Top
Image Alt

اختلاط الدراسات النقدية بعلم البلاغة

  /  اختلاط الدراسات النقدية بعلم البلاغة

اختلاط الدراسات النقدية بعلم البلاغة

مرت عملية التأليف في النقد الأدبي بمراحل كثيرة، ومرت بمؤلفين متعددين، ويمكن أن يكون لكل واحد منهم منهجه الذي اختاره، والذي اقتنع به في تناوله لدراسته، كما يختار كل واحد منا الآن منهجه الذي يناسب موضوعه، الذي يكتب فيه.

ومرت هذه المناهج التي يُمكن أن تكون عديدة ومتنوعة بتنوع من كتبوا في الدراسات النقدية، حتى وجدنا ظاهرة بعد ذلك سنقف عندها الآن، وهي اختلاط الدراسات النقدية بعلم البلاغة، فما البلاغة؟ وكيف امتزجت الدراسة البلاغية بالدراسات النقدية؟ سيكون مرجعنا هو كتاب الدكتور محمد زغلول سلام (تاريخ النقد العربي) في جزأين، عن مفهوم البلاغة ومصطلحاتها.

يحدثنا الدكتور محمد زغلول سلام، فيقول: “تعني كلمة بلاغة حين تَرِد في كتب الأدب في الزمن الأول قبل القرن الرابع، المعنى العام للقول الجميل، الذي يبلغ به الأديب درجة من الجودة والإبداع، وهي أكثر ما تطلق وصفًا فيقال: في قول فلان بلاغة، وتتعدد جوانب الجودة بتعدد نظرة من يستخدم اللفظ، وأورد الجاحظ جملة من الدلالات لهذه اللفظة كلها تدور حول المعنى الذي أشرنا إليه، وتتناول كذلك حسن التعبير في شتَّى صوره اللفظية والشكلية باعتبار المتكلم نفسه؛ هيئته، وسلامة منطقه، وطلاقة لسانه، وإشاراته.

ويُورد الجاحظ قول العتابي حين سئل عن البلاغة، فقال: البليغ: كل من أفهمك حاجتك من غير إعادة، ولا حُبْسَة، ولا استعانة، فهو بليغ. وهذا المدلول عام لا تبدو فيه الخاصية الجمالية التي عُني الجاحظ بإبرازها في استدراكه على العتابي حين قال: والعتابي حين زعم أن كل من أفهمك حاجته فهو بليغ، لم يعنِ أن كل من أفهمنا من معاشر المولدين والبلديين قصده ومعناه بالكلام الملحون والمعدول عن جهته، والمصروف عن حقه؛ أنه محكوم له بالبلاغة كيف كان”.

إذًا: هناك شروط مع الإفهام ينبغي أن تتوافر في الكلام؛ ليُحكم له بأنه بليغ، ومن التعريفات التي وردت عن البلاغة والبليغ مثلًا قول الأصمعي: “البليغ: من طبَّق المفصل، وأغناك عن المفسر” يعني كما قال جعفر بن يحيى: “أن يكون الاسم يحيط بمعناك، ويجلي عن مغزاك، ويخرجك عن الشركة، ولا تستعين عليه بالفكرة”. وتدل كلمة البلاغة في بعض استعمالاتهم على البيان، واستخدمها الجاحظ في مناسبات من كتابه (البيان والتبيين) مرادفةً للبيان.

المهم أن النقاد درجوا على استخلاص مجموعة خصائص توفر للقول الجودة، وألّفوا فيها، واتجهت دراساتهم إلى الناحية التعليمية لتوجيه كتاب الإنشاء، ثم تحدثوا بعد ذلك عن طبقات البلاغة، وجعلوا القرآن الكريم في أعلى طبقاتها بإعجازه، وأنه كلام الله المعجز، وأن بلاغته هي الدرجة العليا في البلاغة، والتي لا يمكن أن يصل إليها كلام البشر، ولا بلاغتهم، ولا بيانهم، ثم يأتي بعد بلاغة القرآن بلاغة الناس، وفي أعلى درجات بلاغة الناس بلاغة الرسول صلى الله عليه وسلمثم يأتي بعد ذلك البُلغاء والأدباء، وهم متفاوتون فيما بينهم في نصيب كل واحد منهم من البلاغة.

بعد ذلك صنفوا، وألفوا، وفصلوا، وقسموا البلاغة إلى عشرة أقسام هي: الإيجاز، والتشبيه، والاستعارة، والتلاؤم، والفواصل، والتجانس، والتصريف، والتضمين، والمبالغة، وحسن البيان.

وهذه الأقسام العشرة تجمع فروع البلاغة وأبوابها، وسنجد بعد ذلك تفصيلًا وتخصيصًا، ونجد أن البلاغة تنقسم إلى ثلاثة أقسام هي: البيان، والمعاني، والبديع، وينفرد كل قسم منها بموضوعات تختلف عن موضوعات القسمين الآخرين، ووجدنا عند علماء البلاغة اهتمامًا بالكلام عن الفصاحة، وهل الفصاحة والبلاغة لفظان مترادفان، أم إنهما مختلفان؟

فبعض العلماء اعتبر الفصاحة والبلاغة من وادٍ واحد، وإن كانت الفصاحة عنده أعمَّ والبلاغة أخص، وبعضهم عرَّف الفصاحة بأنها البيان والخلوص واستخدام اللفظ؛ بمعنى: خروج الكلام مخرجًا واضحًا دون تلعثم، أو تعثر أو عيٍّ أو تحبس، وهذه الصفات قريبة من صفات البلاغة التي أشرنا إليها من قبل.

وأظهر أبو هلال العسكري أن هناك فرقًا بين الفصاحة والبلاغة، وذلك أن الفصاحة تمام آلة البيان فهي مقصورة على اللفظ؛ لأن الآلة تتعلق باللفظ دون المعنى، والبلاغة إنما هي إنهاء المعنى إلى القلب، فكأنها مقصورة على المعنى.

فبعضهم يذهب إلى أن البلاغة تتعلق بالمعنى، والفصاحة تتعلق باللفظ، وبعضهم يذكر أن بين البلاغة والفصاحة عمومًا من وجه وخصوصًا من وجه، وبيان ذلك أن عموم البلاغة؛ لتناولها الكلام الفصيح وغير الفصيح، أي: الغريب والوحشي، وعموم الفصاحة يتناول الألفاظ العذبة الحسنة مفردة ومركبة، أما خصوص البلاغة فلأنها لا تتناول إلا الألفاظ المركبة فقط، فبين البلاغة والفصاحة عموم من وجه، وخصوص من وجه.

وفي كلام منسوب لابن حجة يتضح فيه الفرق بين البلاغة والفصاحة؛ إذ يقول: “وقيل: البلاغة في المعاني والفصاحة في الألفاظ، يقال: معنى بليغ ولفظ فصيح، والفصاحة خاصة تقع في المفرد، يقال: كلمة فصيحة ولا يقال: كلمة بليغة، ففصاحة المفرد خلوصه من التعقيد وتنافر الحروف، والفصاحة أعم من البلاغة؛ لأن الفصاحة تكون صفة للكلمة والكلام، يقال: كلمة فصيحة، وكلام فصيح، والبلاغة لا يوصف بها إلا الكلام فيقال: كلام بليغ، ولا يقال: كلمة بليغة”.

فحول حسن الكلام وقدرته على حمل المعنى، وتوصيله إلى السامع أو القارئ من أدنى طريق، دارت إذًا البحوث حول البلاغة والمعنى المراد بها، وهذه الصفة جعلت الكلام في حاجة إلى صفات تجعله بليغًا، صفات بعضها خاص بالمفرد، وبعضها خاص بالجملة والتركيب، وقدرة هذا الكلام في مجموعه على حمل المعنى إلى المتلقي والتأثير فيه، جعل هذه البلاغة مرتبطة بالمعاني كما هي مرتبطة بالألفاظ، ومن هنا تفرَّعت علوم البلاغة إلى: علم المعاني، وعلم البيان، وعلم البديع، وتحت هذه العناوين اهتمَّ علماء البلاغة وعلماء النقد بدراسة ما يتصل بالأساليب، وقدرتها على التأثير، وحظها من الجمال، ففي علم المعاني درسوا التقديم والتأخير.

والذكر والحذف، والتعبير مثلًا بالتعريف والتنكير، وفي البيان درسوا التشبيه، والاستعارة، وتعدُّد الطرق التي تنقل المعنى الواحد، أو إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة، وفي البديع تحدثوا عن الطباق، والجناس، ووسائل تحسين الأسلوب، وسميت هذه الأمور بالمحسنات البديعية.

وكلما مضى بنا الزمن وجدنا النقد الأدبي يتأثر بهذه المباحث، ويدخل العلم والقاعدة إلى جانب الذوق، ثم وجدنا الاهتمام بالدراسات المتعلقة بإعجاز القرآن الكريم أيضًا تؤثر في النقد الأدبي.

ووجدنا الفلسفة والمنطق يؤثران في هذه الدراسات جميعًا حتى وجدنا المؤلفات الكثيرة التي تختلط فيها هذه العلوم جميعًا، فنجد النقد الأدبي إلى جوار البلاغة، والمنطق، والكلام عن إعجاز القرآن.

ووجدنا المؤلفين يختلفون في مناهجهم؛ بعضهم يُعنى بالتقعيد والتفريع وذكر النظريات، مهملًا الجانب التطبيقي على النصوص الأدبية، وهؤلاء هم الذين غلبت عليهم النزعة الفلسفية، ووجدنا بعضهم يُكثر من التطبيق غير ملتفت إلى القواعد والمقاييس.

ومن هنا كان اختلاط هذه العلوم واضحًا في المؤلفات التي تأثَّر أصحابها بهذه العلوم، وغلب على بعضهم التأثر بعلم منها أكثر من تأثره بعلم آخر.

ويحسن بنا أن نقف عند نموذج نتبين فيه اختلاط هذه المعارف والعلوم، وتأثر بعضها ببعض، هذا النموذج هو كتاب (سر الفصاحة) لابن سنان الخفاجي عبد الله محمد بن سعيد الحلبي، المتوفى عام أربعمائة وستة وأربعين من الهجرة.

إذًا: مؤلف هذا الكتاب من علماء القرن الخامس الهجري، تتلمذ على أبي العلاء المعري شاعر المعرَّة، وفيلسوفها، وأديبها الكبير، ونقل عنه في أكثر من موضع آراء له في الشعر والشعراء كأبي الطيب المتنبي، كما أخذ عن الجاحظ وأبي الحسن الروماني، والحسن بن بشر الآمدي، وأبي بكر الصولي، أخذ عنهم من كتبهم، وأخذ عن أبي سعيد السيرافي، وأبي الفتح بن جني، والقاضي عبد العزيز الجرجاني.

وكان يميل في آرائه إلى مذهب المعتزلة، وقد ذهب إلى القول بالصرفة في إعجاز القرآن، كما نقل عن الجبائي أحد الرؤساء من متكلمي المعتزلة، وتأثر بفلسفة “أرسطو” وآرائه، وحاول تطبيقها على دراسته للفصاحة.

هذا يدل على المصادر العديدة والمتنوعة التي أخذ عنها هذا العالم علمه وثقافته، ولا بد أنها ستؤثر فيما يكتب؛ لهذا يقول في مقدمته: “اعلم أن الغرض بهذا الكتاب معرفة حقيقة الفصاحة والعلم بسرها، فمن الواجب أن تبين ثمرة ذلك وفائدته؛ لتقع الرغبة فيه”، ويذكر أن كتابه هذا لا غنى لمنتحل الأدب عما فيه، ومنتحل الأدب: المهتم بالأدب، والذي ينتسب إليه، ثم يذكر أنه فضلًا عن هذه الفائدة للمتأدب عامة، فهناك الفائدة الخاصة لعالم الشريعة، وهي الإلمام بسر فصاحة القرآن وإعجازه من هذه الناحية، وأنه خرق العادة بفصاحته.

ويُعلن في هذه المقدمة أنه يُخالف مذاهب المتكلمين فيما ذهبوا إليه، وأنه يعارض منهجهم في بيان سر إعجاز القرآن، وذلك أن المتكلمين وإن صنفوا في الأصوات وأحكامها، وحقيقة الكلام ما هو، لم يبينوا مخارج الحروف وانقسام أصنافها، وأحكام مجهورها، ومهموسها، وشديدها، ورخوها، وأصحاب النحو وإن أحكموا بيان ذلك لم يذكروا ما أوضحه المتكلمون الذي هو الأصل والأُسّ، وأهل نقد الكلام لم يتعرضوا لشيء من جميع ذلك، وإن كان كلامهم كالفرع عليه. وهكذا يجيء كتابه جامعًا لما تفرق من مذاهب هؤلاء جميعًا، سادًّا ما فيها من نقص.

ويتحدث ابن سنان عن الفصاحة، وعن البلاغة، والفرق بينهما، ويذكر كلام السابقين في هذا المجال، ثم يتحدث عن شروط فصاحة اللفظة الواحدة، ويذكر أنها ثمانية هي: أن تكون مؤلفة من حروف متباعدة المخارج، وأن تكون حسنة الوقع في السمع غير وحشية، وغير ساقطة، ولا عامية جارية على العرف العربي الصحيح، وألا تكون قد ابتُذلت باستخدامها في معنًى مكروه، وتكون معتدلة الوزن غير كثيرة الحروف، وأن يُستحسن تصغيرها في موضع التعبير عن شيء لطيف، أو خفي، أو ما يجري مجراهما.

وعن الألفاظ المؤلفة يقول: “ينبغي أن يراعى فيها الشروط الثمانية التي تُراعى في اللفظة المفردة، ومنها يحدث التلاؤم، وهو درجات؛ الدرجة العليا فصاحة القرآن، والوسطى فصاحة البلغاء، ثم الدنيا وهي أقوال الناس، ومنها عدم التكرار، فالتكرار في الأصل قُبح في التأليف ما لم يكن لعلة أو ضرورة تقتضيه”.

ويذكر أن الجريان على العرف العربي ضروري في التأليف، ومن هنا يتصل التأليف بعلم النحو، وكذلك من الضروري إضافة الكلمة إلى ما يناسبها وما يحسن معها في التأليف، ويتحدث عما يدخل التقديم والتأخير من الصحة والفساد، ويتحدث عن الفصل والوصل وأثر ذلك كله في بلاغة الكلام، ويذكر أنه من المهم ألا يُعبَّر عن المدح بالألفاظ المستعملة في الذم، ولا عن الذم بالألفاظ المعروفة للمدح، بل يُستعمل في جميع الأغراض الألفاظ اللائقة بذلك الغرض؛ ففي موضع الجد ألفاظه، وفي موضع الهزل ألفاظه.

فمما لم يوضع من الألفاظ موضعه -وهذا نقد تطبيقي يذكره ابن سنان- قول أبي تمام:

ما زال يهذي بالمكارم دائبًا

*حتى ظننا أنه محموم

ويقول: “ومنه أيضًا -يعني: من حسن البيان والبلاغة- ألا يستعمل في الشعر المنظوم والكلام المنثور من الرسائل والخطب ألفاظ المتكلمين، والنحويين، والمهندسين، ومن إليهم، ومن شروط الفصاحة في التأليف: المناسبة بين الألفاظ من طريق الصياغة والمعنى، ومثال المناسبة بينها في الصياغة قول أبي تمام:

مها الوحش، إلا أن هاتا أوانس
 
*  قنا الخط، إلا أن تلك ذوابل”

فناسب بين مها وقنا، والوحش والخط، ومها الوحش المراد بها عيون الوحش، يشبه بها عيون النساء إلا أن هذه أوانس. و”قنا الخط إلا أن تلك ذوابل” يقول: هذه العيون تشبه الرماح، رماح الخط إلا أن هذه العيون ذوابل.

يقول: “ومن المناسبة: السجع والازدواج، ومن التناسب: الفواصل والقوافي، والترصيع في الشعر مثل قول الخنساء:

جواب قاصية، جزار ناصية

*  عقاد ألوية، للخيل جرار”

ويتعرض ابن سنان في حديثه عن المعاني إلى شروط الفصاحة والبلاغة فيها، وكلها تدور حول الوضوح والظهور؛ لأنه لا يميل إلى الغموض في المعاني، ولا يحب المعاني العميقة، أو الفلسفية، أو المعقدة. ثم يرى أن أقسام المعاني أربعة، هي: صحة التقسيم، وتجنب الاستحالة والتناقض، وألا يوضع الجائز موضع الممتنع، ثم صحة التشبيه وصحة الأوصاف في الأغراض، وهو أن يُمدح الإنسان بما يليق به، وصحة المقابلة، وصحة النسق والنظم، وصحة التفسير، والغاية من وراء هذه الأقسام: تطلب الصحة والسلامة، والاحتراز من التعقيد، أو ما يوجب الطعن.

وفي كلامه يقع على بعض الملاحظات، ويخالف أحيانًا بعض الأدباء والنقاد، فيرى مثلًا أن الشعر ينبغي أن يكون واضحًا يفهم، ويعترض على قول الصابي: إن الشعر الحسن ما أعطاك معناه بعد مطاولة ومماطلة، والحسن من النثر ما سبق معناه لفظه، فيرى أنه قد فرق بين النظم والنثر في الحكم، ولا فرق بينهما ولا شبهة تعترض المتأمل في ذلك.

ثم يقول: “والدليل على صحة ما ذهبنا إليه أنَّا قد بينا أن الكلام غير مقصود في نفسه، وإنما احتيج إليه؛ ليعبر الناس عن أغراضهم، ويُفهموا المعاني التي في نفوسهم، فإذا كانت الألفاظ غير دالة على المعاني ولا موضحة لها؛ فقد نُقض الغرض في أصل الكلام”.

ولا يوافق ابن سنان من يذهب في المغالاة مذهبًا بعيدًا، إنما يرى القصد مع أنه يميل إلى القول بأن الشعر كذب ومبالغة ويراه مذهب اليونانيين؛ لأن الشعر مبني على الجواز والتسمح إلا أنه يتحفظ في ذلك، فيرى أن يجري القول مجرى كاد أن يفعل كذا، أو ما جرى مجرى ذلك؛ ليكون الكلام أقرب إلى الصحة.

وعن الأمور التي استخلصها الدكتور محمد زغلول سلام من طريقة ابن سنان في كتابه هذا (سر الفصاحة)، يذكر أننا نستطيع أن نستخلص أمورًا يحسن التنبه لها، وهي:

أولًا: أراد ابن سنان بحث الفصاحة لأمر ديني، هو التعرف على فصاحة القرآن.

ثانيًا: أخذ في اعتباره أن الفصاحة صفة للفظ دون المعنى؛ لأن الكلام أصوات قبل أن يكون مجرد معانٍ قائمة في الذهن، ومن هنا وجب تفصيل القول في الأصوات وأقسامها، وصلة الفصاحة بتوافقها، وتلاؤمها، وشروط التلاؤم وخصائصه، وما يتصل بها من أمور أخرى متعلقة باللفظ.

ثالثًا: تطرق للحديث عن اللفظ في حالتي الإفراد والتركيب، فجعل لكل من الحالتين صفات ينبغي توافرها، وبعضها مشترك بينهما.

رابعًا: تكلم في اللفظ المركب عن التناسب، وأدرج تحته كثيرًا من الأبواب التي اعتاد علماء البلاغة ضمّها لأبواب البيان، والبديع كالاستعارة، والطباق، والجناس.

خامسًا: لم يُهمل جانب المعنى، بل إن التصور العربي للبيان بقسميه التقليديين الألفاظ والمعاني كان واضحًا في الكتاب.

سادسًا: بالرغم من حديثه عن كثير من فنون المعاني وأقسامها التقليدية، إلا أنه قد اشترط فيها البيان والوضوح، ولم يمل في الاستعارة والتشبيه والتمثيل إلى الغموض؛ لأنه يرى أن الغرض من هذه الفنون التعبيرية زيادة الكلام وضوحًا وإبانة، فالتشبيه استدلال بالمحسوس على ما ليس محسوسًا، وأما الاستدلال بالتمثيل؛ لأنه يزيد الكلام معنًى يدل على صحته بذكر مثال له، فمثل قول أبي تمام:

وإذا أراد الله نشر فضيلة

* طويت أتاح لها لسان حسود

لولا اشتعال النار فيما جاورت

* ما كان يعرف طيب عرف العود

ولهذا يرى أنه لا ينبغي أن يفترق الشعر عن النثر في وجوب الوضوح في كلٍّ، ولما كان النثر يحقق هذا الشرط في أتمِّ صوره -أي: يحقق الوضوح- والشعر بعضه ينحو نحو الغموض، فالنثر من هذه الناحية أفضل من الشعر كأداة للتعبير والبيان على هذا المفهوم، ولأن ابن سنان الخفاجي كان يفضل مبدأ الوضوح وجدناه يتعقب أبا تمام كثيرًا، ويخطّئه في تعقيداته المعنوية واللفظية، ولا يجدي عنده اعتذار الصولي ولا الآمدي، وكان كذلك يرى في الشعراء المحدثين ممن ذهبوا مذهب أبي تمام في التعقيد، أو الإغراق في الاستعارة، وبناء استعارة على أخرى، أن ذلك شيء معيب.

وهكذا يدلنا كتاب (سر الفصاحة) لابن سنان على تأثر النقد الأدبي بالبلاغة، وتأثره بغيره من العلوم والاهتمامات كالدراسة عن إعجاز القرآن، وغير ذلك مما كان موضع اهتمام الدارسين والباحثين في العصر العباسي.

error: النص محمي !!