ابن حزم الأندلسي
أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم، يُلقب بالقرطبي نسبة إلى موطن ولادته ونشأته؛ كما يُلقب بالظاهري نسبة إلى المذهب الفقهي الذي اشتُهر به.
وأصول ابن حزم يحيط بها الغموض؛ فيقال: إن أسرته تنحدر من أصل فارسي؛ حيث ينتهي نسبه إلى رجل من أهل فارس اسمه يزيد كان مولًى ليزيد بن أبي سفيان، ويقال: إن أسرة ابن حزم من أصل إسباني، وأن جده الأدنى كان حديث عهد بالإسلام، ويبدو أن هذا القول هو الأقرب إلى الصواب.
هذا ما قاله الدكتور أحمد هيكل في نسب ابن حزم.
كان أسرة ابن حزم تعيش أولًا في إقليم لِبلة من بلاد الأندلس، وكانت هذه الأسرة متواضعة تعيش على ما تغله الأرض من الرزق، ثم تطلعت عيونها إلى أضواء عاصمة الأندلس -وهي قرطبة- وكان ذلك في زمن سعيد بن حزم جد عالمنا وأديبنا أبي محمد؛ حتى عاشت هذه الأسرة بقرطبة.
ويبدو أن أحمد والد أبي محمد -الذي نتحدث عنه- استطاع أن يتقدم إلى صفوف الإداريين في مدينة قرطبة، وكان متمتعًا بعلم وأدب، ومكَّنته مواهبه من أن يستمر في تقدمه حتى أصبح وزيرًا للمنصور بن أبي عامر، وهنا ارتفعت منزلته درجات، وانتقل بيته إلى مدارج الرفعة، وأصبح مشهورًا في قرطبة، ثم استطاع أن يعلوَ نجمه عند الحاجب وعند الخليفة جميعًا، وظل بيته حتى ظهرت الفتنة من البيوت الرفيعة بين الوزراء والمرموقين في قرطبة.
ومعروف أن الفتنة نشأ عنها بعد ذلك تفرق الأسر والتنازع، ونشأ ما يسمى بعد ذلك: عصر ملوك الطوائف.
في هذا البيت وُلِدَ ابن حزم سنة ثلاثمائة وأربعين من الهجرة، ونشأ في هذه الحياة المترفة، وقضى فترة صباه في حريم قصر أبيه؛ حيث عُهِد إلى النساء بتربيته وتحفيظه القرآن، وبعد أن كبر وبلغ الخامسة عشرة تقريبًا بدأت مرحلة جديدة من مراحل حياته؛ إذ خرج إلى تحصيل العلم والدرس، وتردد على المجالس وحلقات القراءة والعلم، وأخذ عن المشايخ العلوم الدينية واللغوية، حتى ظهرت أعمال العنف ومطاردة أنصار الأمويين؛ فاضطر إلى ترك قرطبة سنة أربعمائة وأربعٍ من الهجرة، واختار مدينة المرية، وهناك واصل درسه وتحصيله فيها.
وبعد ذلك توجه ابن حزم إلى بلنسية؛ حيث كان أحد الأمويين هناك يدعى له فذهب إليه، وكان الاعتقال نصيبه هناك؛ حيث فشلت حركة هذا الأموي، فاعتُقل وسُجن ابن حزم، وبعد أن خرج من سجنه توجه إلى قرطبة سنة أربعمائة وتسع بعد قيام القاسم بن حمود على الخلافة بها، واستطاع أن يستأنف في قرطبة حياته العلمية والأدبية، ثم بويع في قرطبة لأموي جديد، هو عبد الرحمن الخامس الملقب بالمستظهر، وكان هذا الأموي محبًّ للمفكرين والأدباء، فاستوزر بعضهم وجعل ابن حزم في مقدمتهم؛ ولكنه سقط بعد قليل، وآل الأمر بعد ذلك للمستكفي فسجن ابن حزم حينًا، ولم يطلق من سجنه إلا بعد سقوط المستكفي.
وخرج ابن حزم عاجزًا عن عمل أي شيء في هذه الأحداث المظلمة، وكان قد أحس بمرارة ما لاقى من اضطراب السياسة؛ فهاجر بعد قليل إلى شاطبة في شرق الأندلس، وكان قد نضج علميًّا وفنيًّا، وهناك ألَّف أعظم كتبه الأدبية، وهو كتاب (طَوْق الحمامة)، ثم ألف بعد ذلك كتبه العلمية التي منها (الفِصَل في الأهواء والنحل). وقد ترك ابن حزم عددًا كبيرًا من الكتب والرسائل.
والذي يهمنا أن نتوقف معه لما يتميز به من المزج بين الأدب وفلسفة الحب، وما يحمل من خبرة ابن حزم التي اكتسبها من نشأته وعيشته بين القصور: كتابه المسمى (طوق الحمامة في الألفة والأُلَّاف)، وهو كتاب يتناول عاطفة الحب بالبحث والتأمل والتحليل واستخلاص النتائج، وهو من أقدم البحوث التي تناولت عاطفة الحب على هذا النحو المنهجي المفصل.
وابن حزم -بالإضافة إلى أنه كان أديبًا- كان كذلك فيلسوفًا وكان فقيهًا، وهو إمام المذهب الظاهري في الفقه.
جعل ابن حزم كتابه (طوق الحمامة) هذا في ثلاثين بابًا، تتبع فيها الحب في نشأته، وتطوره، وأعراضه، ودرجاته، وأنواعه، ومسعداته، ومنغصاته، وهو في كل باب يتحدث عن الموضوع الذي يعرض له معرفًا ومحللًا ومعللًا، ثم يذكر بعض الحكايات الواقعية التي شاهدها، أو سمع بها، وكلها تدور حول الأندلسيين، وهو يضمن كتابه قطع من شعره قالها في مثل التجربة أو الظاهرة التي يسوق الحديث عنها.
ومن الأبواب التي ذكرها في كتابه: أعراض الحب وصفاته المحمودة والمذمومة، وفي هذه الأبواب يذكر: باب الصديق المساعد، ثم باب الوصل، ثم باب طي السر، ثم باب الكشف والإذاعة، ثم باب الطاعة، ثم باب المخالفة، ثم باب من أحب صفة لم يحب بعدها غيرها مما يخالفها، وبابان ختم بهما الرسالة؛ وهما: باب الكلام في قبح المعصية، وباب في فضل التعفف.
ونقف مع هذا النموذج من (طوق الحمامة) لنتعرف على أسلوب ابن حزم فيه، وهو من باب: من أحب بالوصف، وفيه يقول ابن حزم:
“ومن غريب أصول العشق أن تقع المحبة بالوصف دون المعاينة، وهذا أمرٌ يُترَقى منه إلى جميع الحب؛ فتكون المراسلة، والمكاتبة، والهم، والوجد، والسهر على غير الإبصار؛ فإن للحكايات، ونعت المحاسن، ووصف الأخبار تأثيرًا في النفس ظاهرًا، وأن تُسمع نغمتها من وراء جدار؛ فيكون سببًا للحب واشتغال البال، وهذا كله قد وقع لغير ما واحد؛ ولكنه عندي بنيان هارٍ على غير أُس؛ وذلك أن الذي أفرغ ذهنه في هوى من لم يرَ لا بد له إذ يخلو بفكره أن يمثل لنفسه صورة يتوهَّمها، وعينًا يقيمها نصب ضميره لا يتمثل في هاجسه غيرها، قد مال بوهمه نحوها؛ فإن وقعت المعاينة يومًا فحينئذ يتأكد الأمر أو يبطل بالكلية، وكلا الوجهين قد عرض وعُرف، وأكثر ما يقع هذا في ربات القصور المحجوبات من أهل البيوتات مع أقاربهن من الرجال، وحب النساء في هذا أثبت من حب الرجال لضعفهن وسرعة إجابة طبائعهن إلى هذا الشأن وتمكنه منهن.
وأنت تلاحظ أن أسلوب ابن حزم يسير في هذا الكتاب على النحو المسترسل الذي لا يعبأ بالزينة ولا يحفل بالسجع ولا بالجناس؛ وإنما يهتم بصوغ تجربته وسرد معلوماته ومعارفه في هذا الباب الذي هو باب الحب والعشق.