Top
Image Alt

ابن خفاجة

  /  ابن خفاجة

ابن خفاجة

أبو إسحاق: إبراهيم بن أبي الفتح بن عبد الله بن خفاجة الأندلسي، شاعرٌ ذائعُ الصيت، وُلِدَ سنة أربعمائة وخمسين من الهجرة، ببلدة تُسمى شُقر، وهي بلدة جميلة من بلاد الأندلس، ذات طبيعة آسرة؛ حيث كان يلتفُّ حولها نهرٌ جميلٌ، وتحفُّ بها الحدائق الفيحاء، والبساتين الناضرة. والفترة التي عاش فيها هي عصر ملوك الطوائف، ودولة المرابطين من بعدهم، وكانت حياته حياة مترفة؛ إذ كان يملك ضيعة تُدرُّ عليه مالًا وفيرًا يعيش منه، وكان صاحب مكانة مرموقة، وتقدير من معاصريه.

ويدور شعره حول الوصف، والمدح، والغزل، والرثاء، ولكن تصوير الطبيعة الفاتنة يغلب عليه، ويمتدُّ إلى سائر الأغراض، وكان ابن خفاجة يفتتح قصائده في الأغراض المختلفة بوصف الطبيعة؛ مخالفًا بذلك ما اعتاد الشعراء عليه من افتتاح قصائدهم بالأطلال، أو الغزل، أو النسيب.

وقد برع ابن خفاجة في هذا الفنِّ، وهو وصف الطبيعة، ويمتاز شعره في هذا الفن بعدَّة سمات منها: الملاحظة المتأنية العميقة، وخصوبة الخيال، ووفرة الصور، والميل إلى التحليل والاستقصاء، وتسجيل جزئيات الصورة، وقد فضَّله النُّقاد القدماء والمحدثون على غيره من الشعراء في هذا المجال، والذي يميزه عن غيره أنه في بعض شعره في هذا الوصف يميل إلى التأمُّل، واستنطاق الأشياء التي يصفها، ويستخرج العبرة، ويستنتجها؛ فلا يتوقف وصفه عند السطح أو القشرة، بل يغوص إلى الأعماق، وخيرُ شاهد على هذه السمات قصيدته في وصف الجبل، والتي يقول فيها:

وأرعن طمَّاح الذؤابة باذخ

*يطاول أعنان السماء بغارب

يسدُّ مهب الريح عن كل وجهة

*ويزحم ليلًا شُهبه بالمناكب

وقور على ظهر الفلاة كأنه

*طوال الليالي مطرق في العواقب

يلوث عليه الغيم سود عمائم

*لها من وميض البرق حمر ذوائب

أصخت إليه وهو أخرس صامت

*فحدثني ليل السرى بالعجائب

وقال ألا كم كنت ملجأ فاتك

*وموطن أوَّاه تبتَّل تائب

وكم مرَّ بي من مدلج ومئوِّب

*وقال بظلي من مطيٍّ وراكب

ولاطم من نُكب الرياح معاطفي

*وزاحم من خُضر البحار جوانبي

فما كان إلا أن طوتهم يد الرَّدَى

*وطارت بهم ريح النوى والنوائب

فما خفقُ أيك غير رجفة أضلع

*ولا نوح غُرقي غير صرخة نادب

وما غيَّض السلوان دمعي وإنما

*نزفت دموعي في فراق الأصاحب

فحتى متى أبقى ويظعن صاحب

*أودِّع منه راحلًا غير آيب

وحتى متى أرعى الكواكب ساهرًا

*فمن طالع أخرى الليالي وغارب

فرحماك يا مولاي دعوة ضارعٍ

*يمدُّ إلى نُعماك راحة راغب

فأسمعني من وعظه كلَّ عبرة

*يترجمها عنه لسان التجارب

فسلَّى بما أبكى وسرَّى بما شجا

*وكان على ليل السرى خير صاحب

وقلت وقد نكَّبت عنه لطية

*سلام فإنا من مقيم وذاهب

الجبل في هذه القصيدة يتكلَّم يناجي الشاعر، ويبثه ما به، ويحكي ويقصُّ، ويُخبر عمن مرَّ به من الناس، وعمن لَاذَ به من المسافرين، وعمن طوتهم يد الردى، وطارت بهم ريح الفناء، ويتحدث الجبل متسائلًا على لسان الشاعر فيقول: “فحتى متى أبقى ويظعن صاحب”، حتى متى أستمر في مكاني لا أبرح، والناس الذين يمرُّون عليَّ لا يُقيمون -يرحلون- حتى متى أبقى، “وحتى متى أرعى الكواكب ساهرًا؟” هذا التساؤل الذي يُنطق به الشاعر هذا الجبل يدل على أن الشاعر اندمج في الطبيعة، وأراد أن يجعل من هذه الطبيعة طريقًا إلى تأمُّلاته في الكون، وفي أحوال الحياة. من هنا كان تميُّز ابن خفاجة الأندلسي في وصف الطبيعة، وتفوُّقه على غيره من الشعراء.

يُعلق الدكتور جلال حجازي على هذه القصيدة، ويُشيد بالحضور العاطفي المتدفق، بل المتوهج فيها، ويذكر أن هذا الحضور العاطفي مكَّن الشاعر من أن ينفخ روحًا قوية في جسم هذا الجبل الهامد، وهيكله الخامد؛ فإذا به يرتعش رعشة الحياة، وتدبُّ فيه الروح، وترقد الدماء في عروق الصخر الأصم، فينطق لسانه وهو الأخرس الصامت، وينبض قلبه وهو الجماد الساكن؛ ليصبح في النهاية بشرًا سويًّا حيًّا عاقلًا، ثاقب الذهن، طويل التفكير، عجيب الحديث، ولا يكتفي الشاعر لجبله بهذا الذي منحه له، بل أراده إنسانًا مهيبًا وقورًا قويًّا، إذا تحدث أصاخ له من سواه، وإذا تحرك تجمدت لحركته أطراف من عداه.

فكيف صوَّره له فنه، وماذا فعل به؟ صوره باذخًا أشمَّ تطمح ذوائبه في الفضاء، ويطاول بأعاليه أنحاء السماء، وجعله ضخمًا لا حد لضخامته، سامقًا لا غاية لسموقه يصدُّ وفود الريح من حيث هبت، ويزحم بمناكبه النجوم مهما صعَّدت وارتفعت، كما جعله جليلًا مهيبًا جاثمًا على ظهر الفلاة لا يتزعزع لعاصفة، ولا يضطرب لراجفة، كأنما يفكِّر في مصاير البشر وخواتيم الحياة، وأراد الشاعر أن يزيده جلالًا ومهابة؛ فعصب جبينه العريض بعمامة سوداء، نسجها له من الغيم، وجعل ذوائبها حمرًا من ومضات البرق الخاطفة، فيا لها من عمامة عجيبة على هامة أشدَّ عجبًا!.

هذه في الحقيقة هي الصورة الظاهرية التي رسمها الشاعر للجبل، وهي صورة فخمة ضخمة مهيبة بلا شك، لكن الشاعر بعد ذلك أكمل تعاطفه مع هذا الجبل واندماجه فيه عن طريق التأمُّل النفسي، وإنطاق الجبل بالحكمة -حكمة الزمن- التي أراد الشاعر أن يُودعها قصيدته، وقد كانت تجاربه الفكرية، والنفسية اكتملت؛ إذ إن هذه القصيدة قالها الشاعر في مرحلة متأخِّرة من عمره، وهي مرحلة التأمُّل، ومرحلة الخبرة، ومرحلة النضج الفكري والنفسي.

ولذلك وجدنا الشاعر يشخِّص هذا الجبل، فيجعله إنسانًا من لحم ودم تخفق جوانحه بأنسام الحياة، وينبض قلبه بحرارة العواطف، ويفيض عقله بصادق العبر والتجارب، وما كان ذلك كله إلا بفضل خيال الشاعر المحلق المبدع، الذي صوَّر هذا الجبل بتلك الصورة الإنسانية الكاملة، وجعله يتحدَّث هذا الحديث العجيب عن تجربته الطويلة، وهو مستقر في مكانه لا يبرحه، والناس يأتون عنده، ويمرون عليه، ويذهبون.

وينتقل ابن خفاجة بالجبل خطوة أخرى، فيجعله مشاركًا له في همومه وأحزانه، وينطقه بالعبرة التي تريح القلب، وتطمئن النفس، هذه العبرة المتمثلة في أن طريق الحياة لا بد له من نهاية، ويشيد ابن خفاجة بما تعلمه من الجبل، ويعترف به؛ فيقول:

فأسمعني من وعظه كل عبرة

*يترجمها عنه لسان التجارب

فسلَّى بما أبكى وسرَّ بما شجا

*…. …. …. ….

يعني: هذه العبرة المتأملة التي استخلصها الشاعر من الجبل سلته، وأذهبت عنه همه، وكان هذا الجبل -كما قال- خير صاحب، وقلت وقد تركته وودَّعته وذهبت عنه.

…. …. …. ….

*سلام فإنا من مقيم وذاهب

هكذا الحياة مقيم وذاهب، هذه هي العبرة التي استخلصها الشاعر من الجبل.

أرأيت إلى أي حدٍّ يُمكن أن يتعاطف الشعر مع الأشياء الجامدة الهامدة، وإلى أي حدٍّ يمكن أن يتخيل الشاعر، وإلى أي آفاق يذهب عندها هذا الخيال؛ حتى يصوِّر الجامد شخصًا يُحسُّ، ويفكر، ويتدبر، ويتأمل، ويحنّ، ويئنّ، ويشكو. هكذا صور لنا ابن خفاجة الجبل في هذه القصيدة الرائعة.

error: النص محمي !!