استعمالُ وسائل التوضيح المحسوسة كالرسم والإشارة
ومن وسائل الأداء الطيب الذي يسهّل التحمل, ويوصّل إلى الوعي بالحديث: استعمالُ وسائل التوضيح المحسوسة، فقد استعمل الرسول e الرسم الهندسي لربط الحقائق بالخطوط التي يتكون منها هذا الرسم؛ فعن عبد الله > أنه قال: خط النبي e خطًّا مربعًا -أي: رسم مربعًا- وخط خطًّا في الوسط خارجًا منه، وخط خُططًا -أي: خطوطًا- صغارًا إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط, وقال: ((هذا الإنسان -الخط الذي في الوسط- وهذا أجله محيط به أو قد أحاط به -للمربع- وهذا الذي هو خارج -أي: عن المربع- أمله، وهذه الخطط الصغار الأعراض -التي لا ينتهي بها الأجل, وإنما تكون في حياة الإنسان- فإن أخطأه هذا نهشه هذا، وإن أخطأه هذا نهشه هذا)) فهذا الرسم مع توضيح المراد به يتحصل في الذهن من جانبين؛ من جانب الرسم ومن جانب ما يعبر عنه الرسم من الحقائق، فإذا ولد الرسم ولدت الحقائق المرتبطة به, وإذا ولدت الحقيقة من هذه الحقائق ذكرت بباقي الحقائق عن طريق هذا الرسم، وكل ذلك يساعد على التحمل وييسر الأداء، ويقوم مقام جوامع الكلم المغنية عن كثير من التفاصيل.
وقد يترك الرسول e للسامع أن يرسم هو الرسم الهندسي، لكنه ينقل ما يعبّر عن هذا الرسم، وقد يذكره من قِبل نفسه, وقد ينقله في حديث قدسي عن اللهI, قال e: ((إن الله ضرب مثلًا صراطًا مستقيمًا، على كنفي الصراط سوران -أي: شيئان مرتفعان- لهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور وداعٍ يدعو على رأس الصراط، وداعٍ يدعو من فوقه، {وَاللّهُ يَدْعُوَ إِلَىَ دَارِ السّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَىَ صِرَاطٍ مّسْتَقِيمٍ} [يونس: 25]
فالأبواب التي على كنفي الصراط -أي: جانبيه- حدود الله، لا يقع أحدٌ في حدود الله حتى يكشف ستر الله، والذي يدعو من فوقه واعظ الله في قلبه)) فهنا يعطي رسمًا لطريق مستقيم, على جانبيه أسوار أو حوائط فيها أبواب، على هذه الأبواب ستور وداعٍ يدعو على رأس الصراط؛ ليصل إليه السائرون ولا ينحرفوا، وداعٍ يدعو فوقه ليعظ الناس ويمنعهم أيضًا من الانحراف، فإذا انحرف إنسان وفتح الستر فإنه ينتهك حدًّا من حدود الله I.
وهذا المثل المبني على رسم هندسي, ووضعٍ للناس في طريقهم التي يسيرون عليها يعطي من المعنى المقصود ما لا تستطيع الكلمات الكثيرة التعبير عنه، وييسر التحمل والأداء.
وقد يكتفي الرسول e بحركةٍ أو إشارة عن الكلام الذي يتكلم عنه؛ فقد حذر من استصغار الفتن أو التهاون بالقليل من الأخطار بإشارة من أصابعه، في صورة مخصوصة أغنت عن كثير من عبارات التحذير؛ “دخل النبي e على زينب بنت جحش فزعًا, يقول: ((لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه))، وحلق بأصبعيه الإبهام والسبابة أو التي تليها، قالت زينب بنت جحش: فقلت: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: ((نعم، إذا كثر الخبث))” فقد كشف الله لرسوله e انفتاح جزء يسير من سدّ يأجوج ومأجوج، عبر عنه بالحلقة الصغيرة، فأخبر الناس وحذّرهم من ذلك، وهو يدل على وجوب مراقبة مواقع الخطر، وتحديد هذا الخطر مهما كان صغيرًا، ومواجهته قبل أن يستفحل أو يكبر، فما قدر الحلقة بين الإبهام والسبابة بالنسبة إلى الردم الهائل الكبير.
وفيه أيضًا ما يبعث على استعمال الوسائل التكنولوجية والاستخباراتية, وغير ذلك من وسائل الاستطلاع لمعرفة الشيء الذي فيه خطر مهما دقّ ومهما صغُر، والمسلمون جميعًا في إطار هذا الحديث مشتركون في المسئولية عن مثل هذه الأمور، وارتباط هذا الحديث بالخطر الذي يعبر عنه يسهّل حفظه وييسر أداءه.
وكان النبي e أيضًا ينكت الأرض أحيانًا للتعبير عن حقيقة تحتاج إلى تأمّل أو تحتاج إلى معرفة، كما نكت الأرض ثم قال لهم: ((ما منكم من أحد إلا قد كُتب مقعده من الجنة, ومقعده من النار))، فقال له بعض الصحابة: يا رسول الله, أفلا نتكل على كتابنا؟ قال: ((اعملوا؛ فكل ميسّر لما خُلق له)) فالمقادير حددها الله I والأعمال ألزم بها، ولا يُترك العمل بحجة القدر؛ لأنه مجهول بالنسبة إلينا، ولا نكفر بالقدر؛ لأننا نعمل في إطار حدودنا وإمكاناتنا، ونسلّم لله تعالى ما قدره ودبّره.
وقد استعمل الرسول e الإشارة في الفصل بين المتنازعين؛ ليفهمها من أشير إليه، ولئلا يفهمها غير المقصود بهذه الإشارة، فإذا فهمها المشار إليه بنى الحكم على مدى استجابته لهذه الإشارة، وإذا لم يفهم يعبر له عن المراد، وقد فهم الصحابة إشارات الرسول e في كثير من المواطن؛ مما يدل على قوة التفاعل بين العالِم والمتعلّم ووصول الحقيقة العلمية بأيسر طريق؛ فعن كعب بن مالك >: أنه تقاضى ابن أبي حدرد دينًا له عليه في عهد رسول الله e في المسجد، فارتفعت أصواتهما حتى سمعها رسول الله e وهو في بيته، فخرج إليهما حتى كشف سِجْفَ حُجرته -أي: سِتْرها- ونادى كعب بن مالك قال: ((يا كعب))، قال: لبيك يا رسول الله، فأشار بيده أن ضع الشطر من دينك، قال كعب: قد فعلتُ يا رسول الله، قال رسول الله e: ((قم فاقضه)). فإشارته e كانت تحمل علمًا يفهمه المشار إليه، وذلك يغني عن سماع كلامه وكلام خصمه، ومحاولة الفصل في هذا الادعاء؛ لأنه عرف القضية وأراد الانتهاء منها، فبدأ بما يتصل بالحكم، واستجاب الصحابي لرسول الله e وعرف صاحبه أنه قد تنازل له عن نصف الدين فقام ليقضيه هذا الدين، وحُلَّت المشكلة، وارتبط حلها بهذا الأمر أو بهذا الأسلوب الذي يساعد على تحصيلها، وعلى فهمها.