Top
Image Alt

إحياء الحس الوطني، التعليم، الطباعة، الصحافة

  /  إحياء الحس الوطني، التعليم، الطباعة، الصحافة

إحياء الحس الوطني، التعليم، الطباعة، الصحافة

العوامل التي أدت إلى نهضة النقد الأدبي في العصر الحديث:

نتحدث عن العوامل التي أدت إلى نهضة النقد الأدبي في العصر الحديث في مرحلة الإحياء، وعن مظاهر الاتجاه نحو القدماء في أصول النقد وطريقته:

العوامل التي أدت إلى نهضة النقد الأدبي تتمثل فيما يلي:

“إحياء الحس الوطني، التعليم، الطباعة، الصحافة، المكتبات والجمعيات العلمية، البعثات والترجمة، ووجود المواهب والعقول التي تفاعلت مع هذه العوامل وكتبت وأرشدت ووجهت، اختلاف التيارات الثقافية بين تيار تراثي يعلي من شأن القديم، وتيار حديث يعلي من شأن الثقافة الغربية ونظريات الغرب وأفكاره، وتيار توسط بين هذين التيارين ودعا إلى المزاوجة بين التراث العربي القديم والثقافة الغربية الحديثة”.

هذه هي العوامل بإيجاز ونفصل القول فيها؛ لأنها هي التي أصلحت التربة التي كانت فاسدة من قبل، وهيأت الظروف للنهضة في النقد الأدبي الحديث:

أما إحياء الحس الوطني: فقد أحَسّ عُلماء الأزهر ومن ورائهم الشعب بعد جلاء الفَرنسيين واستجابة الخليفة العُثماني لمطالبهم وتولي محمد علي شئون بلادهم أنهم أصحاب وطن، يستطيعون الدفاع عنه، ويشرفون بالانتماء إليه، فزادت رغبتهم في الإصلاح، وعظم أملهم فيه، وأحسنوا الظن بواليهم الجديد، ولأنهم أصحاب الفضل في توليته عليهم عاهدهم على ألا يبرم أمرًا ذا بال إلا بمشورتهم، وصانعهم على ذلك، ولكنه لم يوفِّ بما عاهدهم عليه إلى نهاية الأمر؛ فانقلب عليهم واستبد برأيه.

ولكن هذا الحس الوطني ظَلّ كامنًا في نفوس المصريين، وإن ظل مكبوتًا أو مستورًا، وظهر هذا الحس ظهورًا جليًّا في ما بعد ذلك فيما عرف بثورة عرابي، ثم فيما عُرف بثورة سنة 1919 بقيادة سعد زغلول، ولم تكن هاتان الثورتان هما مظهر هذا الحس الوطني فحسب، وإنما عبر هذا الحس الوطني عن نفسه في كثير من المواقف، وعلى يد كثير من الزعماء، مثل: “مصطفي كامل”، ومثل “محمد فريد”، وظهر أيضًا هذا الحس فيما كتب من المقالات، وألقي من الخطب في مقاومة الاستعمار، والدعوة إلى الاستقلال. ولا يمكن أن ينسى عبد الله النديم في هذا السياق، خطيب الثورة العرابية.

فذلك كله كان ظهورًا لهذا الحس الوطني، وعندما يظهر هذا الحس هذا ما يدل على أن الأمة ما تزال حية، وإذا كانت الأمة حَيّة فإنها قادرة على أن تنهض بعلمها وثقافتها وأدبها، أمّا إذا كانت الأمة خامدة خاملة هامدة لا يظهر لها طموح ولا أمل ولا دعوة إلى التغيير؛ فإنها بذلك لن تستطيع أن تغير لا علمًا ولا ثقافة ولا أدبًا؛ فإذًا كان إحياء الحس الوطني من أهم العوامل التي مهدت وأدت إلى النهضة الأدبية، ونهضة النقد الأدبي كذلك في العصر الحديث.

العامل الثاني: التعليم:

الأمة العربية بعد أن شرّفها الله بالإسلام، عرفت قيمة التعليم؛ لأن الله سبحانه وتعالى أوجب على هذه الأمة التعلم، وجعل طلب العلم فريضة، وارتبطت مسيرة التقدم والازدهار والعزة والصلاح في هذه الأمة بالعلم، فكُلما كانت الأمة متقدمة في طريق العلم، كانت متقدمة في جميع مجالات الحياة؛ وإذا تخلفت الأمة في طريق العلم انعكس هذا التخلف على كل مجالات الحياة.

والذي ينظر في تاريخ العرب سيجدُ أنّ العرب في ظل الإسلام اهتموا بالعلم فتقدموا، ففي العصر العباسي مثلًا ارتقت العلوم الإسلامية والعربية والتجريبية والفلسفية أعلى مقام، وتعلمت الدنيا كلها من المسلمين مناهج البحث وطرائق التفكير وانتفعت البشرية بنظريات جديدة، ومخترعات في مجال الفلك والطب والكيمياء والرياضيات والعمارة والبناء، وغير ذلك من أنواع العلوم.

ولأن الأدب يقوى وينشط إذا قوي العلم رأينا الأدب العباسي في ذروة نشاط وأوج قوته، ورأينا النقد الأدبي كذلك في هذا العصر يبلغ أرقى درجات نموه وكماله، وطور المؤلفات النقدية العظيمة، والآراء والنظريات النقدية، التي ما نزال ندرسها وندرسها إلى الآن. والأمر كذلك في الأندلس، كان في الأندلس نهضة علمية، وواكبها كذلك نهضة أدبية ونقدية.

كان هذا الشأن كذلك في العصر الحديث؛ عندما تولى محمد علي حكم مصر، لم يكن في البلاد اهتمام بدور العلم، بل لم تكن هناك -كما أشرت في الدرس السابق- غير بعض المساجد الكبرى، التي تقام فيها حلقات التدريس لبعض علوم الدين، كالعقيدة والفقه وبعض علوم كالنحو والبلاغة القديمة، وكان للأزهر الشريف دور كبير ومهم في المحافظة على تُراث الأمة في دينها ولغتها، وحماية ما ألفه كبار العلماء والقدماء في القرون الماضية، ولكن لم يكن ذلك كافيًا لنهضة أدبية ونقدية. فلم تكن سوق الأدب والنقد لتعلو وتظهر، وسوق العلم كاسدة.

لما اهتم محمد علي بإنشاء المدارس وحاول أن يوفر لجيشه ما يحتاجه إليه من الأطباء والمهندسين والمترجمين؛ بدأت قامة العلم ترتفع، ثم بدأت بعد ذلك قامة الأدب ترتفع وقامة النقد ترتفع، بعد أن كان الأزهر هو منارة العلم في مصر وحده أنشئت إلى جواره مدارس أخرى، وأنشئت بعد ذلك الجامعة المصرية، ومدرسة دار العلوم، ومدرسة القضاء الشرعي، ومدرسة الألسن، وأدخل علي مبارك تعليم البنات في مصر؛ فأنشئت مدارس لتعليم البنات، وازداد عدد الجامعات، وعندما يكثر التعليم يكثر المثقفون، ويكثر القارئون، ويظهر المواهب الأدبية، وتنشط الآراء النقدية في هذه المدارس، وفي هذه الجامعة، ثم تتجاوز هذه النهضة أسوار المدارس وأسوار الجامعات لتنتقل إلى المؤتمرات والندوات والصحف والمجلات، وهكذا.

فالتعليم عامل مهم جدًّا من عوامل النهضة النقدية، وكيف تكون هناك نهضة نقدية بدون العلم، كُل النّقاد الذين وجهوا الأدب كانوا من العلماء الذين حصلوا على حظ وافر من التعليم؛ فالشيخُ حسين المرصفي، والشيخ محمد عبده، والمنفلوطي، وطه حسين، وأحمد حسن الزيات، كلهم ممن اجتهدوا في تحصيل العلم، ونهلوا من منابعه، واستطاعوا -عن طريق هذا العلم الذي تعلموه- أن يقودوا حركة النقد في مرحلة البعث والإحياء.

العامل الثالث من عوامل النهضة النقدية: الطباعة:

فقد كان مؤلفو الكتب في العصور القديمة يعهدون بما يكتبونه إلى طائفة من الناس، يسمون الناسخين، وكانت الكتابة تعتمد على الأقلام التي تغمس في المداد، فلا يمكن للناسخ أنْ يَكْتُب من الكتاب الواحد إلا عددًا قليلًا من النسخ، يكون تداولها مقصورًا على الطبقة المتميزة في المجتمع.

الطباعة الحديثة أحدثت ثورة في مجال العلم والثقافة والأدب والنقد، وكان أول معرفة مصر للطباعة مرتبطًا بالحملة الفرنسية؛ لأن الفرنسيين اصطحبوا معهم في غزوهم لمصر مطبعة استخدموها في طباعة المنشورات التي كانوا يوزعونها على المصريين؛ محاولين إقناعهم بأن الفرنسيين جاءوا من أجل مصلحتهم وتحريرهم وتقدمهم، ولما رحل هؤلاء الفرنسيون تركوا هذه المطبعة.

ولما تولى محمد علي أمر البلاد -وكان هذا الرجل يعرف أهمية التعليم ويعرف أهمية المطبعة للتعليم- أنشأ مطبعة أخرى، ثم توالى إنشاء المطابع، وحدث تطور كبير في مجالها، وجاء بعض الشوام الذين كانوا يتقنون هذا الفن إلى مصر فأنشئوا أيضًا فيها عددًا من المطابع، وأدت هذه النهضة في الطباعة إلى تيسير حصول كثير من المثقفين على الكتب النافعة في مجالات العلم المختلفة؛ في مجالات الثقافة والأدب، فعن طريق هذه المطابع نشرت أمهات الكتب الأدبية والنقدية التراثية، كـ(البيان والتبيين) للجاحظ، و(الكامل) للمبرد، و(الأغاني) لأبي الفرج الأصفهاني، و(المثل السائر) لابن الأثير، وغير هذه الكتب كثير.

ولا بد أن يكون لهذه الكتب وما احتوت عليه من أفكار نقدية ونماذج تطبيقية في الموازنات، والحكم على المعاني، والحكم على الصياغة، لا بد أن يكون لها أثر كبير في إذكاء حركة النقد وتنشيطها.

العامل الرابع من عوامل النهضة النقدية في العصر الحديث: الصحافة:

وهي بالتأكيد ثمرة من ثمار الطباعة؛ فقد ارتبط وجودها -وجود الصحافة- بوجود الطباعة وتقدمها، وأول ما عرف المصريون الصحافة كان مع الحملة الفرنسية أيضًا؛ لأنّ الفرنسيين أصدَرُوا جَريدتين بالفرنسية وأخرى بالعربية، ولما رَحلوا وتقلد محمد علي الأمر أصدر صحيفة عنوانها “جرنال الخديوي” سنة ألف وثمانمائة واثنين وعشرين، وكانت هذه الصحيفة تصدر باللغة العربية واللغة التركية، وفي سنة ألف وثمانمائة وثمانية وعشرين صدرت صحيفة “الوقائع” المصرية، وأشرف على إصدارها الشيخ حسن العطار من علماء الأزهر، وعاونه نخبة من العلماء المتأدبين آنذاك كرفاعة الطهطاوي، ثم محمد عبده وغيرهما. وكانت هذه الصحيفة “الوقائع المصرية” تعنى بالأخبار الرسمية في الغالب.

ثم ظهرت بعد ذلك مجلة “اليعسوب”، وهي مجلة علمية سياسية أدبية أنشأها عبد الله أبو السعود، وهو أحد أبناء الأزهر، وعلم من أعلام الأدب.

وفي سنة ألف وثمانمائة وتسع وستين أصدر محمد عثمان جلال وإبراهيم المويلحي صحيفة بعنوان “نزهة الأفكار” ثم صدرت “روضة المدارس” لعلي مبارك سنة ألف وثمانمائة وسبعين ميلادية، وأشرف عليها رفاعة الطهطاوي، ثم واصلت الصحافة تطورها ونهضتها، وساعد على ذلك مجيء كثير من الأدباء الشوام، من أبناء سوريا كسليم تقلا، وبشارة تقلا، وأديب إسحاق، وسليم نقاش؛ حيث جاء هؤلاء إلى مصر، واشتغلوا بالصحافة وأصدروا عددًا من الصحف كـ”الكوكب الشرقي” لسليم وبشارة تقلا، و”المحروسة” لأديب إسحاق وسليم نقاش، وكان لهم دور مهم في تدريب كثير من المصريين على هذا الفن -الفن الصحفي.

وكان أكثر الذين يشاركون في تحرير الصحف من الأدباء، وكان عدد كبير منهم ينتسبون إلى الأزهر، يطلبون العلم فيه، ويُشاركون في تحرير هذه الصحف، ويُشرفون عليها، وأخذ الأسلوب العربي في هذه الصحف يتطور من مرحلة إلى مرحلة، بفضل توجيهات الأدباء، الذين كانوا يشرفون على هذه الصحف.

ومن أهم هؤلاء الأدباء والنقاد والعلماء الذين كان لهم دور ريادي في النقد الأدبي، وتصحيح الأساليب من خلال الصحافة: الشيخ محمد عبده؛ لأنه من خلال موقعه الذي كان يشرف منه على الصحف، أو كثير منها، كان يوجه الكتاب إلى تحري الأساليب الصحيحة، البريئة من تقاليد الجمود والضعف والتخلف، الموروثة عن العصر العثماني. وأخذ نفسه بتصحيح أسلوبه وتقويته وتحرره من السجع والجناس وغيرهما من ألوان البديع، ودعا الكتاب إلى هذا النهج، كما دعاهم إلى الاهتمام بالفكرة، وعدم الاهتمام المبالغ فيه باللفظ حتى لا تكون الكتابة جوفاء لا قيمة لها، ولا فائدة منها.

والمؤرخون للصحافة في مصر يقولون: إنها مرت بعدة أطوار:

الطور الأول: من سنة ألف وثمانمائة وثمان وعشرين إلى ألف وثمانمائة واثنين وتسعين، يغلب على الصحافة في هذا الطوق الطابع الوطني، والاهتمام بالإصلاح الاجتماعي، وإن كانت لا تخلو من الأدب ونماذجه، هذه النماذج التي كانت قليلة في ذلك الوقت.

والطور الثاني: من سنة ألف وثمانمائة واثنين وتسعين إلى سنة ألف وتسعمائة، وأهم الصحف التي صدرت في تلك الفترة “المقطم” و”المؤيد” و”الأستاذ”.

ثم الطور الثالث: من سنة ألف وتسعمائة إلى ألف وتسعمائة وعشر، وفي هذا الطور خطت الصحافة خطواتٍ واسعةً، ونشطة في الدعوة إلى الاستقلال، ورفض الاحتلال الإنجليزي، كما كثر الحديث عن الخلافة الإسلامية، وما يتعلق بالأمور السياسية والاجتماعية التي تهم الناس، وفي هذه الفترة اتخذ القادة السياسيون والمصلحون الاجتماعيون من الصحف منابر لآرائهم؛ حيث كانوا يكتبون المقالات التي يعبرون فيها عن رؤيتهم في الإصلاح والاستقلال. ومن أهم الصحف التي ظهرت في هذه الفترة “اللواء” و”الجريدة” و”مصر الفتاة”.

واستمرت الصحافة في رقيها وتطورها، وأخذت هذه الصحافة تفسح في صفحاتها للأدب؛ فتنشر القصائد الوطنية والحماسية، وتنشر المقالات النقدية، وإذا عَرفنا أن النقاد الكبار ظهرت آراؤهم النقدية أول ما ظهرت عن طريق الصحافة عرفنا الدور الذي قدمته أو قامت به الصحافة في نهضة النقد؛ فالعقاد، وطه حسين، والزيات، والمنفلوطي، وأحمد زكي أبو شادي، ومصطفى صادق الرافعي، هؤلاء وغيرهم من أصحاب الاتجاهات المختلفة في النقد قدموا آراءهم ونظرياتهم في بداية الأمر عن طريق الصحف التي كانوا يكتبون فيها.

وأدت الصحافة دورًا مهمًّا في نشر الأدب، والتعريف بالأدباء، والتعريف كذلك بالنقاد وآرائهم في هذا الأدب، ومثلت الصُّحف والمجلات أهم واسطة بين الأدباء وجمهور القراء، ونشأت بعد ذلك مجلات متخصصة، قامت بدور عظيم في النهضة الأدبية.

ومن أهم الصحف والمجلات التي أسدت إلى اللغة العربية وآدابها فضلًا كبيرًا في العصر الحديث صحيفة “الجوائب”، ومجلة “روضة المدارس”، وجريدة “نزهة الأفكار” و”المقتطف” و”الثقافة” و”الرسالة” و”الهلال” و”الأهرام” وغيرها.

وقد اختلفت الاتجاهات الأدبية في هذه الصحف والمجلات تبعًا لاختلاف الثقافة بين محرريها، فقد غلب على بعضها الإعجاب بالفكر الغربي والأدب الغربي، وكثرت النماذج المترجمة من هذا الأدب على صفحات بعض هذه الصحف، وغلب على بعض هذه الصحف المحافظة، والاتجاه للتراث العربي، وتوسطت بعض الصحف بين هذين الطرفين.

ومن خلال الصحف والمجلات عرف جمهور المتأدبين من الشعراء الناشئين والكتاب الاتجاهات الأدبية الحديثة، والنظريات النقدية، والآراء المختلفة في تقويم الشعر والنثر؛ كما قرءوا أساليبَ مُتنوعة في المقال، والقصة القصيرة، وتعرفوا على كبار الكتاب والأدباء، من أمثال الزيات، والرافعي، والمنفلوطي، وطه حسين، والعقاد. وغيرهم من أعلام النهضة فكان للصحافة دور مهم جدًّا في نهضة النقد الأدبي في العصر الحديث.

error: النص محمي !!