المهم ألا يدخل الحرم أو حدود الحرم إلا محرمًا- فمن خرج من جدة غير محرم وأحرم قبل حدود الحرم عند منطقة الشميسي؛ فإحرامه صحيح عند الحنفية.
والأَوْلَى: أن نخرج من هذا الاختلاف، ونقول: لأهل جدة أن يحرموا من بلدهم، أو من سكنهم، أو من محال إقامتهم؛ بينما المقيمون في الصحراء حولها يحرمون أيضًا من محال إقامتهم.