اجتماع السقيفة
اجتماع السقيفة من أهم المواقف ومن أهم المنعطفات الخطيرة، التي كانت في تاريخ الإسلام بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وسوف نعود إلى رواية مهمة، قالها أبو عَمْرة الأنصاري، ذكر فيها كل التفاصيل المتعلقة بأحداث السقيفة.
بمجرد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم دعا الأنصار لاجتماع شامل وعام، وتواجد فيه طرفي الأنصار الرئيسيين، ألا وهما الأوس والخزرج، وبدأ هذا الاجتماع بكلمة لسعد بن عبادة الأنصاري، واستطاع سعد بن عبادة أن يوضح من خلال هذه الكلمة كيف كان وضع الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة، ومحاربة قومه له، وتحدَّثَ عن فضل الأنصار، وتحدث عن أثر الأنصار، وتحدث عن منزلة الأنصار عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عند وفاته، وأخيرًا اقتراحه، وما ترتب على ذلك من أنَّه وضع اقتراحًا عامًّا أمام الأنصار، وأراد من الأنصار أن يقروا هذا الاقتراح، وبعد ذلك نعرض لرد الأنصار على مقترح سعد بن عبادة، وتردد الأنصار، وموقف سعد من هذا التردد.
اجتمع الأنصار فقام فيهم سعد بن عبادة خطيبًا، وكان سعد بن عبادة مريضًا وقد أخرجوه؛ ليولوه الأمر بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بعد أن حمِدَ الله وأثنى عليه: “يا معشر الأنصار، لكم سابقة في الدين، وفضيلة في الإسلام، ليست لأحد من العرب، إن محمدًا صلى الله عليه وسلم لبِث في قومه بضع عشرة سنة يدعوهم إلى عبادة الرحمن وخلع الأوتاد والأوثان، فَمَا آمَنَ به إلا القليل، ما كانوا يقدرون على منعه، ولا على إعزاز دينه، ولا على دفع ضيم عنه”.
بين سعد بن عبادة هنا موقف المكيين من دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة قبل الهجرة.
فيقول: “حتى إذا أراد الله بكم الفضيلة، ساق إليكم الكرامة، وخصكم بالنعمة، ورزقكم الإيمان به وبرسوله صلى الله عليه وسلم والمنع له ولأصحابه”.
وأخذ يتحدث عن أثر الأنصار والمنع له ولأصحابه، والإعزاز له ولدينه، والجهاد لأعدائه.
“فكنتم أشد الناس على عدوه، حتى استقامت العرب لأمر الله طوعًا وكرهًا، وأعطى البعيد المقادة صاغرًا، فدانت لرسوله بأسيافكم العرب”.
هو يوضح بهذه الصورة كيف كان أثر الأنصار في هذا الدين، وكيف دافعوا عن هذا الدين، وكيف استطاعوا أن يعزوا هذا الدين بسيوفهم، بحيث دان الناس ودان العرب جميعًا لهذا الدين عن طريق جهد الأنصار، ودور الأنصار، وسيوف الأنصار. فيذكرهم بمنزلتهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلًا: “إن الله توفَّى رسولَه صلى الله عليه وسلم وهو عنكم راضٍ، وبكم قريرُ العين”.
ثم بعد ذلك عرض اقتراحه الذي حضره في نفسه، فقال لهم:
“استبدوا بهذا الأمر دون الناس -أي: الخلافة أو إمارة المسلمين- فإنه لكم دونهم”. فأجابوه بأجمعهم: أن قد وفقت وأصبت الرأي، بل وولوه فعلًا، قالوا له: نحن نوليك هذا الأمر، فإنك مقنع ورضا للمؤمنين.
لكن حدث بين جماعة الأنصار أنفسهم نوع من التردد في هذه اللحظة -هكذا رواية ابن الأثير، فقالوا فيما بينهم: فإن أبَى المهاجرون من قريش وقالوا: نحن المهاجرون، وأصحابه الأولون، وعشيرته وأولياؤه، فعلام تنازعونا هذا الأمر بعده”، يعني: هم توقعوا أن المهاجرين سوف يأتون لهم ويقولون لهم ذلك. فقالت طائفة: نرد على المهاجرين، نقول لهم: فإنًّا نقول: منا أمير، ومنكم أمير، ولن نرضَى بدون هذا أبدًا، أي: أن أمر الخلافة والإمارة لا يقتصر عليكم وحدكم، كما أنه لا يقتصر علينا وحدنا، يعني: لا يكون قاصرًا على المهاجرين ولا على الأنصار. هنا كان لسعد بن عبادة موقف عندما رأى هذا التردد من الأنصار، قال: هذا أول الوهن -يعني: أول الضعف.
سَمِعَ المهاجرون بما قاله الأنصار وبما يحدث في سقيفة بني ساعدة، فسمع عمر الخبر، فأتى منزلَ النبي صلى الله عليه وسلم وكان أبو بكر الصديق فيه، فأرسل إليه أن اخرج إليَّ فأرسله إليه الصديق: “إني مشغول الآن”. فقال عمر له: “قد حدث أمر لا بد لك من حضوره”، يعني: لا بد أن تخرج حتى أخبرك بهذا الخبر. فخرج إليه الصديق، فأعلمه الفاروقُ الخبرَ -خبر الأنصار- فمضيَا مسرعين نحوهم، ومعهم أبو عبيدة بن الجراح.
يقول عمر: “أتيناهم وقد كنت زاورت كلامًا -يعني: أعددت كلامًا لأقوله لهم في هذه الجلسة، وفي هذا الاجتماع- فلما دَنَوْا من هذا الاجتماع أسكتني أبو بكر”، يعني: عرف أبو بكر أني حضرت كلامًا وأريد أن أقوله للأنصار، فأسكتني أبو بكر وتكلم أبو بكر، يقول عمر: “فتكلم بكل ما أردت أن أقول”. فما كان يدور في نفس الفاروق كان يدور أيضًا في نفس الصديق رضي الله عنه.
ماذا قال الصديق؟ كلمة الصديق دارت حول محورين:
تحدَّث الصديق عن موقف أهل مكة من دعوة الإسلام، ثم تحدث عن موقف المهاجرين الأولين، هذه أهم المحاور التي عرَضَ فيها الصديق كلمته.
قال الصديق بعد أن حمِدَ الله وأثنَى عليه: “إن الله قد بعث فينا رسولًا إلى خلقه، وشهيدًا على أمته ليعبدوه ويوحدوه.
وهم يعبدون من دونه آلهة شتى، من حجر وخشب، فعظم على العرب أن يتركوا دين آبائهم”، هنا عرض الصديق موقف أهل مكة من الإسلام.
ثم عرض لموقف المهاجرين الأولين: لا ينكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكثيرين هناك أسلموا في مكة.
هناك الكثير ممن أسلموا، فخص الله المهاجرين الأولين من قومه بتصديقه والإيمان به، والمواساة له والصبر معه على شدة أذى قومهم، وتكذبيهم إياه، وكل الناس لهم مخالف، هكذا كان موقف المهاجرين الأولين.
يقول الصديق: “فلم يستوحشوا لقلة عددهم، فَهُم أول مَن عبد الله في هذه الأرض، وهم أول مَن آمَنَ بالله وبرسوله، وهم أولياؤه وعشيرته، وأحق الناس بهذا الأمر من بعده، لا ينازعهم إلا ظالم”.
بين موقف المهاجرين الأولين، كيف أسلموا وآمنوا وتحملوا الصبر والأذى والعنت من قومهم، وكيف هاجروا وتركوا الأموال والأولاد؛ حبًّا في رسول الله صلى الله عليه وسلم وحرصًا على هذا الدين، ومن ثم فَهُم أولُ مَن عبد الله، فهم مَن يستحق أن يرثوا هذا الأمر بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم عرض الصديق بعد ذلك لفضل وسابقة الأنصار، وهذا أمر لا يُنكر عليهم: “وأنتم يا معشر الأنصار -هكذا يقول الصديق: مَن لا يُنكر فضلهم في الدين ولا سابقتهم في الإسلام، رضيكم الله أنصارًا لدينه ورسوله، وجعل إليكم هجرته، وفيكم جلة أزواجه وأصحابه، فليس بعد المهاجرين الأولين عندنا بمنزلتكم”. هذا هو موقف ومكانة الأنصار كما وضحه أبو بكر.
ثم قدم اقتراحه: “فنحن الأمراء وأنتم الوزراء، لا تفاتون بمشورة ولا تُقضى دونكم الأمور”.
هذا هو اقتراح الصديق، أن تكون الإمارة في المهاجرين، وأن تكون الوزارة في الأنصار، ولا تقضى الأمور دون سؤال الأنصار، ودون مشورة الأنصار، ولا تقضى الأمور دون علم الأنصار.
موقف الأنصار من كلمة أبي بكر الصديق رضي الله عنه:
موقف الأنصار كان ممثلًا في شخصية الحباب بن المنذر بن الجارود، قام الحباب بن المنذر، فقال: “يا معشر الأنصار، املكوا عليكم أمركم -تمسكوا به- فإن الناس في ظلكم في مكانكم، وبلدكم، وأرضكم، ولن يجترئ مجترئٌ على خلافكم، فأنتم في أرضكم وبيوتكم ودوركم، ولا يصدر الناس إلا عن رأيكم”، يعني: الناس لا تستطيع أن تخالفكم، فأنتم أهل العز والثروة -المكان والمكانة- وأولوا العدد والمنعة، وذو البأس والنجدة، والناس ينظرون إلى ما تصنعون، ولا تختلفوا فتفسد عليكم أموركم ورأيكم، وينتقد عليكم أمركم.
أَبَى هؤلاء -أي: المهاجرين- إلا ما سمعتم -يعني: هم يريدون هذا الاقتراح أن يكونوا هم الوزراء: منا أمير ومنكم أمير”، وهنا يوجه خطابه للمهاجرين.
هنا تحدث عمر، فقال:” هيهات هيهات، لا يجتمع اثنان في قرن -القرن: هو الحبل الذي تقرن به الدواب أو الأسرى- والله لا تَرْضَى العربُ أن تؤمركم ونبينا مِن غيركم، ولا تمتنع العرب أن تولي أمرها مَن كانت النبوة فيهم، ولنا بذلك الحجة الظاهرة على من ينازعنا سلطان محمد ونحن أولياؤه وعشيرته”. هذه هي مقولة الفاروق عمر رضي الله عنه.
هنا تدخل الحباب بن المنذر مرةً أخرى، وقال: “يا معشر الأنصار، املكوا أيديكم ولا تسمعوا مقالة هذا وأصحابه، فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر”.
وبعض الروايات تذكر كلامًا آخر للحباب بن المنذر.
تدخل أبو عبيدة بكلمة جميلة، قال فيها: “يا معشر الأنصار، إنكم أول مَن نصر وآزر لهذا الدين، ورفع قدره وشأنه، وانتصر له، وجرد أسلحته في سبيل نصرة هذا الدين، وفي سبيل نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنتم أول من نصر وآزر، فلا تكونوا أول مَن بَدَّلَ وغير”.
هذه الكلمة أثرت في نفس بشير بن سعد أبو النعمان بن بشير، فقام بشير بن سعد، وقال: “يا معشر الأنصار، إنا والله وإن كنا أولي فضيلة في جهاد المشركين، وسابقة في هذا الدين، ما أردنا به إلا رضا ربنا وطاعة نبينا، والكدح لأنفسنا، فما ينبغي أن نستطيل على الناس بذلك، ولا نبتغي به من هذا العمل -يعني: الذي قمنا به في نصرة الدين، ونصرة رسوله صلى الله عليه وسلم- أمور الدنيا، ولا لُعاعة الدنيا كما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في موقف حُنين، وفي أموال حنين، لا نبتغي ذلك في عرض الدنيا وفي لعاعة الدنيا.
ومن ثم محمد صلى الله عليه وسلم من قريش، وقومه أولى به، وايم الله، لا يراني الله أنازعهم هذا الأمر أبدًا، فاتقوا الله ولا تخالفوهم”. هذه هي كلمات بشير بن سعد.
لا يخفى أن هذه الكلمات كان لها عظيم الأثر في نفوس الأنصار، هنا تدخل أبو بكر، وقال لمعشر الموجودين جمعيًا -المهاجرين والأنصار: “هذا أبو عبيدة وهذا عمر أمامكم، أيهما شئتم -وهنا قدم عمرَ- فبايعوه، فقال عمر: والله لا نتولى هذا الأمر عليك وأنت أفضل المهاجرين وخليفةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم”.
هذه كلمات عمر وأبي عبيدة، يقولون لأبي بكر هذا الكلام: أنت أفضل المهاجرين وخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة.
وهنا ملحوظة مهمة تؤخذ من كلام عمر رضي الله عنه:
معروف أن: ((الصلاة عمادُ الدين))، والأصل في هذا الدين الصلاة، ((والعهد الذي بيننا وبينهم الصلاة))، و((من أقام الصلاة فقد أقام الدين))، وكأن الفاروق أراد أن يقول: إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رضي بإمامة أبي بكر الصديق في الصلاة، وهي ركن الدين وأساسه العظيم، فكيف لا نرضاك لأمور دنيانا ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد رضيك في أمور الدين، وفي أمر الصلاة، فكيف لا نرضاك نحن؟!
حُسِمَ هذا الخلاف بهذا الموقف، وقال له عمر: “فَمَنْ ذا ينبغي أن يتقدمك أو يتولى هذا الأمر عليك، ابسط يدك نبايعك”. فلما ذهبَا -عمر وأبو عبيدة ليبايعَا الصديق- سبقهما بشير بن سعد -صاحب الكلمات الأخيرة هذه- وبدأ بمبايعة الصديق، هنا ناداه الحباب بن المنذر، وقال له: “عققت عقاقًا، ما أحوجك إلى ما صنعت؟ أنفستَ على ابن عمك الإمارة؟”، يعني: كنت تركت الأمر يذهب إلى سعد بن عبادة، فقال: “لا والله، ولكني كرهتُ أن أنازع القوم حقًّا جعله الله لهم”.
هنا حدث موقف ساعد في حسم هذه القضية، هو موقف الأوس، يعني: لا يخفى أنَّ جماعة الأنصار قديمًا معروفة بأنهم قسمان رئيسان: الأوس والخزرج، سعد بن عبادة من الخزرج، الذي كاد أن يتولى الأمور قبل هذه التطورات هو من الخزرج، في هذه الأثناء رأت الأوس أن هذا الأمر إذا ذهب إلى سعد بن عبادة واستقر، فإنه سيذهب إلى الخزرج، وسوف يكون هذا الأمر فضلًا وسبقًا للخزرج لا تستطيع الأوس أن تصل إليه، فتحركت هذه النقطة، فقام أسيد بن حضير -وكان نقيبًا- وقال: “لئن وليتها الخزرج مرةً لا زالت لها عليكم بهذه النقطة فضيلة لكم، وأنتم لن تستطيعوا أن تصلوا إلى هذه الفضيلة، ومن ثم قوموا فبايعوا أبا بكر”، فقامت جماعة الأوس تبايع الصديق، فبايعوه، وأقبل الناس جميعًا يبايعون أبا بكر من كل جانب.
ثم تحول سعد بن عبادة إلى داره وبقى أيامًا في داره، حتى هذه اللحظة لم يكن سعد بن عبادة قد بايع أبا بكر الصديق، فيقال: إنه أرسل إليه: أن أقبل، فبايعْ، يعني: يجب أن تشارك في هذه البيعة وألا تترك هذا الأمر، فإن الناس قد بايعوا، فرد عليهم ردًّا فظًّا غليظًا، وأنه لن يبايع حتى يرميهم بالسهام والنبال، ويقاتلهم هو ومَن ناصره من قومه، وأهل بيته، ومحبيه. وصلت هذه الأخبار إلى عمر، وكان رأي عمر ألا يترك سعد بن عبادة حتى يبايع، فقال بشير بن سعد رأيًا جميلًا في هذه النقطة الحرجة: إنما هو رجل واحد، بَيْعَتُه أو عدم بيعته، لن تضر أبا بكر الصديق، ولن تؤثر في البيعة التي تمت لأبي بكر الصديق، رأيي أن تدعوه؛ لأنه لن يبايع إلا إذا قاتل وأحضر معه من قومه مَن يقاتل معه، ونحن في غِنًى عن كل هذه الترهات.
وكل هذه الخلافات، والتي يمكن أن تحدث بين المسلمين، وما الداعي لها، إنَّما هو رجل من قومه، ولا يمكن أن يكون له هذا الأثر، فاتركوه، أو دعوه وشأنه، فإن هذا أفضل، ولا ليس هناك داعٍ لِأَن يضغط عليه في هذا الأمر.
وفعلًا اجتمعت جماعة المسلمين وقيادات المسلمين على ترك سعد بن عبادة في هذه النقطة، وحدث أنَّه جاءت قبيلة “أَسْلَم” فبايعت في تلك الأمر، فقوي بهم أبو بكر، وبايع الناس جميعًا.
بيعة علي، وبني هاشم، والزبير:
ترددت الأقوال في هذه النقطة بين موقفين أو بين رأيين اثنين:
الرأي الأول: أن عليًّا بمجرد أن سمع بهذا الأمر، بادر وأسرع إلى بيعة الصديق، حتى إنَّه لم يكن قد أكمل لبسَ ملابسه، فذهب إلى البيعة، وبايع الصديق، وجلس في مجلس الصديق، وأمر بإحضار باقي ملابسه فلبسها في مجلس الصديق.
الرأي الثاني: أنه أخَّر هذه البيعةَ أو تأخرت هذه البيعة حوالي ستة أشهر بعد وفاة السيدة فاطمة رضي الله عنها، وبعد وفاتها أقبل وبايع هو والزبيرُ وبنو هاشم.