استحباب ذكر المهر في العقد
قلنا: إن ذكر المهر في العقد ليس شرطًا في صحته، لكن يستحب ذكره فيه، وإن لم تقبضه الزوجة، كما يُستحب شيء لها قبل الدخول؛ تطييبًا لخاطرها، والدليل على استحباب ذكره في العقد: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُزوج بناته، ويزوج غيرهن؛ ولم يكن يخلي النكاح من صداق؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم للرجل الذي زوجه الموهِبة: “هل من شيء تصدقها، إلى أن قال صلى الله عليه وسلم: ((التمس ولو خاتمًا من حديد))، فلم يجد فزوجه صلى الله عليه وسلم إياها بما معه من القرآن؛ فهذا دليلٌ على استحباب تسمية الصداق؛ ولأنه أقطع للنزاع والخلاف في قدره، ويرى الشافعية، والحنابلة أن تسميته في العقد سنة.
سبب وجوب المهر للزوجة:
يجب المهر على الزوج ويستقر في ذمته لزوجته بواحد من أمرين:
الأمر الأول: بمجرد العقد الصحيح؛ حتى ولو لم يكن دخولٌ؛ بل يجبُ بالخلوة وحدها، سواءٌ كان بعدها دخول، أو موت، أو طلاق بغير دخول، وهذا رأي جماهير أهل العلم.
الأمر الثاني: الدخول بالمرأة في الزواج الفاسد يتقرر به المهر في ذمة الزوج، بخلاف الخلوة في النكاح الفاسد؛ فإنها لا تُوجب شيئًا من المهر على الإطلاق، لكن ماذا يجب للمرأة من المهر للدخول في النكاح الفاسد؟
ذهب جمهور الفقهاء: إلى أنه يجب للمرأة مهرُ مثلها، بشرط ألا يزيد على المسمى لها من زوجها؛ فإن زاد عن المُسمى؛ فلها المسمى فقط.
مقدار المهر:
اختلف جمهور الفقهاء في أقل المهر -أي: في القدر الواجب شرعًا، والذي لا ينعقد النكاح بأقل منه- فذهب الحنفية: إلى أن أقله عشرة دراهم، وذهب المالكية: إلى أن أقله ربع دينارٍ من الذهب، أو ثلاثة دراهم من الفضة، وذهب الشافعية، والحنابلة، والظاهرية: إلى أنه لا حد لأقله، فيصح بالقليل جدًّا، وإن كان دون الدرهم، بينما اتفق جمهور الفقهاء على أن المهر لا حد لأكثره؛ فيجوز بالكثير بالغًا ما بلغ، وإن كان الجميع يرى عدم المغالاة فيه، واستحباب تقليله.
واستدل الجمهور على أن الصداق لا حد لأكثره بالكتاب، والسنة، والأثر.
أولًا: الكتاب: قال تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا } [النساء: 20]؛ فالآية دليل على جواز المغالاة في المهور؛ لأن الله -سبحانه- قد مثل بالقنطار، والله لا يمثل إلا بالمباح؛ فالقنطار أعلى حد لأن يكون صداقًا، وقد اختلف في تحديده؛ فقيل: إنه ألف أوقية ومائة أوقية، وهو أصح الأقوال.
وقيل: القنطار اثنا عشر ألف أوقية من الذهب.
وقال أبو سعيد الخدري: “القنطار ملء جلد الثور من ذهب”.
ثانيًا: السنة: روي عن أم حبيبة <: “أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها، وهي بأرض الحبشة، زَوّجها النجاشي، وأمهرها أربعة آلاف، وجهزها من عنده، وبعث بها مع شرحبيل بن حسنة، ولم يبعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء، وكان مهر نسائه أربعمائة درهم”.
ثالثًا: الأثر: ورد: “أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خطب الناس يومًا، فقال: ألا لا تغالوا في صدقات النساء؛ فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا، أو تقوى عند الله لكان أولاكم بها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ما أصدق قط امرأة من نسائه، ولا بناته فوق اثنتي عشرة أوقية؛ فقامت إليه امرأة، فقالت: يا عمر، يُعطينا الله وتحرمنا أليس الله سبحانه وتعالى يقول: {وَآَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء: 20]، فقال عمر: أصابت امرأة وأخطأ عمر”.
استحباب تقليله وعدم المغالاة فيه:
اتفق العلماء سلفًا وخلفًا على استحباب تقليل المهر وعدم المغالاة فيه، واستدلوا على ذلك بالسنة، والأثر.
فمن السنة: قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن أعظم النساء بركة أيسره مؤنة))، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((خير الصداق أيسره))؛ فالحديثان دليل على أن المستحب في النكاح أن يكون قليلَ المهر، والحكمة من ذلك: تشجيع الشباب على الزواج؛ حتى يكثر النسل الذي رغب فيه صلى الله عليه وسلم.
ومن الأثر: قول عمر رضي الله عنه: “لا تغلوا في صدقات النساء…”؛ فهذا دليل آخر على استحباب تقليل المهر، وعدم المغالاة فيه.
هل يجوز شرعًا أن تكون العروض صداقًا؟
نقول: اتفق جمهور الفقهاء -عدا الحنفية- على جواز صحة جعل عروض التجارة صداقًا، أي: يصح للزوج أن يدفعها صداقًا لزوجته، ويصح للمرأة أن تقبلها وتتملكها، بشرط أن تكون طاهرة، منتفعًا بها شرعًا، مقدور على تسليمها، معلومة غير مجهولة.
والدليل على صحة جعل العروض صداقًا، قوله صلى الله عليه وسلم لامرأة تزوجت على نعلين: ((أرضيت من نفسك ومالك بنعلين؟ قالت: نعم؛ فأجازه))، وقولهصلى الله عليه وسلم: ((لو أنّ رَجلًا أعطى امرأة صداقًا ملء يديه طعامًا كانت له حلالًا))، وقوله صلى الله عليه وسلم لرجل أراد التزويج: ((هل عندك من شيء تصدقها إياه؟ فقال: ما عندي إلا إزاري هذا؛ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إن أعطيتها إزارك جلست لا إزار لك؛ فالتمس شيئًا؛ فقال: ما أجد شيئًا، فقال: ولو خاتمًا من حديد)).
ووجه الدلالة من الأحاديث السابقة: أنها تدل جملة وفرادى على صحة وجواز جعل العروض صداقًا؛ لعدم اعتراضه صلى الله عليه وسلم على أي منها؛ بل إن في بعضها كان صلى الله عليه وسلم نفسه يطلب العرض من الزوج؛ ليكون صداقًا، ولا أدل على الجواز من هذا، يؤيده قول الحق سبحانه وتعالى : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} [النساء: 24].
والمال كما يطلق على العين من الذهب، والفضة، يطلق على العرض كذلك؛ لأنه يقوم مقام المال، وبدليل أن بعض الناس يقضي حاجاته بمبادلة العروض مع الآخرين، وليس المراد بالمال خصوص العين كما ذهب الحنفية، وبناءً عليه؛ فيجوز شرعًا أن يكون صداق الزوج لزوجته منزلًا، أو سيارة، أو قطعة أرض معينة محدودة؛ كما يجوز أن يجهز الزوج منزل الزوجية بالفرش، والأثاث، ويجعله صداقًا لزوجته ونحو ذلك؛ فكل ذلك جائز.
جعل المنافع صداقًا: هل يجوز شرعًا أن تكون صداقًا؟
الكلام في هذه المسألة يكون في نقطتين:
الأولى: المنافع الحسية كالإجارة، والخدمة، والسكنى ونحو ذلك. الثانية: المنافع المعنوية كالتعليم، والتحفيظ، والعتق ونحو ذلك. وسواء كانت المنفعة حسية، أو معنوية؛ فإنها لا تصلح صداقًا إلا إذا كانت متقومة، أي: يصحُّ أن يدفع في مقابلها المال، أما المنافع التي لا يصح أن يكون في مقابلها المال، فلا تصح أن تكون صداقًا، كمن تزوج امرأة وجعل صداقها ألا يتزوج عليها، أو جعل صداقها أن يطلق ضرتها ونحو ذلك؛ فإنه لا يصح أن يكون صداقًا؛ لعدم تقومه، وهذا قدر متفق عليه بين الجميع، لا خلاف فيه لأحد.
ولتفصيل القول في هذه المسألة، نقول:
أولًا: المنافع الحسية: اتفق جمهور الفقهاء -عدا الحنفية- على صحة جعل المنافع الحسية صداقًا؛ فيجوز للرجل أن يتزوج امرأة ويجعل صداقها خدمتها سنة، أو رعي غنمها سنة، أو يقوم ببناء بيتها، أو زراعة أرضها مدة معينة، وما شاكل ذلك.
والدليل على ذلك الكتاب، والسنة، والمعقول:
أما الكتاب: فقول الله تعالى: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص: 27]،
وجه الدلالة من الآية: أن هذه الآية، جاءت خلال قصة سيدنا موسى –عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام- مع الرجل الصالح من أهل مدين، وهي دليل على جواز النكاح بالإجارة، أي: أن تكون الإجارة صداقًا، بنص الآية في قوله -سبحانه: {عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ}، والآية التي قبلها مباشرة: {قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص: 26]؛ فقد جرى في هاتين الآيتين ذكر الإجارة وجعلها صداقًا، ولا يقال: إن هذا شرع من قبلنا؛ لأنه وإن كان كذلك لكنه لم يرد له ناسخ في شرعنا؛ ومن ثم فيكون شرعًا لنا كذلك.
ثانيًا: السنة: قوله صلى الله عليه وسلم: ((أنكحوا الأيامى، وأدوا العلائق، قيل: ما العلائق يا رسول الله؟ قال: ما تراضى عليه الأهلون، ولو قضيبًا من أراك)).
وجه الدلالة من الحديث: أنه دل على صحة جعل الصداق أي شيء غير المال؛ فقوله صلى الله عليه وسلم: ((ما تراضى عليه الأهلون))، عام يشمل الأموال، والمنافع، والعروض، ولو كان أحد هذه الثلاثة لا يجوز بذله صداقًا، لما أطلق صلى الله عليه وسلم اللفظ دون تقييد؛ فهذا دليل على صحة جعل المنافع صداقًا.
ثالثًا: المعقول: وهو أن المنفعة متقومة بالمال؛ لأنه يجوز أخذ العوض عنها في الإجارة، والخدمة؛ فصحت أن تكون صداقًا.
ثانيًا: المنافع المعنوية: أجاز الشافعية، والظاهرية، والمالكية على المشهور عندهم، وأحمد في رواية عنه، جعل التعليم صداقًا؛ وهو منفعة معنوية؛ فيجوز للرجل أن يجعل صداق زوجته تعليمها شيئًا من القرآن، أو من غيره من العلوم الشرعية، التي يصح أخذ العوض عنها، واستدلوا على ذلك بالسنة، والمعقول:
أولًا: السنة: ما أخرجه الشيخان عن سهل بن سعد، في المرأة التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم ولم يجبها حتى قام رجل، وقال: يا رسول الله، أنكحنيها، قال: ((هل عندك من شيء))، قال: لا، قال: ((اذهب واطلب ولو خاتمًا من حديد))، فذهب وطلب، ثم جاء، فقال: ما وجدت شيئًا، ولا خاتمًا من حديد، قال: هل معك من القرآن شيء؟ قال: معي سورة كذا، وسورة كذا، قال: ((اذهب فقد أنكحتكها بما معك من القرآن)).
وجه الدلالة من الحديث: أنه نص في الموضوع؛ فقد جعل صلى الله عليه وسلم صداق الرجل لزوجته تعليمها ما يحفظ من القرآن، وليس أدل على الجواز من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وقد ورد الحديث بروايات متعددة، وهي يقوي بعضها بعضًا، وقد عُين في لفظ لأبي هريرة، مقدار ما يُعلمها؛ وهو عشرون آية.