احتياط الخلفاء الراشدين في قبول السنة وطلبها من مصادرها
لم يقبل الخلفاء الراشدون ما رأوه مخالفًا للقرآن مما تفرد به راويه في أمر, لا يقتصر عليه ولا ينحصر علمه فيه دون غيره, مع مخالفة هذا الأمر للمتعارف في مثله بين الناس؛ فروى أبو داود بسنده عن أبي إسحاق قال: كنتُ في المسجد الجامع مع الأسود فقال: أتت فاطمة بنتُ قيس عمر بن الخطاب > قال: “ما كنا لندعَ كتاب ربنا وسنة نبينا e لقول امرأة، لا ندري أحفظت ذلك أم لا”، وأيد ذلك قول عروة بن الزبير, قيل لعائشة: ألم ترَي إلى قول فاطمة؟ قالت: “أما إنه لا خير لها في ذلك” قال عروة: عابت ذلك عائشة < أشد العيب؛ أي: حديث فاطمة بنت قيس، وقالت: “إن فاطمة كانت في مكان وحشٍ -أي: مخيف- فخِيف على ناحيتها؛ فلذلك رخّص لها رسول الله e” أي: فأرادت فاطمة أن تعمّم الحكم بالرخصة لها على سائر من طلق ثلاثًا غيرها، وأخطأت في ذلك.
وقال سليمان بن يسار: إنما كان ذلك من سوء الخلق؛ أي: إن الرسول e أخرجها من بيت زوجها لسوء خلقها، وقال ميمون بن مهران لسعيد بن المسيب: فاطمة بنت قيس طُلقت فخرجت من بيتها، فقال سعيد: تلك امرأة فتنت الناس، إنها كانت لَسِنَة، فوضعت على يدي ابن أم مكتوم الأعمى وكان قريبًا لها، فعاشت مع أهله، وقد امتنع عمر > من قبول قولها: طلقني زوجي ثلاثًا على عهد النبي e فقال رسول الله e: ((لا سكنى لك ولا نفقة)) ولم يكذّبها أو يطعن في روايتها؛ لصدقها وعدالتها، وعدم معارضة غيرها لها فيما روت؛ لأن الرخصة استثناء من حكم العموم، وأرادت هي أن يطبّق حالها على كل النساء، وليس على من في مثل حالتها من النسوة، وهذا مِن فقه عمر > الذي وافقه عليه غيره، وتبين سبب الترخيص في كلام عائشة وغيرها ممن فحص الأمر وتعرّف على سبب الرخصة وبواعثها، وأن الحكم الذي صدر من الرسول e يختص بها وبمن يماثلها، وليس عامًّا لكل المطلّقات، فلم ينكر عمر > الرخصة بل أثبتها، ولم يجعل الحكم عامًّا غير مقيد بشروط الرخصة، ورسم عمر > بذلك منهج قبول الحديث؛ لتوافر شروط القبول من العدالة والضبط، إلا إذا عارضه ما هو أولى منه فيُتوقف في قبوله، فإذا تبين من البحث أنه حكمٌ خاصٌّ لا يعارضه ما هو أولى منه استوفَى أسباب القبول, وبواعث العمل به في حدود ما يتصل به من التخصيص.
وأما إذا كان الحديث لا معارض له واحتاج إلى التثبت من روايته؛ طلب الباحث أو الفاحص راويًا يؤيد الرواية، وفعل ذلك الخلفاء الراشدون؛ فعن أبي سعيد الخدري > أنه قال: “كنت في مجلسٍ من مجالس الأنصار, إذ جاء أبو موسى الأشعري كأنه مذعور -أي: خائف من شيء- فقال أبو سعيد: استأذنتُ على عمر ثلاثًا فلم يؤذن لي، فرجعتُ فقال: ما منعك؟ قلت: استأذنت ثلاثًا فلم يؤذن لي فرجعت، وقال رسول الله e: ((إذا استأذن أحدكم ثلاثًا فلم يؤذن له؛ فليرجع)) فقال: والله لتقيمن عليه بينة”، وفي رواية: “أقم عليه البينة, وإلا أوجعتك”، قال أبو موسى: “أمنكم أحدٌ سمعه من النبي e؟ فقال أُبي بن كعب: والله لا يقوم معك إلا أصغر القوم، فكنت أصغر القوم، فقمتُ معه فأخبرتُ عمر أن النبي e قال ذلك، فقال عمر لأبي موسى: أما إني لم أتهمك، ولكن خشيت أن يتقول الناس”، وفي رواية: “ألهاني عن ذلك الصفق بالأسواق”، فقصد عمر بطلب الشاهد أمرين:
الأمر الأول: أن يتأكد من الرواية ليضعها في ذاكرته؛ لأن ذلك مما فاته عن الرسول e ولم يسمعه مباشرة منه.
الأمر الثاني: أن يردعَ من يجول في نفسه أن يحدّث عن رسول الله e بحديث، إلا إذا كان يعلم أن غيره سَمع معه هذا الحديث ليستشهد به عند الضرورة.
وجاءت الجَدة إلى أبي بكر الصديق تسأله ميراثها, فقال: “ما لكِ في كتاب الله تعالى شيء، وما علمت لك في سنة نبي الله e شيئًا، فارجعي حتى أسأل الناس. فسأل الناس، فقال المغيرة بن شعبة: حضرت رسول الله e أعطاها السدس، فقال أبو بكر: هل معك غيرك؟ فقال: محمد بن مسلمة، فقال مثلما قال المغيرة بن شعبة، فأنفذه لها أبو بكر”، ثم جاءت الجدة الأخرى إلى عمر بن الخطاب > تسأله ميراثها فقال: “ما لك في كتاب الله تعالى شيء، وما كان القضاء الذي قُضي به إلا لغيرك، وما أنا بزائد في الفرائض، ولكن هو ذلك السدس، فإن اجتمعتما فهو بينكما، وأيتكما خلت به فهو لها”، فدل ذلك على التثبت أيضًا مما ورد من السنة، والبحث عنه وقبوله ممن حفظه إذا اطمأن السامع إلى ذلك، وإذا وُجد من يؤيده فذلك أرجى في قبوله وأبعث على الاطمئنان عند استعماله.
وقال عليٌّ >: “كنت إذا سمعت من رسول الله e حديثًا نفعني الله منه بما شاء أن ينفعني به، وإذا حدثني رجل من أصحابه استحلفته، فإذا حلف لي صدّقته، وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر، فذكر حديثًا”، فمثل أبي بكر وغيره من الثقات لا يحتاج إلى حلف عند علي؛ لأنه يثق به، وربما مثل ما يثق من نفسه أو أولى.
أما إذا كان الراوي يُخشى عليه الخطأ أو الوهم أو نحو ذلك؛ لأن الصحابة كلهم عدول، فإنه يستحلفه ليتأكد من أنه ضبط ووعى ما روى، ولم يطلب شاهدًا آخر كما فعل غيره إلا عند زيادة الحاجة إلى التأكد.
وقَبِل الخلفاء الراشدون رواية الراوي إذا لم تكن مخالفة أو في حاجة إلى التثبت، فعن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أن عمر بن الخطاب سأل أبا واقد الليثي: ماذا كان يقرأ به رسول الله e في الأضحى والفطر؟ قال: كان يقرأ فيهما: {قَ وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق: 1]، و{اقْتَرَبَتِ السّاعَةُ وَانشَقّ الْقَمَرُ}، ولم يطلب عمر شاهدًا على ذلك، وإنما قبله ولم يتردد في القبول. وقال له الضحاك بن سفيان: “كتب إليّ رسول الله e أن أورّث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها”، وكان النبي e استعمله على الأعراب، ولم يكن عمر يعرف هذا الحكم، وكان يقول: “الدية للعاقلة -أي: العائلة- ولا ترث المرأة من دية زوجها”، فلما سمع منه ما كتبه إليه الرسول e رجع عن قوله إلى ما ثبتَ عن الرسول e ولم يطلب شاهدًا على ذلك، وأخذ الجزية من المجوس بشهادة عبد الرحمن بن عوف أن الرسول e أخذها منهم.
وأفتى زيد بن ثابت -وكان ذلك للناس في المسجد- في الذي يجامع ولا ينزل؛ فقيل لعمر ذلك, فقال لرفاعة بن رافع: عجّل به فأُتي به، قال: “يا عدو نفسه، أوَقد بلغت أن تفتي الناس في مسجد رسول الله e برأيك؟!” قال: ما فعلتُ، ولكن حدثني عمومتي عن رسول الله e قال: أي عمومتك؟ قال: أُبي بن كعب، فقال رفاعة بن رافع: كنا نفعله في عهد رسول الله e فلم نغتسل، فجمع عمر الناس واتفق الناس على أن الماء لا يكون إلا من الماء إلا رجلين؛ علي بن أبي طالب ومعاذ بن جبل قالا: “إذا جاوز الختان الختان؛ فقد وجب الغسل”، فقال عليّ: يا أمير المؤمنين، إن أعلم الناس بهذا أزواج رسول الله e, فأرسَل إلى عائشة فقالت ما قالاه, فقال عمر: “لا يبلغني أن أحدًا فعله, إلا أنهكته عقوبة”، فاشتغل عمر > بتحديد ما يستوجب غسل الجماعة؛ لأن أي خطأ في ذلك يؤدي إلى عدم قبول الصلاة، وجمعَ الناس وسألهم وقال أكثرهم برأيٍ، وهو أنه لا يجب الغسل إلا بعد الإنزال، ووقفَ علي بن أبي طالب ومعاذ بن جبل مع رأي عمر في وجوب الغسل وإن لم يُنزل، وانتهى الأمر إلى أن ما كان عند الأكثر قد نُسخ وأن عائشة < ذكرت آخر الأمرين، فحدد عمر > أسس قبول الرواية عند التردد في قبولها من الثقة أو الثقات، وتثبتوا من ذلك غاية التثبت، وفرّقوا بين أهل العدالة والضبط فيما يتصل بمعرفة آخر الأمرين أو ما يُعتمد عليه عند الاختلاف، وإذا كان هذا فيما ثبتَ وصحّ فإنهم في غيره أشدُّ تثبتًا وأبلغُ احتياطًا، ويكفي أن عمر في مسجد رسول الله e لم يقبل الإفتاء بالرأي، وإنما طَلب أن يُفتى بما كان يصدر عن الرسول e مباشرة، فإذا وَردت السنة الصحيحة توقفت الآراء، وإذا لم تُورد السنة الصحيحة بدأ الاجتهاد.
وفي الوباء الذي وقع بأرض الشام, استشار المهاجرين الأولين في الرجوع عنه أو الدخول إليه, فقالوا بالدخول، فقال: ارتفعوا عني، ثم دعا الأنصار فاستشارهم، فسلكوا طريق المهاجرين، فقال: ارتفعوا عني، ثم دعا من معه من مشيخة قريش من مهاجرة الفتح، فقالوا: نرى أن ترجع بالناس ولا تقدِمهم على هذا الوباء، فنادى بالرجوع، فقال أبو عبيدة: أفرارًا من قدر الله؟ فقال: نعم، نفر من قدر الله إلى قدر الله. فجاء عبد الرحمن بن عوف فقال: إن عندي في هذا علمًا؛ سمعت رسول الله e يقول: ((إذا سمعتم به بأرض فلا تقدُموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منه)) فحمد الله عمرُ ثم انصرف”.
وهنا تظهر موافقة الخلفاء الراشدين حينما يبحثون عن السنة, فيجدون الأمر ينتهي بعد المشاورة والبحث إلى أن رسول الله e قد صدر عنه ما يوافق رأيهم؛ لأنهم كانوا ألصق الناس به وأعرف الناس بسنته، وموافقات عمر للسنة الصحيحة في مثل هذه المواقف مما ينبغي العناية به كما اعتنى الناس بموافقته للقرآن الكريم، وموافقات الرسول e للقرآن الكريم مما ينبغي أن يعتني الناس به؛ لأن موافقات عمر لا تمثّل إلا جزءًا يسيرًا جدًّا من موافقات القرآن الكريم لما صدر عن الرسول e, فالوصول إلى المقصود من الروايات الواردة في شأنٍ معين يحتاج إلى بصيرة، ويحتاج إلى اجتماع العلماء لدراسة الأمر والوصول إلى ما يُستخلص من هذه الروايات، ومع حُسن النية وصفاء القصد ينتهي الأمر إلى ما يُعتمد عليه عملًا من هذه الروايات، فالعالم يحفظ ما فات غيره، أو ما لا يكون في ذهنه أثناء البحث، ويرى عالم رأيًا فيظهر لغيره عدم صوابه فيما رآه، والوصول إلى ما يطمئن إليه القلب تهون أمامه كل جهود المتخصصين من العلماء، وهي مهمة أهل الحديث في الأصل؛ لتأصيل الأحكام التي يعتمد عليها الفقهاء.