Top
Image Alt

ابن شُهَيْد

  /  ابن شُهَيْد

ابن شُهَيْد

اسمه: أحمد، وأبو عامر: كنيتُه، واسم أبيه: عبد الملك بن شهيد.

وُلِدَ أحمد بن شهيد في بيت أبيه بقرطبة سنة ثلاثمائة واثنتين وثمانين من الهجرة أيام المنصور بن أبي عامر، وقد نشأ في أحضان النعمة وتربى على مهاد الجاه؛ فقد كان البيت الذي ينتمي إليه بيتَ ثراء ونفوذ وسلطان، وكانت صلة هذا البيت ببيت الحاجب -وليِّ الأمر الفعلي، والحاجب كان صاحب وظيفة قريبة من السلطان، والذي يُدخِل عليه الناس أو يمنعهم من الدخول- في ذلك الوقت قوية؛ فسمح ذلك لهذا الصغير أحمد بن شهيد أن يلهوَ بين يدي المنصور الخليفة، وأن يُحمل على أكتاف ابنه عبد الرحمن، وأن يجلس على سرير زوجة الحاجب وينال الكثير من التدليل والعطف والهدايا.

وهكذا كانت هذه النشأة التي نشأها فيها كثيرٌ من التدليل والترف والنعمة؛ ولذلك لم يُؤخذ بالجد في التعليم، ولم يُحمل -في صرامة- على الدرس، ولم يُقبِل على ما كان يقبل عليه كثيرٌ من المعاصرين بحفظ العلوم القرآنية واللغوية المختلفة؛ كالحديث، والتفسير، والفقه، وانشغل بما يناسب طبعه من الأدب، والشعر، والكتابة؛ ولذلك كان له ميلٌ إلى الشعر؛ فعُرِفَ به، وإلى الكتابة فنبغ فيها.

ومن أهم ما تركه ابن شُهَيْد -بالإضافة إلى شعره- رسالة تسمى (التوابع والزوابع)، وهي قصة خيالية يحكي فيها ابن شُهَيْد رحلة في عالم الجن، اتصل خلالها بشياطين الشعراء وناقشهم وأنشدهم وأنشدوه، وعرض أثناء ذلك بعض آرائه في الأدب واللغة وكثيرًا من نماذج شعره ونثره؛ كما نقد خصومه ودافع عن فنه، وانتزع من ملهمي الشعراء والكتَّاب الأقدمين -الذين يسمون شياطين الشعر- شهادات بتفوقه وعلو كعبه في الأدب، كل هذا مع كثير من بث الفكاهات ونثر الطرائف وإيراد الدعابات.

وقد اختار ابن شُهَيْد لرسالته اسم (التوابع والزوابع)؛ لأنه جعل مسرحها عالم الجن، واتخذ كل أبطالها -فيما عداه- من الشياطين؛ فالتوابع جمع تابع أو تابعة، وهو الجن أو الجنية يكونان مع الإنسان يتبعانه حيث ذهب، والزوابع: جمع زوبعة، وهو اسم شيطان أو رئيس للجن.

وقد وجه ابن شُهَيْد رسالته إلى شخص كناه بأبي بكر، وقدم في أول رسالته بما يشبه المدخل إلى القصة؛ فذكر عن نفسه كيف تعلم ونبغ، وكيف تعجب صاحبه أبو بكر من عبقريته، وأقسم أن تابعة تنجده -تابعة يعني: شيطانه من الشياطين التي تقول الشعر على لسانه- وزابعة -تؤيده شيطانة كبيرة أخرى- لأن ما يأتي به من أدب ليس في قدرة الإنس.

ثم أقر ابن شُهَيْد أبا بكر على تفسيره؛ فبيَّن أنه كان يرثي حبيبًا له قد مات؛ فأرتج عليه أثناء النظم، وعجز عن تكميل ما هو بسبيله من شعر، وإذا بجنِّيٍّ اسمه زهير بن نمير يتصور له على هيئة فارس، ويلقي إليه بتتمة الشعر حبًّا في اصطفائه ورغبة في مصاحبته؛ كما صاحب التوابع الشعراء، ثم ذكر له هذا الجني أبياتًا يستحضره بإنشادها متى أراد، وأوثب بعد ذلك فرسه جدار الحائط وغاب، ويذكر ابن شُهَيْد لأبي بكر أنه كان كلما أُرتج عليه أنشد الأبيات؛ فيتمثل له صاحبه الجني زهير بن نمير؛ فيعين قريحته، ويُنطِق لسانه حتى تأكدت الصحبة بينهما.

بعد ذلك التمهيد ينتقل ابن شُهَيْد إلى صلب القصة، فيذكر أنه تذاكر يومًا مع تابعه هذا؛ فتناولا أخبار الشعراء والخطباء وأصحابهم من التوابع والزوابع، وسأل ابن شُهَيْد صاحبه قائلًا: هل من حيلة إلى لقاء مَن اتفق منهم؟ فقال له زهير: حتى أستأذن شيخنا. فطار ثم عاد وقد أذن له؛ فقال لابن شُهَيْد: حُلّ على متن الجواد؛ فسار ابن شُهَيْد مع تابعه عليه، ثم سار بهما -أي: هذا الجواد- كالطائر، يجتاب الجو فالجو، ويقطع الدوّ فالدوّ؛ حتى أتى أرض الجن، وهناك طاف به تابعه على صاحب امرئ القيس، وصاحب طرفة، وصاحب قيس بن الخطيب من الجاهليين، ثم على صاحب أبي تمام، وصاحب البحتري، وصاحب أبي نواس، وصاحب أبي الطيب من الإسلاميين، وابن شُهَيْد في كل لقاء يصور الجو الذي لقي فيه تابعة الشاعر، ويرسم التابعة نفسه بكثير من الملامح التي عُرِف بها الشاعر في الحياة، ثم يسمع من هذا التابعة وينشده وينال آخر الأمر إعجابه.

ثم يذكر ابن شُهَيْد أنه طلب من تابعه زهير بن نمير أن يلقى به توابع الكتاب -وهو يسميهم الخطباء، ويحكي أن زهيرًا سار بهم إلى هؤلاء التوابع، وقد اجتمعوا للمذاكرة ببعض المروج، وفيهم تابعة الجاحظ، وتابعة عبد الحميد، وقدَّم زهيرُ ابنَ شهيد إلى صاحب الجاحظ الذي شهد له؛ ولكنه أخذ عليه كلفه بالسجع، وقد دافع ابن شُهَيْد عن نفسه بما حمل صاحب عبد الحميد على التدخل في النقاش، وكان يتَّهم ابن شُهَيْد أيضًا؛ ولكن ابن شُهَيْد ناظره وصمد له حتى رضي عنه الصاحبان وسألاه أن يقرأ لهما بعض رسائله؛ فلما قرأ استحسنا كتابته وتبسَّطا معه، وهنا شكا لهما حساده من الأندلسيين؛ حتى وصل إلى أبي القاسم الإفليلي -وكان لغويًّا يكثر من نقد ابن شُهَيْد- فناديا تابعته فتصدى لابن شُهَيْد بالنقد والتجريح؛ ولكن ابن شُهَيْد أخرسه وأبطل كل أقواله، ثم تدخل صاحب بديع الزمان؛ فعارضه ابن شُهَيْد بقطعة له في وصف الماء؛ فأفحمه وأخجله، وحينئذ أجازه صاحبا الجاحظ وعبد الحميد وأقرَّا بتفوقه.

يتخيل أبو عامر بن شهيد نفسه مع الجان في مجلس أدب يقرأ عليهم ويعرف آراءه فيما عنده ويناقشونه في بعض المآخذ التي يأخذونها على أسلوبه، ويشكُوا إليهم أن الأندلسيين معاصريه لم ينصفوه ولم ينزلوه المكانة التي يستحقها، ويلقى التوابع للشعراء الأقدمين؛ كامرئ القيس، وطرفة، وهذا -بالطبع- نوعٌ من الخيال الذي جعل ابن شُهَيْد يخترع هذا النمط من القصص.

وهذا الذي قرأته في وصف هذه الرحلة هو ما كتبه الدكتور أحمد هيكل في كتابه (الأدب الأندلسي)، وهذه الرسالة المسماة بـ(التوابع والزوابع) تشبه في أسلوبها إلى حد كبير (رسالة الغفران) لأبي العلاء المعري؛ فكلتا الرسالتين تتخيل بيئةً ومسرحًا لأحداثها، وتتخذ من الرحلة الخيالية إطارًا لعرض الآراء الأدبية والقضايا التي حاول كلٌّ منهما أن يعرضها إلا أن ابن شُهَيْد اختار عالم الجن مسرحًا لرحلته؛ أما أبو العلاء فقد اختار العالم الآخر مسرحًا لرحلته.

وإذا كانت رسالة ابن شُهَيْد سبقت رسالة أبي العلاء -على التحقيق- بنحو تسعة أعوام؛ كما يذكر الدكتور أحمد هيكل- فيمكن أن يكون أبو العلاء قد تأثر بابن شُهَيْد صاحب (التوابع والزوابع) في الرسالة التي كتبها أبو العلاء، والتي هي (رسالة الغفران).

والتأثر يكون في هذا المسلك الخيالي الذي جعل كل منهما مسرحه المتخيَّل إطارًا لرسالته يعرض من خلاله -كما قلت- الآراء الأدبية والنقدية المختلفة.

أما أسلوب ابن شُهَيْد في رسالته (التوابع والزوابع)؛ فهو متأثرٌ بطريقة الجاحظ، ثم بطريقة ابن العميد، ومتأثرٌ كذلك بطريقة بديع الزمان، وهذه الطريقة تميل إلى توشية الأسلوب بالمحسنات المجتلبة وخاصة السجع، وتهتم كثيرًا بالوصف، وهذا الجزء الذي نأخذه من الرسالة يدل على هذه السمات.

فابن شُهَيْد يصف لقاءه بتابعة أبي نواس في دنيا الجن فيقول:

“فضرب زهير -زهير: هو الجني الذي أصبح تابعة لابن شُهَيْد، وهو الذي أخذه إلى هذه الرحلة، في خياله وفي رسالته- فضرب زهير الأدهم بالسوط -والأدهم: الجواد الذي كان يركبانه في خياله – فسار بنا في قُننِه -والقُنن الطريق: هو سننه ونهجه- وسرنا حتى انتهينا إلى أصل جبل دَيْر حِنة؛ فشق سمعي قرعُ النواقيس؛ فصحت: من منازل أبي نواس -ورب الكعبة العليا- وسِرنا نجتاب أديارًا وكنائس وحانات، حتى انتهينا إلى ديرٍ عظيمٍ تَعبق روائحه، وتَصوكُ نوافِحه.

فوقف زهير ببابه وصاح: سلامٌ على أهل دير حَنّة! فقلتُ لزهير: أوَ هل صِرنا بذات الأُكَيراح؟ قال: نعم. وأقبلتْ نحونا الرَّهابين، مُشدّدة بالزنانير، قد قبضتْ على العَكاكيز، بِيض الحواجب واللحى، إذا نظروا إلى المرء استحيا، مُكثِرين للتسبيح، عليهم هَدْيُ المسيح. فقالوا: أهلًا بكَ يا زهير من زائر، وبصاحبك أبي عامر! ما بُغيتُك؟ قال: حسين الدِّنان. قالوا: إنه لفي شُرب الخمرة، منذ أيام عشرة، وما نُراكما منتفعين به. فقال: وعلى ذلك. ونزلنا وجاءوا بنا إلى بيتٍ قد اصطفّت دِنانه، وعكفتْ غِزلانُه، وفي فُرجته شيخٌ طويل الوجه والسَّبَلة، قد افترش أضغاث زَهر، واتّكأ على زِقّ خمر، وبيده طرْجهارة، وحواليه صِبيةٌ كأظْبٍ تَعطو إلى عَرارة…

والأُكَيراح: تصغير أكراح، وأكراح جمع كرح -بالكسر- وهي لفظة سريانية بالأصل معناها: الكوخ الصغير يكون قرب الدير، واللفظة وردت في شعر أبي نواس، والسَّبْلة: ما على الشارب من شعر. والطرْجهارة: إناء للشرب، وتعطو: أي ترفع رأسها، والعرار: نبات ناعم أصفر طيب الريح، والأظب: جمع ظبي، أي: الظباء.

فصاح زهير: حياك الله -أبا الإحسان. فجاوب بجواب لا يُعقَل لغلبة الخمر عليه؛ فقال لي زهير: اقرع إذًا نشوته بإحدى خمرياتك؛ فإنه ربما تنبَّه لبعض ذلك. فصِحْت أنشد من كلمة طويلة…”.

ويذكر ابن شُهَيْد أبياتًا له في الخمر، ويذكر بعد ذلك أن أبا نواس صاح معجبًا بها.

هذا نموذج من رسالة أبي شهيد (التوابع والزوابع).

error: النص محمي !!