Top
Image Alt

ارتباط النقد بالأدب في النشأة

  /  ارتباط النقد بالأدب في النشأة

ارتباط النقد بالأدب في النشأة

نتحدث هنا عن ارتباط النقد بالأدب أو العلاقة بين النقد والأدب، وما دام الكلام عن النقد الأدبي، فإنه من البدهي أن يكون الأدب هو موضوع هذا النقد، وهو ميدانه الذي يعمل فيه.

والأدب -أدب أي أمة من الأمم- هو: المأثور من الكلام البليغ، المصوِّّر لحقائق الحياة ومشاهدها ومظاهر الطبيعة، وقضايا الكون وعواطف الإنسان ومشكلاته، على أن يكون هذا الأدب مؤثرًا فيمن يقرؤه وفيمن يسمعه، سواء أكان هذا الأدب شعرًا أو كلامًا له نظام موسيقي معين، أو نثرًا ليس له نظام موسيقي معين.

والقصيدة من الشعر والخطبة والقصة والرواية والمسرحية كلها ألوان أدبية، وكلها مجالات للنقد الأدبي، والأدب أسبق في الظهور من النقد؛ لأن النقد ظلٌّ للأدب ومساير ومتابع له بالشرح والتحليل والتفسير والحكم، وبيان المزايا والعيوب.

فالنقد هو الذي يستكشف أصالة الأدب أو عدم أصالته، ويميز جيده من رديئه، فهو إذًا متصل بالأدب أشد اتصال، والبيئة التي لا يوجد فيها أدب لا يوجد فيها نقد أدبي؛ ولذلك نحن نجد تلازمًا بين الأدب والنقد عبر العصور وفي كل البيئات، فعندما يتحدثون عن الأدب الجاهلي يتحدثون أيضًا عن النقد في العصر الجاهلي، وعندما يتحدثون عن الأدب في عصر صدر الإسلام يتحدثون كذلك عن النقد في هذا العصر، وعندما يتحدثون عن الأدب في العصر الأموي، أيضًا يتحدثون عن النقد فيه، وكذا الأدب في العصر العباسي والنقد فيه.

ونجد أيضًا أن هناك شعراء كبارًا، كانوا محاور لحركة نقدية نشطة في العصر العباسي؛ مثلًا: كان المتنبي، الذي دارت حوله وحول شعره حركة نقدية نشطة، وكذلك: البحتري وأبو تمام، ومذهب أبي تمام في الشعر، دارت حول هذه الناحية أيضًا حركة نقدية نشطة، فلما تعددت بيئات الأدب تبع ذلك تعدد في بيئات النقد، وإذا اختلفت طبيعة الأدب في بيئة من البيئات بسبب الثقافة، أو الاختلاط بأمم أخرى أو النزوع إلى التجديد، أو أي شيء من الأمور التي تؤثر في الأدب؛ نجد حركة النقد تتأثر بهذه المؤثرات تبعًا لتأثر الأدب بها.

وفي العصر الحديث لما امتزجت الثقافة العربية أو تأثرت تأثرًا كبيرًا بالثقافة الغربية، وظهر أثر ذلك في الإبداع الأدبي؛ تأثر أيضًا النقد الأدبي بذلك، ولما ظهرت فنون أدبية جديدة في الأدب العربي الحديث كالقصة والرواية والمسرحية والمقال؛ ظهر أيضًا عندنا نقد مختص بهذه الفنون الجديدة.

فالنقد إذًا تابع للأدب ومرتبط به، ولا يمكن أن يتصور انفصال النقد عن الأدب، والدراسات النقدية التي نجدها أمامنا في المكتبة العربية تسلك طريقين، أو منهجين:

المنهج الأول: منهج تاريخي يسلك طريق العصور الأدبية المتتابعة، ويتتبع من خلالها مسيرة النقد الأدبي، كما هو الشأن في دراسة العصور الأدبية المتتابعة، من العصر الجاهلي حتى العصر الحديث.

ويدخل في هذا المنهج دراسة البيئات المختلفة في الأدب وفي النقد أيضًا، فبيئة الحجاز تختلف عن بيئة الشام، وهما مختلفتان عن بيئة العراق، وهذه كلها تختلف عن بيئة مصر، وهذه البيئات كلها تختلف عن الأندلس؛ لأن كل بيئة من هذه البيئات لها ظروفها السياسية والاجتماعية والثقافية التي صبغت الأدب فيها، وصبغت النقد فيها بصبغتها.

المنهج الثاني الذي سارت عليه الدراسات النقدية: المنهج الذي يتتبع القضايا النقدية، ويدرسها دراسة مفصّلة، حيث يعالج كل نوع من أنواع الأدب من خلال قضاياه ومسائله وأعلامه.

والمنهجان متداخلان؛ لأن المنهج التاريخ يعرض لهذه المسائل والقضايا، ويذكر الأعلام؛ والمنهج الثاني أيضا لا يستطيع أن يغضّ الطرف عن المؤثرات التاريخية والاجتماعية وغيرها.

لكن من الضروريّ الذي يجب أن ننبّه إليه هنا: أن النقد والأدب كلاهما يتطلب موهبة واستعدادًا في فهم النصوص، ومعرفة أسرار الكلام، والاهتداء إلى مزايا الكلام وعيوبه، فإذا كان النقد ظلًّا للأدب كما ذكرنا، فهو في حقيقته -أي: النقد- ملكة مكتسبة، وذكاء مثقف.

والأدب وإن كان مَلَكًة ممنوحة -أي: موهبة خالصة- إلا أنها تلف في تضاعيفها لتبلغ القمة ذكاء حادًّا وثقافة واسعة ومعرفة شاملة، والذي يربط بين الأديب والناقد، أو القاسم المشترك بينهما هو التذوق الأدبي، فالتذوق الأدبي معناه: القدرة على استجادة الكلام الجيد والميل له، ومعرفة الكلام الرديء والنفور منه، فهو تذوق كما يتذوق الواحد منا ألوان الطعوم المختلفة، فيميل بعد أن يتذوق بلسانه طعامًا ما يشتهيه، أو بعد أن يتذوق بلسانه طعامًا ما ينفر منه، أيضًا هذه العملية موجودة عند الأدباء وعند النقاد، فلا بد أن يكون عند الأديب وعند الناقد الأدبي هذه الحاسَّة، التي تجعله قادرًا على تمييز الجيد من الرديء من الكلام.

الأدب إذًا غصن في لوحة الفن -كما يقول أستاذنا الدكتور عبد الرحمن عثمان عليه رحمة الله- وهذا الأدب لا يعرف القيود، ولا يملك زمامه قانون أو قاعدة؛ لأنه إبداع على غير مثال، فالأديب يصف الطبيعة، يصف مشاعر نفسه، يصور موقفه من الكون، موقفه من الحياة، رأيه في قضية من القضايا؛ وذلك بأسلوب غاية في الإبداع، يؤثر في قارئه وفي سامعه، فعنده كمّ من الحرية في استلهام المعاني، حتى ذهب بعض الدارسين والمؤرخين إلى القول بنظرية الإلهام والفيض وأن الأديب يلهم إلهامًا ما يقوله، وهنا فرق بين الأدب والنقد إذا كان الأدب كذلك، فالنقد هو شرح ما في الأدب من إبداع، وبيان تفاصيله، وتفسير هذا الأدب، والحكم عليه بالجودة أو الرداءة.

ومن هنا؛ فالناقد ليس ممتلكًا قدرًا من الحرية كالقدر الذي يمتلكه الأديب، حيث إن الأديب يستلهم الطبيعة، ويستوحي مشاعر نفسه، ويُبِين عن رأيه من غير أن يكون ملتزمًا بقواعد أو قوانين غير تلك القواعد المعروفة للفن الذي يبدع فيه، قواعد الشعر أو قواعد الخطابة أو قواعد القصة أو غير ذلك؛ لكن الناقد لا بد أن يكون ملتزمًا بالموضوعية، وأن يكون مسلحًا بالثقافة، وأن يكون ملتزمًا بحدود النص الذي يدرسه، ويفسره ويبين رأيه أو حكمه فيه.

وبسبب هذا الاختلاف بين طبيعة الأدب، وطبيعة النقد مع أنهما متلازمان، نجد فرقًا بين المذهب في الأدب والمذهب في النقد، فالمذهب الأدبي هو الطريقة التي يصور بها الأديب إحساسه، ويُؤْثرها على غيرها في إخراج أفكاره وصياغتها، ومع أن كل أديب له مذهبه الأدبي الذي لا يشترك فيه معه غيره -أي: له أسلوبه الذي يميزه عن غيره- فإننا نستطيع أن نجد المذهب الأدبي الذي يجمع عددًا معينًا من الأدباء أو من الشعراء في سمات مشتركة وفي طريقة التعبير وطريقة التصوير، كما هو الحال فيما يقال عن مدرسة الشعراء المطبوعين، أو مدرسة الصنعة، أو عندما يقال مثلًا في العصر الحديث عن المحافظين وعن المجددين؛ فكل طائفة من هذه الطوائف لها مذهب أدبي، وإن كان كل شاعر في هذه الطائفة له أسلوبه الذي يميزه عن زملائه من الشعراء.

أما المذهب النقدي فإنه يعتبر فهمًا أو دراسة للأدب، وهو يستعين في فهم هذا الأدب وتفسيره بما يستطيع هذا الناقد أو ذاك تحصيله من المعارف المتصلة بالعملية الإبداعية والمتصلة بالدرس الأدبي، سواء كانت هذه الثقافة نفسية أو تاريخية أو لغوية أو بلاغية أو جمالية؛ ليستطيع الكشف عن أسرار الأدب الذي يدرسه، وليستطيع الحكم عليه بالجودة أو الرداءة.

وتتشاعب المذاهب النقدية تشعبًا كبيرًا يرجع إلى اختلاف وجهات النظر عند النقاد، وعدم التقاء أفكارهم في نقطة واحدة من حيث البدء والنظر إلى الوسائل، وإن كانوا يلتقون جميعًا في غاية لا جدال فيها ولا تعدد، وهذه الغاية هي الإفصاح عما في النصوص من جودة أو رداءة.

وتختلف وجهات النظر عند النقاد تبعًا لاختلاف: الثقافة، والنشأة، والتوجّه، والغاية التي يتوخاها الناقد من الأدب، فبعض النقاد يذهب إلى الغاية النفعية الخلقية، وبعضهم يتغيّا الغاية الجمالية الفنية الخالصة، دون نظر إلى المقاييس الأخلاقية، فهذا كله يؤدي إلى اختلاف المذاهب النقدية.

ومن الفروق التي يجب ملاحظتها بين النقد والأدب أن الأدب يصوّر عاطفة، فلا بد فيه من العاطفة، وصدق العاطفة في الأدب مقياس من المقاييس التي تجعل نصًّا يتفوق على نص، ولا يجوز في الناقد أن يصدر في عمله عن عاطفة؛ بمعنى: أنه لا يصح للناقد عندما يتعرض لنقد عمل أدبي ما، أن يصدر في هذا العمل عن عاطفة حب لهذا الأديب أو عاطفة كره له؛ لأنه لو صدر عن هذه العاطفة، فإنه سيكون إما منحازًا لهذا الشاعر أو هذا الأديب بسبب حبه له، أو متحاملًا عليه بسبب بغضه وكراهيته له، فلا بد أن يصدر الناقد في عمله عن مقاييس فكرية وثقافية وفنية، لا علاقة لها بعاطفته نحو الأديب الذي يتعرض لتفسير عمله وشرحه، والحكم عليه.

والخطوات التي تتم بها عملية النقد تبدأ بـ:

الخطوة الأولى: وهي: التثبت من نسبة النص إلى قائله، وذلك بأن يكون هذا النص موجودًا في ديوان الشاعر إن كان هذا النص شعرًا، وأن يكون هذا الديوان موثقًا؛ أي: هناك تأكد من نسبة ما فيه إلى صاحبه عن طريق إجماع الرواة الثقات، على صحة هذه النسبة.

الخطوة الثانية: ربط النص الأدبي المدروس بالعصر الذي قيل فيه، وبثقافة صاحبه والثقافة الشائعة في عصره؛ لما لذلك من أثر بالغ في طريقة الحكم عليه، ويتصل بهذا أيضًا معرفة ما يمكن معرفته عن حياة صاحب النص، والمؤثرات العقدية والاجتماعية التي كانت تؤثر فيه، والتي لا شك تؤثر في أدبه.

الخطوة الثالثة: معرفة الأدباء الذين أثروا في الأديب، سواء أكانوا في عصره أو كانوا سابقين عليه؛ لأن التلمذة في الأدب شيء موجود، وكثير من الأدباء يكونون متأثرين بمشايخهم أو أساتذتهم في الفن الذي يبدعون فيه.

بعد هذه الخطوات تأتي خطوات أخرى، وهي: القراءة المتأنية للنص الذي يراد نقده، ثم التعمق في فهمه، والتعرف إلى الغايات التي من أجلها أنشأ هذا الأديب نصه.

ثم تأتي خطوة بعد ذلك، وهي: خطوة الشرح والتحليل مع المقارنة والموازنة بين النص المنقود أو النص المدروس، وما يشبهه في الماضي أو الحاضر، وكل ذلك يتم من أجل الوصول إلى حكم على هذا العمل؛ إما بالجودة وإما بالرداءة، وليس معنى هذا أن يكون الحكم بالضرورة جودة مطلقة أو رداءة مطلقة، وإنما المقصود أن يبين الناقد منزلة هذا العمل من الجودة، أو ما فيه من بعض القصور أو نواحي الضعف.

وإذا استطاع الناقد من خلال ثقافته، ومن خلال حياده، ومن خلال إخلاصه في قراءة النص وشرحه وتفسيره، ومحاولة الوصول إلى جوانب الجودة فيه، وإلى معرفة نواحي الضعف إذا وجدت في هذا النص نواحٍ للضعف، إذا استطاع أن يفعل ذلك؛ يتمكن أن يحكم حكمًا قريبًا إلى الصواب، أو حكمًا صائبًا على هذا العمل بالجودة أو الرداءة.

ومن المعروف أن أي عمل أدبي له مضمون وله شكل، ولكي يكون الناقد دقيقًا في عمله فإن عليه أن يطيل الوقوف أمام هذين العنصرين في العمل الأدبي، وهما عنصر المضمون وعنصر الشكل.

فالمضمون: المعنى، والأفكار التي وردت في هذا النص، يبحث الناقد فيها على صورة تساؤلات: هل جاء المعنى مستقيمًا أم جاء ملتويًا؛ بحيث يصعب على السامع أو القارئ إدراكه؟ هل المعاني والأفكار التي وردت في هذا النص ممكنة أو جائزة الوقوع، أم مستحيلة؟ هل المعاني والأفكار التي وردت في هذا النص واضحة أم غامضة؟ هل المعاني والأفكار التي وردت في هذا النص من ابتكار هذا الأديب، أو مأخوذة من غيره؟ هل هو متأثر بغيره فيها؟ وما هي المؤثرات التي أوحت إليه بهذه المعاني؟ ومن جهة العاطفة: هل الأديب صادق مع نفسه، أم أنه مزيف ومدعٍ وكذاب؟ هل ما تضمنه النص مطابق للواقع، أم مخالف له؟ ما نسبة الصدق في هذا النص الأدبي؟

ثم يتساءل في عنصر الشكل، وهو: اللغة التي صِيغت بها الأفكار والمعاني والعواطف، أو يسائل الناقد نفسه: هل استطاع الأديب أن يصوغ معانيه وأفكاره صياغة بارعة، من خلال الألفاظ المنتقاة المناسبة البريئة من العيوب؟ هل استطاع أن يضع هذه الألفاظ في جمل متناسقة متناسبة، تضفي على النص جمالًا وموسيقية؟ هل استطاع الأديب أن يختار من الأخيلة، وألوان التصوير ما يقرب معانيه، وأفكاره إلى المتلقي؟ هل بين الألفاظ والمعاني والأخيلة والصور تناسب وتناسق وتعاون، أم بينها تنافر وتباعد؟

ثم يأتي حكم عام يتساءل فيه الناقد، وهو يدرس هذا العمل المنقود أو النص الأدبي: هل استطاع الأديب أن يقنع قرّاءه أو سامعيه بما أراد أن يقنعهم به؟ هل استطاع أن يؤثر فيهم التأثير المرجوّ من هذا العمل؟

بهذه التساؤلات، ومن خلال هذه الخطوات تتم عملية النقد الأدبي.

error: النص محمي !!