Top
Image Alt

اختيار موضوع البحث

  /  اختيار موضوع البحث

اختيار موضوع البحث

وهذه الخطوة خطوة أوّلية، ولكنها شديدة الأهمِّيّة؛ لأنها هي التي ستُحدّد مسار الباحث، ومجال تخصّصه الدقيق؛ ولذلك يجب العناية بها عناية بالغة. وعندما نتحدث عن هذه المسألة يرِد على ذهننا هذا السؤال:

مَن الذي يقوم باختيار موضوع البحث؟

ولكي نجيب على ذلك، نقول: إنّ الأوْلى والأوفق والأكثر صوابًا، والأعون على مواصلة البحث، هو: أن يقوم الباحث بنفسه باختيار موضوع البحث، ولا يدَع للآخَرين أن يختاروا له هذا البحث.

ويتمّ اختيار هذا البحث من الباحث نفسه، نتيجة لعديد من العوامل التي تُساعده على هذا الاختيار.

ومن هذه العوامل:

القراءات السابقة التي يجب أن يقوم بها قبل أن يسجِّل موضوعًا للبحث.

ودراسته لكتب الأساتذة ومؤلَّفاتهم.

وحضوره للمؤتمرات العلْميّة.

واطّلاعه على المجلَّات العلمية المتخصِّصة.

والاتّصال بالأساتذة الآخرين في مجال التّخصّص، والتشاور معهم دون كلَل ولا ملَل.

وبناءً على ذلك، سيتّضح للباحث أنّ هناك فكرة أو موضوعًا أو مشكلة صالحة للبحث، فيقوم بهذا الاختيار.

إذا قام الباحث بتحقيق هذا الأمر، فإن ذلك يُمثِّل مظهرًا من مظاهر إيجابية هذا الباحث.

وأنه لا يتلقّى من الآخَرين، ولكنّه يفكّر ويتشاور ويحسن الاختيار، ثم يتقدّم بموضوع صالح للبحث العلْمي.

وهذا المظهر الإيجابي يُعدّ صفة جيِّدة جدًّا في الباحث، ويمثِّل أمرًا مهمًا جدًّا له ولبحثه؛ لأنه يدلّنا في الحقيقة على سعة المعرفة، وعلى أنه هو الذي اختار الموضوع بعد القراءات الطويلة. وإذا قام باختيار البحث، فسيكون الموضوع محبَّبا إليه، وسيحسن التفاعل النفسي معه، ويتحقق له الاندماج فيه، ويُعينه ذلك على بذل الجهد للإنجاز. كما أنه سيكون قادرًا على تصوّر كل الخطوات التي يتكوّن منها البحث، وعلى توقّع كل المشكلات أو معظم المشكلات على الأقل، التي يُمكِن أن يصادفها في البحث، ثم يكون له القدرة والرغبة على حلِّها في معظم الأحيان.

هذا إذا قام الباحث باختيار موضوع البحث.

لكن -للأسف الشديد- يوجد هناك بعض الباحثين -لا سيما إذا كانوا في أوائل حياتهم العلْمية- يلجئون إلى الأساتذة الكبار، أو إلى بعض زملائهم القدامى؛ لكي يختاروا لهم موضوعًا للبحث العلْمي؛ وهذه مسألة ينبغي الحذر منها جدًّا، ولا يصحّ الاستسلام لها، وهي محفوفة بالخطر الشديد على الباحث ومستقبله العلْمي. لماذا؟

لأن الأساتذة قد يختارون للباحثين المبتدئين أو الذين يلجئون إليهم، موضوعاتٍ صعبةً على إمكاناتهم العلْمية، فلا يستطيعون إنجازها. وقد يختارون لهم موضوعات بعيدة عن اهتماماتهم، فلا يتجاوبون معها. وقد يختارون لهم أجزاءً من مشكلات تعني الأساتذة في مراحل نضجهم العلْمي، فلا يتمكّن الطلاب من القيام بها.

وهنالك أمْر نفسيّ آخر، بالإضافة إلى المخاطر العلْمية:

أنّ مثل هذا الباحث قد يتعوّد الاعتماد على الغيْر، والذي يعتمد على الغيْر في مسائل البحث العلْمي لا يأتي منه بحث جيّد إلَّا في حالات نادرة؛ لأنه كلّما خَطَا خطوة يحتاج إلى أن يستعين بالآخَرين. أمّا إذا اعتمد على نفسه -وهذا الاعتماد يأتي نتيجة للجهد العلمي- فإن مثْل هذا الباحث يكون له من الشخصية القوية التي تساعده على اختيار الموضوعات، وعلى الإنجاز دون اعتماد على الآخَرين.

ومن ثَمّ، نوصي في هذه المرحلة -ويوصي العلماء والباحثون الكبار- بأنّ على الباحث العلْمي أن يعتمد على نفسه، وعلى قراءته، وعلى المشاورات بعد أن يعرض الموضوعات؛ حتى لا يكون الباحث عالة على غيره، وحتى لا يستكين لهذا الأمر، فلا تتحقّق له الشخصية العلْمية المستقلّة التي هي من الشروط التي تساعده على إنجاز هذا البحث.

ونسأل هنا سؤالًا ثانيًا: كيف نختار موضوعًا، وكيف نحدّد هذا الموضوع؟ وما الشروط التي يجب مراعاتها فيه؟ والوسائل التي تمكّننا من الوصول إلى الاختيار الجيِّد لموضوع البحث؟

للإجابة على هذا السؤال يجب القيام بعدد من الخطوات الداخلية:

من هذه الخطوات: أن يختار الباحث مجموعة من المصادر الأساسيّة في حقل التّخصّص. فإذا كان متخصِّصًا في الطب، أو في التاريخ، أو في العلوم الإسلامية، كالتفسير أو الحديث أو نحو ذلك، فعليه أن يختار مجموعة من المصادر الأساسيّة المتمثّلة في المصادر الكبرى لموضوع التخصّص وللمؤلفات العلمية التي تصدر في هذا المجال؛ لكي يتعرّف على المجال تعرّفًا قريبًا مباشرًا، ولكي يستخلص من جملة القراءات المواضع والنقاط التي ما تزال تحتاج إلى دراسة. وكثير من الأساتذة الباحثين عندما يكتبون في موضوع علْمي يشيرون في أثناء الكتابة إلى النقاط التي ما تزال تحتاج إلى بحث، وعن طريق جمْع هذه الإشارات من مصادر متعدِّدة، ومن مؤلّفات مختلفة في توجهاتها وفيما تناقشه من الموضوعات، يتمكّن الباحث بالفعل من الوصول إلى موضوعات محدّدة.

وعندما يجمع المصادر والمؤلّفات، والمجلَّات العلْمية، والوسائل التي يمكن له أن يتعرّف من ورائها على هذه الموضوعات، فعليه أن ينظر فيها بعناية، وأن يبحث من خلالها عن تلك الموضوعات التي ما تزال تحتاج إلى إكمال؛ وعندئذ سوف يختار الباحث موضوعًا من تلك الموضوعات التي يشير الأساتذة إلى أهمّيتها، أو يستنتج هو من قراءاته المتعدِّدة المتنوّعة أنها تحتل مكانة مهمة، وما تزال محتاجة إلى باحث يقوم بإجرائها وإنجازها.

ولا ينبغي التّساهل في مثل هذا الموضوع، بل على الباحث أن يُراعي أقصى درجات الدّقّة في اختياره لهذا الموضوع؛ لأنه سيكون مجال اختياره لعدد من السنوات ربّما تطول؛ حتى لا يضطرّ إلى تغيير الموضوع بعد قضاء وقت في محاولة إنجاز الموضوع، ثم يتبدّى له ما فيه من مشكلات أو يتبدّى له أنه موضوع سبقت دراسته، أو موضوع ليس له أهمِّيّة كبرى، أو موضوع سبقه إلى دراسته بعضُ الباحثين الآخَرين، فعندئذٍ لا بد من التدقيق الشديد جدًّا وبذْل الجهد الكبير في محاولة الاختيار للموضوع الجيِّد.

شروط اختيار الباحث لموضوع جيِّد للقيام ببحثه:

الموضوع الجيِّد له مواصفات لا بدّ من مراعاتها تمامًا؛ حتى نُقرّ بأنه موضوع جيّد صالح للدراسة.

فعليه أن يكون جديرًا بالحصول على الدرجة العلْمية التي يبحث الباحث للحصول به عليها؛ ونقول ذلك لأنّ بعض الموضوعات قد تصلح لبحث صغير لا يرتقي إلى درجة الماجستير، وقد يصلح الموضوع للماجستير ولكنه لا يصلح للدكتوراه، وقد يصلح الموضوع لكي يكون موضوعًا لمقالة علْمية، ولكنه لا يصلح لبحث علْمي بخصائصه التي يجب أن تتوفّر فيه. وهكذا لا بد أن يكون الموضوع مناسبًا للدرجة العلْمية التي يسعى الباحث للحصول به عليها.

الشرط الأول:

أن يكون الموضوع ذا فائدة علْمية أو أهمِّيّة اجتماعية. نحن نسمع عن نظريات تقول: “العلْم للعلْم”، أو “العلْم للمجتمع”. العلْم للعلْم قد يقوم به أناس قطعوا أشواطًا طويلة جدًّا في البحث العلْمي على مستوى الأساتذة أحيانًا، وعلى مستوى المؤسّسات العلْمية، وعلى مستوى الدّول التي لها تاريخ طويل في مجال البحث العلْمي، لكننا في ظروفنا الحاضرة نحتاج إلى أن يكون العلْم في خدمة المجتمع، أن نبحث في مسائل لها أهمّية، نواجه مشكلات، نحلّ صعوبات، نتعرّض لما يواجهنا من العقبات، وأن يكون البحث وسيلة من الوسائل المعاونة على إنجاز موضوعات تفيد المجتمع في سيْره الحضاري وفي مواجهته للمشكلات الواقعيّة.

فالمفروض: أن الباحث يختاره موضوعًا له مثْل هذه الفائدة؛ حتى يُحسّ أنه مفيد للمجتمع، وبأنه يقدم للمجتمع جزاءَ ما أنفق عليه المجتمع في تحقيقه لمثْل هذا البحث العلْمي.

الشرط الثاني:

لا بدّ أن نلاحظ أن الموضوع يكون من السّعة ما يسمح للباحث بإجراء البحث. فبعض الموضوعات تكون ضيّقة جدًّا، ولا يكتشف الباحث ذلك للأسف إلَّا بعد مدة يكون قد ذهب فيها من الوقت الكثير، وعندئذٍ سيضطرّ إلى تغيير الموضوع، وسيكون قد فاته الوقت الكبير الذي لا يستطيع أن يعوِّضه؛ فلا بد أن يكون عنده قدْرٌ من التّوقّع؛ لأن الموضوع يصلح للبحث، وأنّ فيه المادة العلمية، أو النتائج المتوقّعة تسمح له بإجراء البحث. فلا بد أن يكون في هذا القدْر من الاتّساع؛ لكن لا يصح أن يكون الموضوع واسعًا جدًّا بحيث يتعذّر إتمامه في الزمن المحدّد للدرجة العلْمية.

فبعض الناس يقول: الاحتياط أن أبدأ بموضوع كبير وواسع. فشكل العنوان الذي يختاره، أو التخصص الذي يختاره يكون واسعًا جدًّا؛ وعندئذ يعجز الطالب عن إتمام البحث، أو عن الوفاء بمتطلّبات البحث، أو أن يُضطرّ في النهاية إلى أن يقدّم بحثًا مُسطّحًا ليس فيه العمق، وليس فيه المعلومات الجديدة التي يضيفها إلى العلْم؛ وهذا عيب كبير جدًّا. فلا بد أن يكون الموضوع متوازنًا، لا هو ضيّق جدًّا، ولا هو واسع جدًّا؛ ومن ثَم فلا بد من مراعاة الحذر في مثل هذا الموضوع.

الشرط الثالث:

أنّ الموضوع لا بدّ أن يكون له مادة علْمية يستطيع الطالب العثور عليها والوصول إليها. على سبيل المثال: ليس من الحِكمة أن يختار الطالب بحثًا يتعذّر الحصول على مصادره.

ومن الأمثلة على ذلك:

أننا نجد باحثًا يذهب لكي يحقّق مخطوطًا علميًّا، هذا المخطوط العلْمي في بلد بعيد عنه، وهنالك عقباتٌ في الوصول إلى هذا المخطوط، وهو لا يستطيع أن يتوصّل إليه ولا أن يحصل عليه، عندئذ كيف يسجّل في مثل هذا الموضوع وهو لا يستطيع أن يصل أصلًا إلى أصل موضوعه؟

أيضًا: أن يكون البحث محتاجًا إلى مراجع مكتوبة بلغة لا يستطيع الطالب الحصول عليها ولا قراءتها، عندئذ لن يتمكّن من إنجاز مثل هذا البحث، ومن واجبه أن يبحث عن موضوع آخر يستطيع أن يرجع إليه في لغته الأصلية أو في لغة أخرى يُحسنها.

أيضًا: أن يكون الباحث على نيّة أن يقوم ببحث تطبيقيّ على مادة نادرة في الطبيعة، أو غالية الثمن جدًّا بحيث لن يتمكّن من شرائها بنفسه أو عن طريق المؤسسة العلْمية التي يعمل بها، وفي مثل هذه الحالة يجب عليه أن يبحث عن موضوع آخر يتمكّن من إنجازه في سهولة ويُسْر.

الشرط الرابع:

أن لا يختار موضوعًا واسعًا جدًّا، ولا موضوعًا ضيِّقًا جدًّا؛ لأن ذلك سيؤدِّي إلى صعوباتٍ لا يتمكّن من مواجهتها، وسيضطرّ إلى تغيير هذا الموضوع.

الشرط الخامس:

أن يتجنّب الموضوعات الغامضة التي ليست لها معالم محدّدة؛ لأنه سيعجز عن تحديد نطاق البحث، أو تحديد مجال القراءة؛ ومن ثَمّ لا يستطيع أن يقدِّم شيئًا محدَّدًا.

الشرط السادس:

أن يتجنّب الموضوعات التي يُحسّ الباحث بالنفور منها، يعني: موضوع غير متجاوب معه وغير متفاعل معه، سيُلاحَظ أن البحث سيكون نوعًا من العذاب. إذا كان لا يحسّ بالتفاعل والتعاطف مع الموضوع، سيشعر الباحث عندئذٍ أنه يسجن نفسه داخل موضوع لا يحبّه، وربما أدى هذا البغض للموضوع إلى العجز عن إكماله، أو إلى التّسرّع في إجرائه بقصد التّخلّص منه؛ فعندئذ لن يقدّم فيه الجديد الذي هو شرْط من شروط احترام واعتبار البحوث العلْمية.

الشرط السابع:

موافقة المُشرف على إجراء البحث، وهذه مسألة مهمّة؛ لأنّ الباحث لا يعمل في فراغ، وإنما يعمل في مؤسّسة علميّة تحت إشراف أستاذ، وموافقة الأستاذ على إجراء البحث دليل على أهمّيّة البحث وجدارته بأن يُخصّص له هذا الطالب الذي سيقوم ببحثه، وهو يمثّل اطمئنانًا مبدئيًّا إلى الفائدة العلْمية أو الاجتماعية المتوقّعة للبحث، كما يمثّل اطمئنانًا إلى توفّر المصادر والمراجع التي سيرجع الطالب في تحضير بحثه إليها، وسيدل أيضًا في الوقت نفسه على أن الأستاذ يرى أن هذا الطالب عنده المقدرة والكفاءة للقيام بهذا البحث؛ لأن بعض الموضوعات تكون من الصعوبة على الطالب لأسباب عديدة، فلا يوافق المشرف عليها، ويقول له: “ابحث عن موضوع آخر”. فعندئذ فإننا نعتبر أن موافقة المشرف شرط ضروري لا بد من تحقّقه في كلّ بحث علميّ.

الشرط الثامن:

تجنّب الموضوعات العويصة المعقّدة التي تحتاج إلى تقنيات عالية ومهارات عالية، خصوصًا إذا كان الباحث مبتدِئًا، فلا يصحّ له أن يُغرق نفسه في موضوع يحتاج إلى دراسات كثيرة وإلى أرضية علمية عميقة، دون أن يكون قد تحلّى أو تزوّد بهذه الخبرة اللازمة له حتى يتمكّن من إنجاز هذا البحث. وأمثال هذه الموضوعات يمكن تأخيرها إلى مستويات أخرى، بعد أن يكون قد حصل على درجات علْمية تُؤهِّله للسير في إنجاز وتحقيق هذه الموضوعات.

فعلى سبيل الإيضاح:

– أن نجد باحثًا مبتدئًا في بداية طريقه العلْمي يقول -مثلًا- للأستاذ المشرف: أودّ أن أبحث بعض الموضوعات، مثل: “تأثير الفقه المالكي على القانون الفرنسي”. فهو لا يستطيع أن يقوم بمثل هذا الموضوع وبحثه وهو ما زال في أول الطريق؛ لأنه موضوع صعب عليه، ويحتاج إلى لغاتٍ، ويحتاج إلى دراسات مقارنة، ويحتاج إلى موازنات. ومثل هذا قد لا يتيسّر للطالب في أوائل عهده بالبحث العلْمي.

– أيضًا: عندما يختار الباحث المبتدئ في أوّل الطريق موضوعات معقدة وصعبة، مثل موضوع:” تأثير الأدب العربي في الأدب الإسباني”، أو “تأثير الشعر العربي في الشعر الإسباني”.

 أيضًا: مثل: “تأثّر النحو بالفلسفة اليونانية”: هل تأثر النحو العربي في وضعه القواعد والمناهج وبعض النظريات الموجودة فيه، كنظرية العامل على سبيل المثال، بالنحو اليوناني وبقواعد اللغة اليونانية، أو أنَّ له منطقًا خاصًّا به وقواعدَ خاصةً به مستخلصةً من تأمّل المادة اللغوية التي جمعها الرواة في أوّل العصور الإسلامية؟

– وكموضوع: “تأثير أصول الفقه في علْم البلاغة”: هل أثر علْم أصول الفقه العربي الإسلامي في علْم البلاغة العربية، أم لم يؤثِّر فيها؟

– أيضًا: عندما يختار الباحث نقطةً معينة للبحث، مثل: “مدى تأثير المنطق اليوناني في علْم أصول الفقه”، هل أثّر في علْم أصول الفقه؟ وخصوصًا في مبحث العلّة ومسالك العلّة، وتحقيق المَناط وتخريج المناط، وغير ذلك من الموضوعات العميقة في علم أصول الفقه نفسه.

ونحو ذلك. فمثل هذه الموضوعات تحتاج إلى دراساتٍ كثيرةٍ ومتعمّقةٍ، ولا يتمكّن من القيام بها إلَّا باحثٌ متمكِّن.

فالمسائل ذات العلاقة بمجالاتٍ علْمية متنوّعة ومتعدّدة، تكون صعبة ومعقّدة، وتحتاج إلى مستويات علْمية كبيرة لا يمكن أن يقوم بها إلَّا باحثون متمكِّنون عندهم دراية وخبرة … وهكذا.

كذلك، ينبغي أن يتجنّب الباحث الموضوعات التي يشتدّ الخلاف حولها بين مُثبتٍ ونافٍ، وبين موافِق ومُخالف ومعارض. مثل هذه الموضوعات تكون صعبة على الباحثين المبتدئين؛ لأنهم كأنما يضعون أنفسهم داخل دوّامة لا يستطيعون أن يحدِّدوا لأنفسهم فيها مسارًا معيّنًا محدّدًا؛ فالأدلة تتجاذب وتتصارع، وهم في وسط المعركة غير قادرين على تحديد موقع لهم، ومن هنا فهم يحتاجون إلى مزيد من الفحص والتمحيص والمقارنة والموازنة، وربما لا يتمكّنون -خصوصًا في بداية حياتهم العلْمية والعملية- من القيام بمثل هذه البحوث.

لكن إذا كان الباحث في درجة الدكتوراه أو ما بعد الدكتوراه، فإنه يكون قد تزوّد بالخبرة اللازمة لإجراء مثل هذه البحوث، بل إنّ صعوبة مثل هذه البحوث قد تكون حافزًا وباعثًا يحفز الباحثين المتمكِّنين على القيام بها، والإقدام على إجرائها؛ بسبب ثقتهم في أنفسهم وفي خبرتهم العملية، وبسبب مهارتهم في تجنّب العقبات والصعوبات التي يُمكن أن يواجهوها في أثناء هذه البحوث. فأحيانًا يكون البحث أو الموضوع الصعب بمثابة تحدٍّ يقوم الباحث بمواجهته وبوضع نفسه فيه؛ حتى يُثبت جدارته وقُدرته على إجراء مثل هذه البحوث الصعبة المعقّدة.

هكذا نستطيع أن نجمع كلّ هذه الشروط ونحن نختار بحثًا علميًّا؛ ليتمكّن الباحث من السّيْر الآمن في إنجاز هذا البحث، وفي تحقيق النتائج المتوقّعة والمرجوّة منه.

ينبغي أن نشير إلى أنّ تحقيق هذه الشروط الكثيرة، سواء أكانت إيجابيّة أم سلبيّة، وبما تحتاج إليه من موافقة الأستاذ المشرف، أن هذا الاختيار لمثل هذا الموضوع بمثل هذه الشروط الكثيرة لا يعني تلقائيًّا أنه قد تحدّد بصفة نهائية؛ ولكن ينبغي أن يُعلم أنّ ذلك يكون اختيارًا أوّليًّا.

فهذه مسألة مهمة، ولذلك يجب الوصول إليها عن طريق قراءة كلّ ما له صلة بالموضوع؛ حتى يصبح الباحث على إلمام تامّ بما كُتب حوله في مجاله، ثم الاستفادة من الخبرة العلْمية السابقة التي اكتسبها الباحث إذا كان له خبرة سابقة، أو من استشارة أهل الذِّكر وذوي الاختصاص والاستعانة بنصائحهم، وأن يَعلم الباحث: أنّ البحث الجيد هو الذي يقدّم كثيرًا من الأفكار ويثير كثيرًا من التساؤلات. يعني: لا يشترط في كثير من البحوث العلْمية أن تؤدّي إلى نتائج محقّقة أو يقينيّة، ولكنها تفتح آفاقًا جديدة، ويُقدم الباحثون فيها على السّيْر في مجالاتٍ مبتكرة، وربما لا يتحقّق لهم في بعض الأحيان إلَّا قليل من النتائج، ولكنّ ذلك لا يقلِّل من قيمة البحث.

وعلى الباحث أن لا يبتئس إذا كان يبحث في موضوع، ثم تبدّى له أنّ ما حقّقه من النتائج قليل، إذا كانت هذه النتائج جادّة وجديدة، وإذا كانت قادرة على أن تُثري العلْم بخبرة جديدة تُضاف إلى معارف العلماء الذين يخوضون البحث العلْمي ويتمكّنون فيه.

مع هذه القراءات والاستشارات، لا بد أن يكون الباحث -كما سبق أن قلنا مِن قبْل- ذا كفاءة علْميّة، وأن يتوفّر له زمن ملائم لإنجاز بحثه الذي قد يحتاج إلى اطّلاع كثير، وإلى تأنٍّ ورويّة ومهارة للقيام به.

وهذه كلّها شروط لا بدّ من تحقيقها، بالإضافة إلى أن يكون لديه الرغبة في كتابة البحث وإنجازه.

error: النص محمي !!