ابن عبد ربه
أبو عمر: أحمد بن محمد عبد ربه، كان جدُّه الرابع مولى هشام بن عبد الرحمن الداخل، وُلِدَ ابنُ عبد ربِّه في قرطبةَ على الأرجح، وكان مولده سنة مائتين وست وأربعين من الهجرة، ونشأ بالعاصمة الأندلسية متلقيًا علوم الإسلام والعربية على كبار العلماء الأندلسيين في ذلك الوقت، ثم اهتمَّ اهتمامًا خاصًّا بكتب التاريخ والأدب، ودواوين الشعر التي وصلت إليها يده، من دواوين شعراء المشرق، ومن دواوين شعراء المغرب والأندلس.
وقد كان إلى كونه شاعرًا كاتبًا ومؤلفًا، وهو صاحبُ الكتاب المشهور بـ(العقد الفريد) في الأخبار والأدب، وابن عبد ربه من الشعراء الذين امتدَّت بهم آجالهم، وكان من ألمع شعراء فترة الخلافة أيام عبد الرحمن الناصر، وقد وافته منيَّته بعد حياة حافلة بالأدب شعرًا ونثرًا سنة ثلاثمائة وثمانٍ وعشرين من الهجرة، ودُفن بقرطبةَ بعد أن عاش قريبًا من اثنين وثمانين عامًا.
ويبدو من شعره وممن ترجموا له وجمعوا أخباره أنه كان في شبابه محبًّا للمتعة في شيء من التحرُّر، مقبلًا على أنماطٍ من اللهو يُمتِّع نفسه بالطرب والسماع، وقضاء الوقت على ما تهوى نفسه.
ومن شعره في شبابه الذي يصوِّر هذا المسلك قوله في بعض أبياته:
بزمام الهوى أمتُّ إليه | * | وبحكم العقار أقضي عليه |
بأبي من زها عليَّ بوجهٍ | * | كاد يدمى لما نظرت إليه |
وشعره لا يلتزم اتجاهًا واحدًا من الاتجاهات التي كانت معروفةً في عهده، وهي الاتجاه المحافظ أو الاتجاه المحدث، فشعره يسير أحيانًا على هذا النمط، وأحيانًا أخرى على ذلك النمط، ولكن هذا لا يُفقده شخصيته الفنيَّة، فهو أيضًا يتمتَّعُ بسمات تجعل شعره ذا شخصية محددة.
ولأن عمره امتدَّ فقد عاصر مدارسَ عدَّة من مدارس الشعر، وشاهد اتجاهات مختلفة، وهو كان محبًّا للقراءة، مكثرًا من تتبع الأساليب؛ ولذلك كانت حصيلتُه الأدبية غنيَّةً، وثقافتُه موسوعيةً، وتجربتُه بالشعر وبالنثر وبالتأليف وبالناس وبالأخبار تجربةً كبيرةً.
وقد رحل ابنُ عبد ربه إلى المشرق، وظهرت آثار هذه الرحلة في ما كتبه في كتابه (العقد الفريد)، حينما تكلم عن الأماكن المقدسة، ووصف المسجد الحرام، والكعبة، والحجر الأسود، والمسجد النبوي إلى غير ذلك من المشاهد التي وصفها، وكان مع ذلك مطبوعًا على الشعر؛ ولذلك يمتاز شعره بسمتين، كما يذكر الدكتور أحمد هيكل يقول: إن شعر ابن عبد ربه يتَّسم بسمتين واضحتين هما: البساطة، والغنائية؛ فأكثر شعره تتضح فيه بساطة الفكرة، فهو يخلو من التعقيد، والتركيب، والتفلسف، وأكثر شعره أيضًا تبدو فيه الصور البيانية أو التخييلية بسيطةً، يسهلُ إدراكها، وتكونُ قريبة من الفهم ومن الذوق. وألفاظه كذلك جلية واضحة؛ بحيث لا تحتاج في أغلب الأحيان إلى تفسير، وأيضًا أسلوبه سهلٌ.
وقد قال ابن عبد ربه الشعر في أغراضٍ متنوعة، فهو يصفُ انتصارات الأمراء الذين كان قريبًا منهم، ويصفُ البيئة الأندلسية، ويصفُ تجارب حياته في مرحلة شبابه، ويصفُ تجارب حياته في المرحلة الأخيرة منها؛ لأنه في المرحلة الأخيرة من حياته تزهَّد، وقال الشعر في الزهد بعد أن تاب وأقلع عمَّا كان يبدر منه في مرحلة الشباب.
وممَّا يدل على سمة الوضوح في شعره هذه الأبيات التي قالها يصف فيها بعض الانتصارات يقول:
والفتح منظومٌ على إثره الفتح | * | وما فيهما عهد ولا فيهما صلح |
سوى أن صفحًا كان من بعد قدرة | * | وأحسن مقرون إلى قدرة صفحُ |
ويصف الجياد التي كانت تخوض الحرب فيقول:
ومغربة تَغْبَرُ في النقع قمتها | * | وتخضرُّ طورًا كلما بلها الرشحُ |
تراهن في نضح الدماء كأنما | * | كساها عقيقًا أحمرًا ذلك النضحُ |
تطير بلا ريش إلى كل صيحة | * | وتسبح في البر الذي ما به سبحُ |
عليها من الأبطال كل ممارس | * | يرى أن جدَّ الحرب من بأسه مزحُ |
يعدُّونه الأعداء كربًا عليهم | * | على أنه طلق لنا وجهه السمحُ |
فأنت تلاحظ أن هذه الأبيات واضحة المعاني، سهلة الألفاظ، قريبة الصور.
ومما يدل على السمة الثانية، وهي الغنائية، وهذه الغنائية تتمثَّل في غلبة الجانب الموسيقي، واتضاح العنصر العاطفي، وشيوع الرقة والسلاسة، وأكثر شعره يتَّسم بهذه السمات من هذا الشعر مثلًا قوله:
ودعتني بزفرة واعتناق | * | ثم قالت متى يكون التلاقِ |
وتصدت فأشرق الصبح منها | * | بين تلك الجيوب والأطواقِ |
يا سقيمَ الجفون من غير سقم | * | بين عينيك مصرع العشاقِ |
إن يومَ الفراقِ أفظعُ يومٍ | * | ليتني متُّ قبل يوم الفراقِ |
فأنت تُلاحظ هذه الموسيقية الواضحة في هذا الشعر الجميل، ومن ذلك أيضًا قوله:
الجسم في بلدٍ والروح في بلد | * | يا وحشة الروح بل يا غُربة الجسدِ |
إن تَبْكِ عيناك لي يا من كَلِفْتُ به | * | من رحمة فهما سهمان في كَبِدِ |
وهذه السمة الغنائية كانت مصدر حرارة شعرية في شعر ابن عبد ربه، ويقولون: إنه في آخر حياته كتب قصائد سمَّاها “المُمَحِّصَات”، وأراد بها أن تكون كل قصيدة منها تقابل قصيدة قالها في شبابه في الغزل، ووصف اللهو، وما كان يقترفه في تلك الفترة من شبابه، ويجعل كلَّ قصيدة من هذه الممحصات مقابلة لقصيدة من شعره الأول في الغزل، وغيره من فنون اللهو؛ راجيًا من الله سبحانه وتعالى أن تكون هذه الأشعار التي قالها مكفِّرات لما اقترفه من قبلُ، ومن هذه الممحصات قوله:
يا عاجزًا ليس يعفو حين يقتدر | * | ولا يقضَّى له من عيشه وطرُ |
عاين بقلبك إن العين غافلة | * | عن الحقيقة واعلم أنها سقرُ |
سوداء تزفر عن غيظ إذا سعرت | * | للظالمين فلا تُبقي ولا تذرُ |
إن الذين اشتروا دنيا بآخرة | * | وشقوة بنعيم ساء ما تَجرُ |
يا من تلهَّى وشيب الرأس يندبه | * | ماذا الذي بعد شيب الرأس تنتظرُ |
لو لم يكن لك غير الموت موعظة | * | لكان فيه عن اللذات مزدجرُ |
أنت المقول له ما قلت مبتدئًا | * | هلَّا ادَّكرت لبَيْن أنت مبتكرُ |
وفي هذا الشطر الأخير يشير إلى قطعة له مجموعة من الأبيات قالها في الغزل تبدأ بقوله:
هلَّا ابتكرت لبين أنت مبتكرُ | * | هيهات يأبى عليك الله والقدرُ |
فهو يذكر نفسه هنا بأن الله سيُحاسبه على ما قال من شعر في الغزل من قبلُ، ويرجو بذلك أن تُقبل توبته، وأن تكون هذه الأبيات التي يقولها في الزهد وفي التوبة مكفِّرات لما قال من شعر الغزل واللهو في صدر حياته.
وتاريخ الأدب الأندلسي يعرف لابن عبد ربه قيمته، ويعرف لشعره منزلته، وإن كان بعض الدارسين مثل الأستاذ أحمد ضيف قال عن شعره: إنه من قبيل الصناعة، وحبِّ الكلام الجميل؛ لأنه كان يميل إلى قول الشعر، ونظم الكلام، لا ممَّن خُلقوا شعراء.
والحقيقة أن النماذج التي وقفنا عليها تدلُّ على أنه كان شاعرًا مطبوعًا، وهذا الحكم فيه قسوةٌ على الشاعر.