ابن الزيات
من الكُتاب الذين لمعت أسماؤهم في العصر العباسي: محمد بن عبد الملك بن الزيات:
وهذا اللقب -ابن الزيات- هو المشهور به؛ لأن جده كان يجلب الزيتَ من مواطنه إلى بغداد متاجرًا فيه.
ولد محمد بن عبد الملك بن الزيات سنة مائة وثلاث وسبعين، وكان يحب الأدب والعلمَ، وظهر نبوغه الأدبي في سن مبكرة، وكان شاعرًا مجيدًا، وكاتبًا بارعًا.
وقد حاول أبوه أن يصرفه إلى التجارة؛ لأنه كان يرَى أن الربح فيها مضمون، لكن محمدًا أبى ذلك واستمر في طلب العلم والأدب، وحاول أن يلفت أولي الأمر إلى موهبته الأدبية؛ لكي يلحقوه بوظيفة تجلب له المجد والمال، وقد قال أبوه له يومًا: والله ما أرى ما أنت ملازمه ينفعك -يريد العلم والأدب- ولا يضرنك، لأنك تدع عاجل المنفعة -أي: الربح من التجارة- وما أنت فيه مكفي، ولك ولأبيك فيه مال وجَاه، وتطلب الآجل -أي: ثمرة العلم والأدب- الذي لا تدري كيف تكون فيه؟ فقال له محمد: والله لتعلمنَّ أينا ينتفع بما هو فيه أنا أم أنت!! ثم شخَصَ إلى الحسن بن سهل فامتدحه بقصيدة، فأعطاه عشرة آلاف درهم، فعاد بها إلى أبيه فقال له أبوه: لا ألومك بعدها على ما أنت فيه.
واستمرّ محمد بن عبد الملك بن الزيات يطلب المجد والشهرة والغِنى بأدبه، وقد كانت له مؤهلات تمكنه من أن يتبوأ مكانة مرموقة، فقد كان عالمًا باللغة والنحو، ومبدعًا في الشعر وفي النثر، وأدَّى به ذلك إلى أن يعملَ في الدواوين حتى وليَ المعتصم الخلافةَ فقربه منه، ثم استوزره -أي: جعله وزيرًا- وفتحت الدنيا أبوابَها له، وتقرب إليه الأدباء والشعراء، وذهب الشعراء إليه يمدحونه؛ لينالوا منه العطايا والسمات، وممن مَدَحه من الشعراء الكبار أبو تمام، وكانت له علاقة طيبة بالجاحظ الأديب والكاتب المشهور، ولما توفي المعتصم وتولى الخلافة بعده ابنه الواثق، ظل محمد بن عبد الملك بن الزيات وزيرًا له، لكن عداوة كانت قائمة بين محمد بن عبد الملك بن الزيات، وأحمد بن أبي دؤاد المعتزلي المشهور قاضي القضاة في عهد المعتصم وعهد الواثق، وهذه العداوةُ بينهما يبدو أنها كانت بسبب التنافس على الرياسة والصدارة والشهرة، فانقلبت هذه المنافسة إلى عداوة وتهاجٍ بالشعر، وكان ابن أبي دؤاد يحرض الشعراء على هجاء محمد بن عبد الملك ويعطيهم المال على ذلك.
ويقال: إن بعض الشعراء هجاه بقصيدة بلغت أبياتها سبعين بيتًا، فَلَمَّا علم خبرها ابن أبي دؤاد قال:
أحسن من سبعين بيتًا سدًى | * | جمعك إياهن في بيت |
ما أحوج الناس إلى مطرة | * | تذهب عنهم وضر الزيت |
يغمز ابنَ الزيات باللقب الذي كان معروفًا به، وأن جده كان يجلب الزيت ليتاجر فيه.
يقولون: وكان ابن الزيات لبراعته في الشعر يكيل لابن أبي دؤاد الصاع صاعين، فاضطرمت العداوة بينهما. ويروى: أن ابن الزيات كان فيه قساوة قلب، وقد بلغ من قسوته أن اتخذ تنورًا -فرنًا- من حديد وجعل فيه مساميرَ؛ ليعذب به خصومَه والمطالبين بالأموال من أرباب الدواوين عندما يقعون في يده، وقالوا: إنه لما تولى الخلافةَ المتوكلُ بعد الواثق -وكان لا يحب ابن الزيات- غَضِبَ عليه وأدخله التنور الذي صنعه، وقيده فيه بخمسة عشر رطلًا من الحديد، فظل به أربعين يومًا يُعذب عذابًا شديدًا حتى مات.
وكان موته في آخر ربيع سنة مائتين وثلاث وثلاثين من الهجرة.
طريقته في الكتابة:
يذكر مؤرخو الأدب أنه لم يكن يعمد إلى السجع دائمًا، وإنما كان يرى في الإكثار من السجع مبالغة في التكلف والتصنع.
ومن كتاباته التي تدل على أسلوبه المسترسل هذه الرسالة التي بعث بها إلى أحد العمال يقول فيها:
“أما بعد، فقد انتهى إلى أمير المؤمنين كذا -أي: أمر من الأمور- فأنكره، ولا تخلو من إحدى منزلتين ليس في واحدة منهما عذر يوجب حجة ولا يزيل لائمة، إما تقصير في عملك دعاك للإخلال بالحزم والتفريط في الواجب، وإما مظاهرة لأهل الفساد ومداهنة لأهل الريب، وأية هاتين كانت منك محلة النكر بك وموجبة العقوبة عليك، لولا ما يلقاك به أميرُ المؤمنين من الأناة والنظرة، والأخذ بالحجة والتقدم في الإعذار والإنذار، وعلى حسب ما أقلت من عظيم العثرة يجب اجتهادك في تلافي التقصير والإضاعة والسلام”.
وواضح من هذه الرسالة قدرة ابن الزيات على الوصول إلى المعنى الذي يريده من أقصر طريق، فليس في الرسالة حشو، ولا إسهاب، ولا تطويل، لكنها تتسم بالإيجاز والاختصار والقصد، وتتسم كذلك بالترسّل، وعدم الوقوع في الزينة اللفظية المتكلفة أو الثقيلة.
وهو بهذا الأسلوب المتميز يعد واحدًا من أكبر الأدباء والكتاب في العصر العباسي.