Top
Image Alt

اعتزاز الصحابة بالعناية بالحديث والعمل بالسنة، ودلائل حفظهم ووعيهم

  /  اعتزاز الصحابة بالعناية بالحديث والعمل بالسنة، ودلائل حفظهم ووعيهم

اعتزاز الصحابة بالعناية بالحديث والعمل بالسنة، ودلائل حفظهم ووعيهم

ومن مناهج الصحابة بالنسبة للحديث: اعتزازهم بعنايتهم بالحديث وعملهم بالسنة، فقد ضبط الصحابة حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, وكان الواحد منهم إذا روى حديثًا يعلم أنه معرّض للنقد سندًا ومتنًا، وأن أي تهاون في ضبط الحديث يوقعه -أي: الصحابي- في حرج عظيم، وتمنى كل منهم أن يكفيه غيره الرواية، لكن إذا تعين عليه أن يحدّث فإنه يحدّث خوفًا من أن يقع في كتمان الحديث، وقام بالرواية, وتواتر بينهم حديث: ((من كذب عليّ متعمدًا؛ فليتبوأ مقعده من النار)) وذكروه في مناسبات كثيرة، واستوفى الكثير منها الطبراني في معجمه الكبير، وبيّن الصحابي منهم سبب روايته أو كثرة روايته للحديث.

قال أبو هريرة: “إن الناس يقولون: أكثر أبو هريرة، والله لولا آيتان في كتاب الله ما حدثت حديثًا” ثم تلا الآيتين في كتمان العلم: {ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ-رضي الله عنهم- [البقرة: 159] إلى آخر الآية، و{ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ-رضي الله عنهم- [البقرة: 174] إلى آخر الآية. فأراد أبو هريرة أن يقول: إن روايته للحديث ليست للتفاخر أو لاستكثار أو إظهار المزية؛ ولكنها قيام بواجب ديني يخشى أن يفرّط في القيام به.

وعن عروة أن عائشة رضي الله عنها قالت: “ألا أعجبك أبو هريرة؟ جاء فجلس إلى جانب حجرتي يحدّث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسمعني ذلك، وكنت أسبّح؛ فقام قبل أن أقضي سبحتي، ولو أدركته لرددت عليه: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يكن يسرد الحديث كسردكم” وكان وقوف أبي هريرة إلى جانب الحجرة؛ ليختبر حفظه بحفظ عائشة <, وكان يقول: “اسمعي يا صاحبة الحجرة”، وكان يريد أن يبين أن على المحدث أن يبلغ الحديث بأي وسيلة من التبليغ، ولا حجر عليه في ذلك، وأن إيثار ما كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يفعله فيما يتصل بالتعليم والتحديث هو أمرٌ فاضلٌ, لكن غيره أيضًا فيه فضل بتنوع الصحابة في رواية الحديث، ولعدم قيام واحد دون غيره بما كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يقوم به.

وقال أبو هريرة: إنكم تزعمون أن أبا هريرة يكثر الحديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والله الموعد، إني كنت امرأً مسكينًا ألزم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على ملء بطني، وكان المهاجرون يشغلهم الصَّفْق بالأسواق، وكانت الأنصار يشغلهم القيام على أموالهم، فشهدت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم، وذكر قصة الرداء وأن الرسول-صلى الله عليه وسلم- قصّه بما وضع في الرداء لعدم نسيانه شيئًا، وحدّث بحديث: ((من صلى على جنازة فله قيراط، ومن صلى عليها وتبعها فله قيراطان)) فقال عبد الله بن عمر: انظر ما تحدّث! فإنك تكثر من الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- -لم يعترض عليه, ولكنه قال له: تأكد من حديثك- فأخذه أبو هريرة بيده فذهب به إلى عائشة، فسألها عن ذلك فقالت: صدق أبو هريرة، فقال له -أي: لعبد الله بن عمر: يا أبا عبد الرحمن، إنه والله ما كان يشغلني عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الصفق بالأسواق، إنما كان يهمني كلمة من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يعلّمُنيها أو لقمة يطعمنيها, فقال ابن عمر: “أنت أعلمنا يا أبا هريرة برسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأحفظنا لحديثه”.

وجاء رجل إلى طلحة بن عبيد الله فقال: يا أبا محمد, أرأيت هذا اليماني -يعني أبا هريرة- أهو أعلم بحديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منكم, نسمع منه أشياء لا نسمعها منكم؟ أم هو يقول عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما لم يقل؟ قال: “أما أن يكون سمع ما لم نسمع فلا أشك، سأحدثك عن ذلك؛ إنا كنا أهل بيوتات وغنم وعمل، كنا نأتي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- طرفَي النهار, وكان مسكينًا ضيفًا على باب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-, يده مع يده، فلا نشك أنه سمع ما لم نسمع، ولا تجد أحدًا فيه خيرٌ يقول عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما لم يقل”، وقال أبو هريرة: “بلغ عمر حديثي، فأرسل إليّ فقال: كنت معنا يوم كنا مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في بيت فلان؟ قلت: نعم، وقد علمتُ لأي شيء سألتني, قال: ولِمَ سألتك؟ قلت: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال يومئذ: ((من كذب عليّ متعمدًا؛ فليتبوأ مقعده من النار)) قال: أما لا، فحدِّث”.

فكان أبو هريرة -رضي الله عنه- يحفظ ما قيل فيه الحديث، ومن قيل له الحديث، بالإضافة إلى حفظه للحديث، وقال أبو هريرة: أخذت الناس ريحٌ بطريق مكة, وعمر بن الخطاب حاجٌّ فاشتدّت عليهم، فقال عمر لمن حوله: من يحدثنا عن الريح -أي: مما قاله الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيها؟ فلم يرجعوا إليه شيئًا, قال: فبلغني الذي سأل عنه عمر من ذلك, فاستحثثتُ راحلتي -أي: شجعتُها على السير- حتى أدركته فقلت: يا أمير المؤمنين, أُخبرت أنك سألت عن الريح, وإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ((الريح من رَوْح الله, تأتي بالرحمة وتأتي بالعذاب، فإذا رأيتموها فلا تسبوها، وسلوا الله خيرها، واستعيذوا به من شرها)) فكان أبو هريرة -رضي الله عنه- يحدث عمر مع شدة عمر فيما يتصل بالتحديث، وأقام له الدليل على صدقه فيما يقوله وأمانته في الحديث، وأعطاه عمر إذنًا خاصًّا لم يعطه لراوٍ غيره.

وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه قال: “قال لي عمر: يا عدو الله وعدو الإسلام، خنتَ مال الله! قلت: لستُ بعدو الله ولا عدو الإسلام؛ ولكني عدو من عاداهما، ولم أخن مال الله ولكنها أثمان إبلي وسهام لي اجتمعت، قال: فأعادها عليّ وأعدت عليه هذا الكلام، وكان واليًا لعمر، قال: فغرمني اثني عشر ألفًا، قال: فقمت في صلاة الغداة فقلت: اللهم اغفر لأمير المؤمنين” وهذا يدل على سماحته وعلى أن الدنيا عنده لا تساوي شيئًا، وعلى عذره لأمير المؤمنين في تشدده في أمر الأموال لمصلحة المسلمين، وإن حصل بسبب ذلك أذًى لمن أتى بهذه الأموال، فلما كان بعد ذلك أرادني على العمل فأبيت عليه، ثم ذكر باقي الحديث وأنه قال لعمر: “أخاف أن أقول بغير علم، وأن أفتي بغير علم, وأن يضرب ظهري، وأن يشتم عرضي, وأن يؤخذ مالي بالضرب”، وكل ذلك يبين اعتزاز الصحابة بأمانتهم وحفظهم للحديث وعنايتهم به، وغير ذلك من أمور العدالة والضبط.

وقد ظهر فضلهم ودلائل حفظهم ووعيهم؛ فقد أرسل مروان إلى أبي هريرة فجعل يسأله وأجلس كاتبه خلف السرير لا يراه أبو هريرة؛ ليكتب ما يحدث به أبو هريرة، وبعد سنة من ذلك دعا أبا هريرة وأخفى الكاتب كما فعل أول مرة، وأمره بمراجعة ما يقوله أبو هريرة على ما كتبه، وجعل يسأل أبا هريرة، فما زاد أبو هريرة ولا نقص عما في الكتاب ولا قدم ولا أخر، قال الذهبي: هكذا فليكن الحفظ. وكتم أبو هريرة في بعض الأحيان بعض ما عنده من الحديث؛ خوفًا من أن يثير ذكر الحديث مشاكل بين المسلمين، أو يؤدي إلى الانتقاص من بعضهم انتقاصًا تامًّا، مع أن الحديث فيه توجيه خاص في وقت خاص لحالة خاصة، لكن أبا هريرة إذا كتم الحديث في مجال فإنه يذكره في مجال آخر، وقد ظهر علمه من السنة أبلغ ظهور، وقيض الله له من حمله عنه أحسن الحمل ونشره عنه أحسن النشر.

وقد نبه الصحابة التابعين وعلموهم بأيسر سبيل، وكانوا ينتهزون الفرص لذلك، فقد رأى بعضهم من يبالغ في الصلاة في المسجد ويزيد فيها عن الحد المعتاد؛ فنبه من معه إلى أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قال في ذلك: ((إن خير دينكم أيسره، إن خير دينكم أيسره)) وفي رواية: ((عليكم هديًا قاصدًا -ثلاث مرات- فإنه من يشادّ الدين يغلبه)).

وروى الصحابة كثيرًا من فضائل غيرهم من الصحابة؛ فروى بريدة -رضي الله عنه- أنه خرج عشاءً, فلقيه النبي -صلى الله عليه وسلم- فأخذ بيده فأدخله المسجد؛ فإذا صوت رجل يقرأ، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((أتقوله مُراءٍ؟))، فقال بريدة: أتقوله مراء يا رسول الله؟ فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((لا، بل مؤمن منيب, لا, بل مؤمن منيب))، وكان الأشعري يقرأ بصوت له في جانب المسجد، فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: ((إن الأشعري -أو إن عبد الله بن قيس- أُعطي مزمارًا من مزامير داود)) فقلت: ألا أُخبره يا رسول الله؟ قال: ((بلى)) فأخبرته فقال: أنت لي صديق, أخبرتني عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بحديث.

error: النص محمي !!