Top
Image Alt

ابن دراج القسطلي

  /  ابن دراج القسطلي

ابن دراج القسطلي

اسمه: أحمد، وكنيته: أبو عمر، ولقبه القسطلي نسبة إلى بلدة تُسمى قسطلة في غرب الأندلس، وُلِدَ ابن دراج القسطلي سنة ثلاثمائة وسبع وأربعين من الهجرة، في بيت ذي مكانة من بيوت قسطلة؛ فالبلدة نُسبت إلى الجد الأعلى للأسرة فقيل لها قسطلة دراج، فإذًا هو من أسرة شريفة، وأسرته هذه كانت ذات أصول بربرية تنتمي إلى قبيلة صنهاجه، وكانت هذه القبيلة ممَّن دخل إلى الأندلس في فترة الفتح من البربر الذين كان يتكوَّن جيش طارق بن زياد من عدد كبير منهم، ثم اندمجت هذه الأصول في البيئة الأندلسية، وامتزجت بالعناصر البشرية الأخرى التي كوَّنت هذا المجتمع من عرب، وأسبان، وغيرهم من العناصر البشرية التي كانت موجودة في الأندلس، قبل أن يصل إليها العرب.

ويقول المؤرخون لحياته: إنه لا يُعرف شيءٌ عن نشأته الأولى، وشعره ينتمي إلى الاتجاه المحافظ المجدِّد في الشعر، وآثار الشعر العربي القديم واضحة في شعره، ويبدو أنه تتلمذ على شعر أبي الطيب المتنبي من شعراء المشرق، وعلى شعر ابن هانئ الأندلسي أيضًا.

ويذكرون أنه كانت صلته بالمنصور بن أبي عامر صلة قوية؛ فقد قَدِمَ إلى قرطبة وتألَّق بها في عهد المنصور، وقال ابن دراج: الشعر في أكثر الأغراض المعروفة للشعر العربي، وكانت له منزلةٌ كبيرةٌ في بلاط المنصور، وضُمَّ هذا الشاعر إلى ديوان الإنشاء؛ لتمكنه من صناعة النثر إلى جانب تمكنه من الشعر، وما زال نجمه يصعد حتى أصبح من كبار شعراء المنصور إن لم يكن أكبرهم جميعًا، وهو من كبار شعراء الأندلس بلا شك.

ويُعَدُّ ابن دراج من أغزر الشعراء الأندلسيين بل من أكثر شعراء العربية نتاجًا؛ فقد ترك ديوانًا ضخمًا أكثره من القصائد الطوال. وموضوع المدح أو غرض المدح هو الغالب على قصائد ديوانه وإن كان يمزج في القصيدة الواحدة بين المدح وغيره من الأغراض، ويُعلِّلون غلبة المدح على شعره بأنه بَدَأَ حياته الشعرية وختمها شاعرًا رسميًّا، يعمل في خدمة الحكام والأمراء، والرؤساء؛ فهذه الوظيفة الرسمية وقربه من هؤلاء الرؤساء جعل شعره يميل إلى المدح.

وقد كان لنشأته المترفة في بيت من البيوت الشريفة أثرٌ في اتجاهه إلى المديح أيضًًا؛ لأنه بعد زوال مجد أسرته يُمكن أن تكون متطلَّبات الحياة ألجأته إلى أن يتكسَّب بشعره عن طريق المدح؛ لينال منه ما يسدُّ حاجته وحاجات مَن يعول.

ومن الأغراض التي تلفت النظر في شعر ابن دراج: وصفه لمواقف الوداع وفراق الأهل، ووصفه للأسفار ومشاقّ الرحلة في البر والبحر، وبالنهار والليل، والتعبير عن تجارب القلق والغربة والضياع، والإحساس بقسوة الأيام على الأبناء، ومن هذا التنوع في أغراضه أيضًا وصفه للمعارك الحربية، ومشاهد الجيوش، والآلات العسكرية في البر والبحر، وفي شعره حديثٌ كثيرٌ عن وداعه لزوجته وأولاده، من ذلك قوله في مطلع قصيدة يمدح بها المنصور بن أبي عامر، يقول مخاطبًا زوجته:

دَعِي عَزَماتِ المستضامِ تسيرُ

*فَتُنْجِدُ فِي عرْضِ الفَلا وتَغُورُ

لعلَّ بما أَشجاكِ من لوعةِ

*النَّوى يعَزُّ ذليلٌ أَوْ يُفَكُّ أَسيرُ

أَلَمْ تعلَمِي أَن الثَّواءَ هو التَّوى

*وأَنَّ بيوتَ العاجِزينَ قُبورُ

ثم يقول:

ولَمَّا تدانَتْ للوداعِ وَقَدْ هَفا

*بصَبْرِيَ منها أَنَّةٌ وزَفيرُ

تُناشِدُني عَهْدَ المَوَدَّةِ والهَوى

*وَفِي المَهْدِ مبغومُ النِّداءِ صَغيرُ

عِيِيٌّ بمرجوعِ الخطابِ ولَحْظُهُ

*بمَوْقِعِ أَهواءِ النفوسِ خَبيرُ

تبوَّأَ ممنوعَ القلوبِ ومُهِّدَتْ

*لَهُ أَذرُعٌ محفوفَةٌ ونُحُورُ

فكلُّ مُفَدَّاةِ الترائِبِ مُرْضِعٌ

*وكلُّ مُحَيَّاةِ المحاسِنِ ظِيرُ

عَصَيْتُ شفيعَ النفس فِيهِ وقادَنِي

*رَوَاحٌ لِتَدْآبَ السُّرى وبُكُورُ

وطارَ جَناحُ الشَّوْقِ بِي وَهَفَتْ

*بِهَا جوانِحُ من ذُعْرِ الفِراقِ تطيرُ

ففي هذه الأبيات يصف مشهد وداعه لزوجته، وتعلُّق طفل صغير به، وعزمه على الرحيل، ورحيله من أجل أن يحصل على المال الذي يُمكن أن يساعد به المحتاج، أو أن يفكَّ به الأسير؛ مقنعًا بهذه الغايات النبيلة زوجته لتوافق وترضى بأن يتركها، ويرحل.

ويتعلق بهذا الشعر -شعر الرحلة- عند ابن دراج، شعر الحنين إلى أولاده والقلق عليهم، فهذا الشاعر كان مهمومًا جدًّا بأحوال أسرته، وكان كثير الحديث عن قلقه وسوء حاله بسبب ما كان يمرُّ بالأندلس من الظروف العامة، وما يُعانيه هو من بعض الظروف الخاصة؛ لأنه ذلَّ بعد عزٍّ كما يقال، واحتاج بعد غنًى؛ لأننا قدمنا أنه كان من أسرة شريفة لكن هذه الأسرة الشريفة كان مجدها قد ذهب، واضطر أن يقصد الكبار ليمدحهم بشعره؛ ليتحصَّل منهم على العطايا والجوائز التي تُساعده على ما يتحمَّله من نفقات على نفسه وأولاده، ولكنه مع ذلك كان شديد الحساسية لبعض ما يُحاك له من الخصوم والحُسَّاد، ويصف إحساسه بمثل هذه الأمور في هذه الأبيات التي يقول فيها:

أُقرُّ عيونَ الشامِتينَ ولَيتَنِي

*أُبَرِّدُ مَا تطوي الضلوع من الغِلِّ

أَمُرُّ بِهِمْ أَلقى الثَّرى وكأنَّمَا

*فؤادِيَ من أحداقِهِمْ غَرَضُ النَّبلِ

إِذا الأَسد الضِّرغامُ أَنْفَذَ مقتَلي

*فما فَزَعِي إِلّا إِلَى الأَرْقَمِ الصّلِّ

وإِن ذابَ حُرُّ الوجْهِ من حَرِّ نارِهِمْ

*فما مُسْتَغَاثِي منهُ إِلّا إِلَى المُهْلِ

ومن شيمة الماء القراح إذا صفا

*إذا اضطرمت من تحته النار أن يغلي

فهو يصف ما يكابده في نفسه من الغلِّ والحزن والضيق بهؤلاء الحسَّاد؛ فيشبِّه ما يفعلون به بفعل الأسد الضرغام مرة، وبفعل الأرقم -وهو الثعبان- مرة أخرى. ويشكو ابن دراج حاله وتحسُّره فيقول في أبيات أخرى:

وَكَانَ ضَياعِي حَسْرَةً وَتَنَدُّمًا

*إذَا لَمْ يُفِدْ شَيْئًا وَلَمْ يُغْنِنِي شَيَّا

وأَصْبَحْتُ فِي دارِ الغِنى عَنْ ذَوِي الغِنى*وعُوِّضْتُ فاسْتَقْبَلْتُ أَسْعَدَ يَوْمَيَّا

سِوى حَسْرَتَيْ عرضٍ وَوَجْهٍ تَضَعْضَعَا

*لقارِعَةِ البَلْوى وَكَانَا عَتَادَيَّا

ولِلسَّتْرِ والصَّبْرِ الجَمِيلِ تَأَخَّرَا

*فأَمَّهُمَا حِرْصِي وَكَانَا إِمامَيَّا

فيا عَبْرَتِي سُحِّي لَعَلِّي مُبَلِّلٌ

*بِبَحْرَيْكِ مَا أَنْزَفْتُ من مَاءِ عَيْنَيَّا

فهذه أبيات تقطر لوعة، وتفيض حسرة وتألمًا، وكان ابن دراج من أصحاب المنازل العليا في الأدب الأندلسي، والشعر الأندلسي؛ لما تميَّز به شعره من الناحية الفنية بخصائص.

من هذه الخصائص: ظهور ما يُسمَّى باللون المحلِّي، سمة اللون المحلي في شعره، والمقصود بذلك أن شعره واضح التأثُّر بطابع البيئة الأندلسية بشكل يدلُّ قارئه وسامعه على أن هذا الشاعر من أبناء الأندلس، فأثرُ البيئة المحلية واضحٌ جدًّا في شعره. وممَّا يدلُّ على ذلك أن في شعره كثير من أسماء البلاد الإسبانية التي اتَّصل بها المسلمون، خلال معاركهم مع النصارى، وهم يفتحون هذه البلاد، من ذلك مثلًا قوله:

وبَسَطتَ من قَشتِلَّةٍ يَدَ آمِنٍ

*لِرِضاكَ فِيهَا يارَقٌ وسِوارُ

وقوله:

وبيعَةُ شَنْتَ فروج أَوْرَيْتَ فَوْقَها

*سَنا لَهَبٍ فِيهِ لعَمْيانِها شَرْحُ

“فقشتِلَّة، وشنت فروج” اسمان لمدينتي، أو بلدين من بلاد الأندلس. وله أبيات أخرى يذكر فيها أسماء مدن أخرى.

وفي شعره كذلك استخدام لمعاني كلمات من اللاتينية المحلية، أو اللغة المحلية، أو أصل اللغة المحلية في بلاد الأندلس، فهو يذكر الكلمة من هذه الكلمات ويستخدم معناها اللاتيني استخدام العارف به، وفي شعره أيضًا يذكر ألفاظًا أندلسية خاصة، بعضها متسربٌ من اللهجة اللاتينية القديمة، من هذا مثلًا قوله:

وانصب مجانيقًا من النِّيم التي

*أحجارهنّ من الرواطم والنخب

يقولون: إن كلمة “نيم” في الشطر الأول هي جمع “نيمة”، وهي القنينة أو الزجاجة في استعمال الأندلسيين، وكلمة “الرواطم” في الشطر الثاني جمع “رطومة”، وتنطق أيضًا “رضومة”، وهي القنينة كذلك.

وفي شعره كذلك تأثر بالموقع الجغرافي للأندلس، وهي شبه جزيرة تُحيط بها المياه من ثلاث جهات؛ فذكره للسفن ووصفه للرحلة البحرية من آثار هذا التأثر بتلك البيئة المحلية.  ويتَّسم شعر ابن دراج كذلك بما أشرت إليه من قبل، وهو الإحساس الأسري، وذكره لأمر أسرته، وتعبيره عن قلقه على عياله، ووصفه لمواقف الوداع والفراق وهو مسافر.

ويتسم أيضًا هذا الشعر بما يُسمَّى التحليل المعنوي، فهو يذكر المعنى ويبسطه، ويتوسَّع فيه ويوضحه، فهو لا يُجمل، ولا يختصر، ولا يركز؛ بل يبسط ويشرح ولا يكتفي باللمحة السريعة، واللمسة العابرة.

وواضحٌ أيضًا من النماذج التي ذُكرت لهذا الشاعر أنه يهتمُّ بالوصف النفسي، فهو دائمًا يركز على إظهار ما يعتمل في نفسه، ويصف عواطفه تجاه المواقف المختلفة، وهو بعد ذلك شاعر يتمتع بثقافة تاريخية، وثقافة أدبية ولغوية واسعة.

بهذا كله احتلَّ ابن دراج القسطلي مكانة كبيرة في الشعر الأندلسي، وانتصر له النُّقاد ممَّن ذكر أن هذا الشاعر لم يكن شاعرًا فطريًّا يقول الشعر عن شعور صحيح، أو دافعٍ نفسي؛ وإنما هو مقلدٌ بارعُ التقليد، فهذه التهمة التي اتُّهم بها من قبل بعض الدارسين ليست صحيحةً على الإطلاق، وقد برَّأه كثير من الدارسين من هذه التهمة.

error: النص محمي !!