Top
Image Alt

اتهام الصّحابة رضي الله عنهم بالكذِب على النبي صلى الله عليه وسلم

  /  اتهام الصّحابة رضي الله عنهم بالكذِب على النبي صلى الله عليه وسلم

اتهام الصّحابة رضي الله عنهم بالكذِب على النبي صلى الله عليه وسلم

لم يسلَم حتى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم مِن طعْن أعداء السُّنّة قديمًا وحديثًا، بل وُجِّهت إليهم سهام النّقد والثّلب، وهُم حمَلة السُّنّة ونقَلَة الآثار الأوائل. وليْته كان نقدًا هيِّنًا! -وإنْ كان نقْدُهم عظيمًا كلّه-؛ لكنه تجاوز كلّ ما يتوقّعه العقْل وما لا يتوقّعه، إلى اتّهامهم بالكذِب على رسول الله صلى الله عليه وسلم والدّسِّ في سُنّته ما ليس منها!!

وغرَض هؤلاء مِن ذلك ظاهر مكشوف، إذ يُريدون بذلك: هدْمَ الدِّين نفسه، وإبطال مصدريْه: “الكتاب والسنة”. وقد فطن لذلك: الإمام أبو زرعة الرازي -رحمه الله- قديمًا، فقال: “إذا رأيتَ الرّجل ينتقص أحدًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاعلمْ أنه زنديق؛ وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم حقّ، والقرآن حقّ، وإنما أدى إلينا هذا القرآنَ والسّننَ أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليُبْطلوا الكتاب والسّنّة. والجرْح بهم أوْلى، وهُمُ الزّنادقة”.

والعجب: أنّ الذين وقعوا في الكذب والوضع في الحديث حقيقة، مِن روافض، وخوارج، وقُصّاص، وغيرهم… سلموا من ثَلب هؤلاء الطاعنين -خصوصًا المستشرقين منهم-، ولم يَسْلَم منهم أتقى الأمّة، وأصْدق الأمّة، وأمناء الشريعة، وهم: صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم!!

قال (زيهر): “لا نستطيع أن نغزو الأحاديث الموضوعة للأجيال المتأخِّرة وحْدها، بل هناك أحاديث عليها طابع القِدم، وهذه إمّا قالها الرسول، أو هي مِن عمَل رجال الإسلام القُدامى”.

وقال: “وقد اعترف أنس بن مالك، الذي صاحَب الرسول عن قُرب عشر سنوات، عندما سُئل عمّا يحدِّث عن النبي هل حدَّثه به فعلًا؟، فقال: ليس كلّ ما حدّثنا به سمعناه عن النبي، ولكننا لا نُكذِّب بعضنا”.

وقال: “وإنّ معاوية قال للمغيرة بن شعبة: لا تهمل في أنْ تَسبّ عليًّا، وأن تطلب الرحمة لعثمان، وأنْ تَسبّ أصحاب عليّ وتضطهد من أحاديثهم، وعلى الضّدِّ مِن هذا: أن تمدح عثمان وأهله، وأنْ تقرِّبهم وتسمع إليهم!”.

الجواب على ذلك: إنّ عدالة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أمْر مقطوع به، غيْر قابل للجدل والنقاش، لأن الله تعالى قد عدَّلهم في قرآنه، وأثنى عليهم ومدَحهم في أكثر من آية، كقوله تعالى: {مّحَمّدٌ رّسُولُ اللّهِ وَالّذِينَ مَعَهُ أَشِدّآءُ عَلَى الْكُفّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكّعاً سُجّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مّنَ اللّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مّنْ أَثَرِ السّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىَ عَلَىَ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزّرّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفّارَ وَعَدَ اللّهُ الّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ مِنْهُم مّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الفتح: 29]، وقوله سبحانه: {وَالسّابِقُونَ الأوّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ وَالّذِينَ اتّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدّ لَهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 100]، وقوله سبحانه: {لَـَكِنِ الرّسُولُ وَالّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُوْلَـَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَـَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدّ اللّهُ لَهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 88، 89] والآيات كثيرة في ذلك.

كما عدّلهم رسولُه صلى الله عليه وسلم، وبيّن منزلتَهم التي لا تُدانيها منْزلة، فقال صلى الله عليه وسلم: ((خيْر النّاس: قرْني، ثم الذين يَلُونهم، ثمّ الذين يَلونهم)).

وقال صلى الله عليه وسلم: ((لاَ تَسُبُّوا أصحابي! فلو أنّ أحدَكم أنفَق مثْلَ أُحُدٍ ذهبًا ما بلَغ مُدّ أحدِهم ولا نصِيفه)). وقد أجمع أهل السُّنّة والجماعة على عدالتهم وفضْلهم وشرَفهم.

قال ابن عبد البَرّ -رحمه الله-: “قد كُفينا البحث عن أحوالهم، لإجماع أهل الحق من المسلمين -وهم أهل السّنّة والجماعة- على أنّهم كلّهم عُدول”.

وقال ابن الصلاح -رحمه الله-: “ثم إنّ الأمّة مُجمِعة على تعديل جميع الصحابة، ومَن لابَس الفتَن منهم فكذلك، بإجماع العلماء الذين يُعتدّ بهم في الإجماع، إحسانًا للظَّنِّ بهم، ونظرًا إلى ما تمهّد لهم من المآثر. وكأنّ الله سبحانه وتعالى أتاح الإجماع على ذلك، لكوْنهم نقَلَة الشريعة”.

وقد استحقّوا هذا التعديل، لِمَا قاموا به مِن دفاع عن الحقّ، وإعلاء للدِّين، وبذلوا في ذلك نفوسهم وأموالهم طاعة لله وانقيادًا له.

قال الخطيب -رحمه الله-: “على أنه لوْ لمْ يَرِد من الله عز وجل ورسوله فيهم شيءٌ ممّا ذكرناه، لأوجبت الحالُ التي كانوا عليها مِن الهجرة، والجهاد والنّصرة، وبذْل المُهج والأموال، وقتْل الآباء والأولاد، والمُناصحة في الدِّين، وقوّة الإيمان واليقين القطْعَ على عدالتهم، والاعتقادَ لنزاهتهم، وأنهم أفضل مِن جميع المعدَّلين والمُزَكَّيْن الذين يجيئون بعْدَهم أبَد الآبدين. هذا مذهب كافة العلماء، ومَن يُعتدّ بقوله من الفقهاء”.

وقد كانوا أفضَل هذه الأمّة بعد نبيِّها صلى الله عليه وسلم، اختصَّهم الله برفقة نبيّه، وحمَّلهم أمانة دِينه، لصِدْقِهم وأمانتهم وإخلاصهم، وتقواهم وورعِهم.

يقول ابن مسعود : “مَن كان منكم مُستَنًّا، فلْيَستَنّ بمَن قد مات؛ فإنّ الحيّ لا تُؤمَن عليه الفتنة. أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، كانوا أفضل هذه الأمّة، وأبرّها قلوبًا، وأعمقها علمًا، وأقلّها تكلّفًا. قوم اختارهم الله لصُحبة نبيِّه وإقامة دِينه؛ فاعرفوا لهُم فضلَهم، واتّبِعوهم في آثارهم، وتمسّكوا بما استطعتم مِن أخلاقهم ودينِهم، فإنّهم كانوا على الهدى المستقيم”.

فإذا تبيّن ذلك، فإنه لا يَتصوّر أحد في قلبه ذرّة من خيْر أنْ يُقدِم أحَد مِن الصحابة  على وضْع حديث، أو يَكْذِب على رسول الله صلى الله عليه وسلم مِن أجْل هدف رخيص، أو غاية هابطة؛ وهُم الذين سمعوا قوله صلى الله عليه وسلم: ((إنَّ كذِبًا عليَّ ليس ككَذِب على أحدٍ؛ فمن كذَب عليَّ متعمِّدًا فلْيتبوَّأْ مقعدَه مِن النّار!)).

ولا يُعقل أبدًا أنْ يخوض أحدُهم في الكذِب على رسول صلى الله عليه وسلم، فيُطفِئ ذلك النّور الذي أضاء قلبَه وروحَه؛ فإنّ حبّ الله ورسوله قد خالط قلوبَهم واستقرّ في سُوَيْدائها. فمحال، ثم محال: أن يقع منهم ذلك، وهم الذّابّون للكذب عنه، الباذلون دماءهم في سبيله!

قال عليّ: “إذا حدّثْتُكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلأَن أخرَّ من السماء أحبّ إليَّ مِن أن أكْذب عليه”. بل ما كانوا يتعاملون بالكذِب، ولا يعرفونه بينهم.

أخرج الحاكم، عن البراء، قال: “ليس كلّنا سمع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ كانت لنا ضيعة وأشغال، ولكنّ الناس كانوا لا يَكذبون، فيحدِّث الشّاهدُ الغائب”.

وعن قتادة: أنّ أنَسًا حدّث بحديث، فقال له رجل: “أسمعت هذا مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، أوْ حدّثني مَن لمْ يَكذِب. والله ما كنّا نكْذب، ولا كنا ندري ما الكذب”.

وما كانوا يَسكتون عن الباطل أبدًا، وقد عُرف مِن سيرتهم أنهم كانوا مِن الجرأة في الحق بمكان، وتغليبهم إيّاه على أقرب الأقربين وأصدق الأصدقاء، ويستحيل عليهم أن يسكتوا عن كذِب فيما بينهم، وهم الذين لا يسكتون عمّن يُخطئ في اجتهاد.

روى الذهبي: أن الحَجّاج خطَب فقال: “إن ابن الزّبير بدَّل كلام الله”. فقام ابن عمر فقال: “كذبْتَ! لم يكن ابن الزبير يستطيع أنْ يُبدِّل كلام الله، ولا أنت!”. قال: “إنك شيْخ قد خَرفتَ! اقعد!”.

قال: “أمَا إنك لو عُدْتَ عُدْتُ!”.

ولو وقع الكذب مِن أحدِهم -وحاشاهم-، لانْكَشف أمْرُه ووصل إلينا خبَرُه، كما نُقلت كثير من الأخبار، الجليل منها والدّقيق.

وقد يدّعي أحدٌ أنّ المنافقين كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يَبعد أحدُهم أن يكْذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يصطنع على لسانه مِن الأحاديث ما يشاء، ويبُثّه بيْن صفوف الصحابة، ولا يستحيل عليه ذلك وهو الذي لمْ يستقرّ الإيمان في قلبه.

ولكن يُجاب على هذا: بأنّ المنافقين كانوا معْروفين عند النبي صلى الله عليه وسلم بأعيانهم وأوصافهم، وعند الصحابة أيضًا.

قال كعب بن مالك ، وهو أحَد المُخلَّفين الثلاثة: “فطفقت إذا خرجت في الناس بعد خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم يحزنني أنْ لا أرى أُسْوة، إلاّ رجلًا مغموصًا عليه في النفاق، أو رجلًا ممّن عَذَر الله تعالى مِن الضعفاء”.

وكانوا قلّة منعزلِين عن الناس، ذليلين بينهم؛ ومع ذلك لم يرْوُوا شيئًا مِن حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يُنقل عنهم شيء في كُتب السُّنّة، ولم يأتِ حديث واحد عن رجل مشكوك فيه البتّة؛ وإنما جاءت الأحاديث عن الصحابة الأجلاّء المعروفين عند النبي صلى الله عليه وسلم وبقيّة الصحابة بالصِّدق والعدالة، وأمْرهم جليّ لا غموض فيه.

ولكنّ المستشرقين يكْذبون كما يكْذب الزنادقة مِن قبْل وأهل الأهواء، يريدون بذلك أنْ يُقوِّضوا صرْح هذا الإسلام، إذ الصحابة همُ الذين أبلغونا إيّاه؛ فإذا زالت الثّقة عنهم أصبح كلّ الذي بيْن أيدينا مشْكوكًا فيه.

يقول محمد أسد (ليوبولد فايس): “إنّ السبب الأوّل لوجود حديث مكذوب، إنما هو كذبة متعمَّدة ترجع إلى مصدره الأوّل، أي: إلى الصحابيّ أو إلى أحَد الرواة المتأخِّرين. -أمّا فيما يتعلّق بالصحابي، فيمكن صَرف التهمة عنه ابتداء-. وإننا لن نتكلّف سوى شيء مِن النّظر الثاقب في الناحية النفسانية، لنرُدَّ مثل هذه المزاعم إلى نطاق الوهْم الخالص.

إنّ الأثر العظيم الذي تركتْه شخصيةُ الرسول في أولئك الرجال إنّما هي حقيقة مِن أبرز حقائق التاريخ الإنسانيّ، ثم هي -فوق ذلك- ثابتة بالوثائق التاريخية. فهل يمر في خيالنا أنّ أولئك الرجال، الذين كانوا على استعداد لأنْ يُضحّوا بأنفسهم وما يَملكون في سبيل الله، كانوا يتلاعبون بكلماته؟

لقد قال الرسول: ((مَن كذَب عليَّ مُتعمِّدًا، فلْيتبوَّأْ مقعدَه مِن النّار!)).

لقد عرف الصحابة ذلك، ولقد اعتقدوا ضِمنًا بكلام الرسول الذي كانوا ينظرون إليه على أنه ينطق عن الله. أفمِن المُحتمَل من وجهة النظر النفسانية إذًا أن يفعلوا هذا النّهْي الصريح نفسه؟”.

هذا هو الإنصاف والعدْل، وليس الجوْر والظّلم الذي غطّى على عقْل (زيهر) وأمثاله، فالْتَوَت أقوالهم، وانحرفت عباراتهم. ونحن نطالب هذا المستشرق ومَن لفّ لفّه: أن يُخرج مثالًا واحدًا لِحديث موضوع تورّط في وضْعه أحَد الصحابة! فإنه عاجز عن ذلك. ولو وَجَدَ -وأنّى له- لَمَلأ الدنيا ضجيجًا وعُواءً. وممّا يدلّ على عجْزه وفشَله في الوصول إلى بُغْيَته: ما استدل به مِن قول أنس ومعاوية، وكلاهما حُجّة عليه، انكشف من خلالهما حقيقة هذا المستشرق الضّالّ.

أما قول أنس، فليس فيه دلالة على الوضْع والكذِب على النبي صلى الله عليه وسلم، بل فيه ما يرُدّ ذلك ويَنفِيه؛ فهو يقول -كما نقل عنه-: “ليس كلّ ما حدَّثْنا به سمعناه عن النبي، ولكننا لا نُكذِّب بعضنا”، وقد مرّ نحوه قريبًا.

فأنس يُبيِّن أنهم ما كانوا يَكذِبون، ولا توجد صِفة الكذِب بينهم، لِصدْقهم وتثبّتهم، حتى إنه ما كان يتَّهم أحدُهم الآخر، لتيقُّنهم ووثوقهم ببعضهم، وشهرة ذلك بينهم، ولِما يعرفون مِن أحوال بعضِهم بعضًا، لا كما يظن (زيهر) أنّهم كانوا يثِقون ثقة عمياء خلاف الحقيقة في بعضهم بعضًا.

وهنا مسألة لا بدّ مِن التّطرّق إليها، ليقف (زيهر) ومَن سار في ركْبه على حقيقة الأمر، وذلك موضوع: مُرسَل الصحابي، وهو: الذي يخبر به عن قول النبي صلى الله عليه وسلم أو فعْله، ما لمْ يسمعْه أو يشاهدْه، لِصغَره، أو غيابه، أو تأخّر إسلامه.

قال ابن الصلاح: “ثم إنّا لم نَعُدّ في أنواع المرسل ونحوه: ما يسمى في أصول الفقه: “مرسَل الصحابي”، مثل: ما يرويه ابن عباس وغيره مِن أحداث الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولمْ يسمعوه منه، لأن ذلك في حُكم الموصول المسند، لأنّ روايتهم عن الصحابة؛ والجهالة بالصحابيّ غير قادحة، لأن الصحابة كلّهم عدول -والله أعلم-“.

وقال ابن كثير: “وقد حُكِي عن بعضهم: الإجماع على قبول مراسيل الصحابة، وذَكَر ابن الأثير وغيْرُه في ذلك خلافًا. ويُحكى هذا المذهب عن الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني؛ لاحتمال تلقِّيهم عن بعض التابعين”.

وهذا الاحتمال المذكور أزاله السّيوطي بقوله: “وفي الصحيحيْن من ذلك ما لا يُحصى، لأنّ أكثر رواياتهم عن الصحابة، وكلّهم عدول، وروايتهم عن غيْرهم نادرة، وإذا روَوْها بيَّنوها؛ بل أكثر ما رواه الصحابة عن التابعين ليس أحاديث مرفوعة، بل إسرائيليات أو حكايات أو موقوفات”.

وقال ابن حبان: “وإنما قبلنا أخبار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما روَوْها عن النبي صلى الله عليه وسلم وإنْ لمْ يبيِّنوا السّماع في كلِّ ما رَوَوْا. وبِيقِين نعلَم أنّ أحدَهم ربّما سمع الخبر عن صحابي آخر، ورواه عن النبي صلى الله عليه وسلم مِن غير ذِكْر الذي سمعه منه، لأنهم -عدول أجمعين- كلّهم أئمّة سادة قادة عدول، نزّه الله عز وجل أقدار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أنْ يلزق بهم الوهن”.

فتبيّن بهذا: أنّ رواية الصحابيّ عن النبي صلى الله عليه وسلم صحيحة ثابتة، ولو لم يَسمع ذلك مِن النبي صلى الله عليه وسلم مُباشرة، لعدالة جميع الصحابة في ذلك بدون استثناء.

وأمّا قول معاوية للمُغيرة، فإذا رجعنا إلى النّصّ كما أورده الإمام الطبري، فنجده كالآتي: “لا تتحم عن شتم عليّ وذمّه، والترحم على عثمان والاستغفار له، والعيب على أصحاب عليّ والإقصاء لهم وترْك الاستماع منهم، وبإطراء شيعة عثمان, والإدناء لهم والاستماع منهم”.

وعلى ذلك نورد عدة ملاحظات:

الأولى: هذا النص -على فرْض صحّته- ليس فيه دليل على الوضْع؛ فلم يأمُر معاوية المغيرة بوضْع الأحاديث في سبِّ عليّ وشيعته ومدْح عثمان. وما زعَمَه تحميل للنص ما لا يَحتمِل.

الثانية: لقد حرّف هذا المستشرق النّص ليؤيِّد به غرَضه وهدفه السَّيِّئ؛ فالعبارة في الطبري: “والإقصاء لهم”، بينما زعم هو أنها: “وتضطهد مِن أحاديثهم”، والفرق بيْن اللفظين كبير، والبوْن شاسع.

فلا وجود لكلمة: “أحاديثهم” في النص؛ وعلى فرْض وجودها، لا دلالة في ذلك؛ إذ المراد بـ”أحاديثهم”: كلامهم ومحاوراتهم في مجالسهم، وليست الأحاديث المنسوبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

الثالثة: لا شكّ أنّ بين عليّ ومعاوية خلافًا سياسيًّا، بل ووقعت بينهما حروب في ذلك، فما هي الغرابة أنْ يقع بين الفريقيْن تراشق بالألفاظ ونيْل بالكلمات؛ وهذا معهود في كلّ حكومة مع خصومها.

وإن كان الحق والأسلم للمرء خلاف ذلك، وهو ما نصّ عليه الإمام الذهبي -رحمه الله- بعد ذِكره طرفًا ممّا وقع بين مؤيِّدي الفريقيْن، فقال: “فنحمد الله على العافية، الذي أوجدنا في زمان قد انمحص فيه الحق، واتّضح من الطرفيْن، وعرفْنا مأخذ كلّ واحد مِن الطائفتيْن، وتبصّرنا، فعذَرنا، واستغفرنا، وأحببْنا باقتصاد، وترحّمنا على البغاة بتأويل سائغ في الجملة، أو بخطإ إن شاء الله مغفور، وقلنا كما علّمنا الله: {رَبّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاّ لّلّذِينَ آمَنُواْ رَبّنَآ إِنّكَ رَءُوفٌ رّحِيمٌ} [الحشر: 10].

وترضّيْنا أيضًا عمَّن اعتزل الفريقيْن،… وتبرّأنا مِن الخوارج المارقين الذين حاربوا عليًّا وكفّروا الفريقيْن”.

error: النص محمي !!