إعلان حجه صلى الله عليه وسلم والخارجين فيه، حج أبي بكر وما تمَّ فِيه
أ. إعلان حجه صلى الله عليه وسلم والخارجين فيه:
عزم النبي صلى الله عليه وسلم على أن يختم حياته بحجٍ إلى بيت الله الحرام وكان ذلك في السنة العاشرة من الهجرة، فأعلن في الناس، فاجتمع بشر كثيرون بالمدينة؛ لينالوا شرف الصحبة مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجه هذا.
كان هذا هو ثالث حج للنبي صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة، فإن الموسم الأول الذي جاء ومكة قد دخلت في الإسلام كان في العام الثامن، ولما جاء موسم الحج ترك النبي صلى الله عليه وسلم العرب يحجون كما كانوا يحجون، ولم يأخذهم قهرًا، وحج بالناس في ذلك العام عَتّاب بن أسيد عامل النبي صلى الله عليه وسلم على مكة، وهذا رفق من النبي صلى الله عليه وسلم بالعرب وبالمشركين حتى يدخلوا الإسلام على طواعية، فما منعهم الحج هذا العام على الرغم مما كانوا عليه من الشرك والمخالفات الشديدة التي بعدت بمناسك الحج، وأدائها عن ملة إبراهيم عليه السلام.
ب. حج أبي بكر، وما تم فيه:
ثم إنه صلى الله عليه وسلم في العام التاسع أمر أبا بكر بالخروج بالمسلمين أو بوفد المسلمين من حجاج المدينة ومن حولها، فخرج رضي الله عنه وكان معه ثلاثمائة من الصحابة ساقوا عشرين بَدنه.
ولما فصل أبو بكر رضي الله عنه بالناس، نزلت سورة براءة فأتبع النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر بعلي بن أبي بكر يحمل صدر سورة براءة أربعين آية وأمره أن يقرأها على الناس في الموسم وأن يبلغهم بلاغ النبي صلى الله عليه وسلم وأمر اللهعز وجل.
وقد اختار النبي صلى الله عليه وسلم عليًّا؛ لأنه قال صلى الله عليه وسلم: ((لا يؤدي عني إلا رجل من أهل بيتي))، ولما رأى أبو بكر عليًّا ظن أنه بُعث أميرًا فسأله أمير أم مأمور؟ قال: بل مأمور، وعرفه أنه إنما جاء ليبلغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس في مواقف الحج ما أنهى الله به كل أمور الشرك بما أنزلت به آيات سورة التوبة -أو سورة براءة.
وكان مما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم عليًّا أن ينادي في الناس: ((لا يدخل الجنة إلا مؤمن، ولا يطوف بالبيت عريان، ولا يحج بعد العام مشرك، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فعهده إلى مدته))، ثم كانت آيات سورة براءة التي فَصَلت الأمر بين الإيمان والشرك، قال تعالى: {وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} [التوبة: 3] ثم تجعل الأمد للمشركين أربعة أشهر حتى يكون الإمهال رحمة بأمثال هؤلاء.
كما تبين الآيات في صدر هذه السورة رحمة الإسلام ورفقه بأمثال هؤلاء: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُون} [التوبة: 6].
وكان حج أبي بكر بالناس في العام التاسع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما شغل بلقاء الوفود التي أتت إلى المدينة تعلن إسلامها، من ناحية أخرى فإن أمر حج العرب كان فيه من المخالفات التي تسامح النبي صلى الله عليه وسلم في أن يباشرها العرب في العام الثامن وفي العام التاسع، وحتى يبلغ الناس بانقطاع القضاء على هذه العادات التي أدخلها العرب في الحج ومناسكه، وحتى يكون ذلك ممهدًا لحج النبي صلى الله عليه وسلم في العام العاشر الذي تطهر البيت فيه من أرجاس المشركين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـذَا} [التوبة: 28] وكان هذا أمر من الله عز وجل وهكذا بلغت الدعوة كل الناس؛ لأن قبائل العرب الذين حجوا في هذا الموسم رجعوا بهذه البلاغات التي بلغها النبي صلى الله عليه وسلم إليهم، وبلغها عنه علي وأبو بكر، وصحابة النبي صلى الله عليه وسلم فلم يعد هناك عذر لمعتذر من بعد ذلك، وطهرت مكة من أرجاس الجاهلية، ومن المشركين، كما طهرت من قبل من الأوثان والأصنام.