الآحاد ثلاثة أقسام: المشهور، والعزيز، والغريب
. خبر الآحاد:
إن الخبر يكون “متواترًا”، ويكون “آحادًا”. و”المتواتر” هو” ما يخبر به القوم الذين يبلغ عددهم حدًّا يُعلَم عند مشاهدتهم بمستقرّ العادة أنّ اتفاق الكذب منهم محال، وأنّ التواطؤ منهم في مقدار الوقت الذي انتشر الخبر عنهم فيه متعذِّر، وأنّ ما أخبروا عنه لا يجوز أن يدخل اللّبس والشبهة في مثلْه، وأنّ أسباب القهْر والغلبة والأمور الدّاعية إلى الكذب منتفية عنهم؛ فمتى تواتر الخبر عن قوم هذه سبيلهم، قطع على صدْقه، وأوْجب وقوع العلْم ضرورة، فهو خبر جماعة يُفيد بنفسه العلْم بصدْقه، لاستحالة توافقهم على الكذب؛ وذلك كالمخبرين مثلًا عن وجود مكّة، أو غزوة بدر، أو ما شابهه…
وقلنا سابقًا: إنّ من شروط المتواتر أن يتعدّد المخبرون تعدّدًا يستحيل معه التواطؤ على الكذب، وأن يكون استنادهم إلى الحسّ، وأن يستوي الطرفان، واستواء الطرفيْن والوسط إلى أصله.
وقد شرط قوم فيه شروطًا أخَر، كلّها ضعيفة؛ والصحيح: أنه لا يُشترط في المتواتر سوى الثلاثة المذكورة التي تحدّثنا عنها.
و”المتواتر” في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم المدوَّنة في الكتب قليلٌ جدًّا، كحديث: ((مَن كَذَب عليّ مُتعمِّدًا))؛ ولذلك لا يستعمله المُحدِّثون في عباراتهم إلَّا نادرًا.
وأمّا أخبار “الآحاد”، فهو: ما قصر عن صفة التواتر، ولم يُقطع به العلْم، وإن روَتْه الجماعة.
والأخبار كلّها على ثلاثة أضرب:
- ضرْب منها يُعْلم صحّتُه.
- وضرْب يُعلم فسادُه.
- وضرْب لا سبيل إلى العلْم بكونه على واحد من الأمريْن دون الآخَر.
فأمّا الضّرب الأوّل -وهو: ما يُعلم صحّته- فالطريق إلى معرفته إن لم يتواتر حتى يقع العلْم الضروري به: أن يكون ممّا تدلّ العقول على موجبه، كالإخبار عن حدث الأجسام، وإثبات الصانع، وصحّة الأعلام التي أظهرها المولى سبحانه وتعالى على أيدي الرسل، ونظائر ذلك ممّا أدلّة العقول تقتضي صحّتَه.
وقد يُستدل أيضًا على صحّته: بأن يكون خبرًا عن أمْر اقتضاه نصّ القرآن الكريم أو السُّنّة المتواترة، أو أجمعت الأمّة على تصديقه، أو تلقّتْه الكافّة بالقبول وعملت بموجبه لأجْله.
وأمّا الضرب الثاني -وهو: ما يُعلم فسادُه- فالطريق إلى معرفته: أن يكون ممّا تدفع العقول صحَّتَه بموضوعها والأدلة المنصوصة فيها، نحو: الإخبار عن قِدم الأجسام، ونفْي الصانع، وما أشبه ذلك…
أو يكون ممّا يدفعه نصّ القرآن الكريم أو السُّنّة النبوية المتواترة، أو أجمعت الأمة على ردّه، أو يكون خبرًا عن أمْر من أمور الدِّين يلزم المكلَّفين علْمه وقطْع العذر فيه.
فإذا ورد الخبر ورودًا لا يوجب العلْم من حيث الضرورة أو الدليل، عُلِم بطلانه، لأن الله سبحانه وتعالى لا يُلزِم المكلّفين علْمًا بأمر لا يُعلم إلَّا بخبر ينقطع ويبلغ في الضعف إلى حدّ لا يُعلم صحّته اضطرارًا ولا استدلالًا. ولو علِم الله سبحانه وتعالى أن بعض الأخبار الواردة بالعبادات التي يجب علْمها يبلغ إلى هذا الحد، لأسقط فرْضَ العلْم به عند انقطاع الخبر. وإذا بلغ في الوهن والضعف إلى حال لا يُمكن العلْمُ بصحّته، أو يكون خبرًا عن أمر جسيم ونبأ عظيم، مثل: خروج أهل إقليم بأسرهم إلى الإمام، أو حصْر العدوّ لأهل الموسم عن البيت الحرام، فلا ينقل نقل مثْله، بل يرد ورودًا خاصًّا لا يوجب العلْم؛ فيدل ذلك على فساده؛ لأن العادة جارية بتظاهر الأخبار عمّا هذه سبيله.
وأمّا الضرب الثالث الذي لا يُعلم صحّته من فساده؛ فإنه يجب الوقف عن القطع بكونه صدقًا أو كذبًا.
وهذا الضرب لا يدخل إلَّا فيما يجوز أن يكون ويجوز ألا يكون، مثل الأخبار التي يَنقلها أصحاب الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحكام الشرع المختلَف فيها. وإنما وجب الوقف فيما هذه حاله من الأخبار، لعدم الطريق إلى العلْم بكونها صدقًا أو كذبًا؛ فلم يكن القضاء بأحد الأمريْن فيها أوْلى من الآخَر، إلَّا أنه يجب العمل بما تضمّنت من الأحكام إذا وجد فيها الشرائط التي سنذكرها -إن شاء الله سبحانه وتعالى.
فـ”خبر الواحد”: كلّ ما لم يَنْتَه إلى التواتر.
وقيل: إن “خبر الواحد” هو: ما يفيد الظن.
ثم إن “خبر الواحد” ينقسم إلى قسميْن: مستفيض، وغير مستفيض.
فـ”المستفيض”: ما زاد نقلته عن الثلاثة. وقيل فيه غير ذلك.
و”غير المستفيض” هو: خبر الواحد، أو الاثنيْن، أو الثلاثة، على الخلاف فيه.
وأكثر الأحاديث المدوّنة والمسموعة من هذا القسم، والتّعبّد بها جائز عند جمهور علماء المسلمين، والعمل بها واجب عند أكثرهم.
وردّ بعض الحنفية “خبر الواحد” فيما تعمّ به البلوى، كالوضوء من مسّ الذّكَر، وإفراد الإقامة.
وبعضهم ردّ “خبر الواحد” في الحدود.
ورجّح بعض المالكية القياس على “خبر الواحد” المعارض للقياس.
والصحيح الذي عليه أئمة الحديث أو جمهورهم: أنّ “خبر الواحد” العدل المتّصل في جميع ذلك مقبول، وراجح على القياس المعارض له.
وبه قال الأئمة: الشافعي، وأحمد بن حنبل، وغيرهما من أئمة الحديث والفقه والأصول.
2. تقسيم أحاديث الآحاد إلى: الغريب، والعزيز، والمشهور:
تنقسم الأحاديث “الآحاد” إلى: “الغريب”، و”العزيز”، و”المشهور”.
أ. تعريف “الغريب”:
أولًا: في اللغة: هو المنفرد عن وطنه؛ سُمِّيَ الحديث بذلك لانفراد راويه عن غيره.
ثانيًا: في الاصطلاح: الحديث الذي رواه راو واحد فقط، أي: تفرّد في المتن أو الإسناد بأمْر لا يذكره غيره من الرواة.
ومثاله: ما جاء مرفوعًا: ((الولاء لُحمةٌ كلحمة النّسب، لا يُباع ولا يُوهَب))؛ فإن هذا الحديث تفرّد به: عبد الله بن دينار، عن ابن عمر رضي الله عنهما.
وأيضًا كحديث: ((إنما الأعمال بالنيات))، رواه عبد المجيد، عن زيد بن أسلم.
قال الخليلي: أخطأ عبد المجيد، وهو غير محفوظ من حديث زيد بوجْه من الوجوه.
وحُكم الحديث “الغريب”: فيه الصحيح، والحَسن، والضعيف وهو الغالب.
قال الإمام أحمد -رحمة الله عليه-: “لا تكتبوا الغرائب؛ فإنها مناكير، وغالبها عن الضعفاء”.
ب. الحديث “العزيز”:
أمّا الحديث “العزيز”، فيقال: حديث “عزيز” -بلا تنوين بالضرورة- من: عَزّ يعَز -بفتح العَيْن في المضارع- بمعنى: قوِيَ. وسُمّيَ بذلك لكونه تقوَّى بمجيئه من طريق أخرى، أو -بكسر العين- بمعنى: قلّ، لقلّة وجوده.
وقد عرّفوه بقولهم: هو مرويّ اثنيْن أو ثلاثة، ولو من طبقة واحدة مِن طبقاته.
فخرج بالاثنيْن “الغريب”، لأنه مرويّ واحد، وخرج بالثلاثة “المشهور”.
ج. الحديث “المشهور”:
الحديث “المشهور” هو: مرويّ فوق ثلاثة، أو هو الحديث الذي رواه ما زاد على الثلاثة.
فمفهومه: أنّ ما رواه الثلاثة ليس “مشهورًا”؛ وقد صرّح بتسميته “عزيزًا” غير واحد، وهو خلاف المعمول عليه الذي ذكَره الحافظ ابن حَجر في “النخبة” من أنّ العزيز: ما رواه اثنان فقط، و”المشهور”: ما رواه ثلاثة فأكثر، و”الغريب”: ما رواه واحد.
ومثال الحديث “العزيز”: حديث الشيخيْن عن أنس بن مالك, أن رسول اللهصلى الله عليه وسلم قال: ((لا يُؤمن أحدُكم حتّى أكونَ أحبَّ إليه مِن وَلَده ووالده والناس أجمعين)). رواه عن أنس: قتادة، وعبد العزيز بن صهيب، ورواه عن قتادة: شعبة وسعيد، ورواه عن عبد العزيز: إسماعيل بن علية وعبد الوارث، ورواه عن كلّ جماعة.
وأمّا مثال “المشهور”، فحديث: ((إنّ الله لا يَقبضُ العلْم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلماءَ. حتى إذا لم يَبْقَ عالِمٌ، اتّخذ الناسُ رؤساءَ جُهَّالًا، فسُئِلوا فأفْتَوْا بغير علْم، فضلّوا وأضلّوا)).
وحكمهما: الصحة، أو الحُسْن، أو الضعف.
قال الحافظ ابن حجر: “المشهور”: ما له طُرق محصورة بأكثر من اثنين. وهو “المشهور” عند المحدِّثين؛ سُمِّيَ بذلك لوضوحه.
وسمّاه جماعة من الفقهاء “المستفيض”، لانتشاره، من: فاض الماءُ، يفيض، فيْضًا.
قال البلقيني: “وفي كتب الأصول: “المشهور”، ومنهم من يقول: “المستفيض”، وهو الذي يزيد نقَلَتُه على ثلاثة”.
ومنهم مَن غاير بينهما، بأنّ “المستفيض” يكون في ابتدائه وانتهائه سواء، و”المشهور” أعمّ من ذلك. ومنهم من عَكَس.
وقد يراد بـ”المشهور”: ما اشتهر على الألسنة، أي: على ألسنة الناس.
وهذا يُطلق على ما له إسناد واحد فصاعدًا، بل ما لا يوجد له إسناد أصلًا.
قال ابن الصلاح: “والمشهور من الحديث قسمان: صحيح وغير صحيح.
فالصحيح، كقوله صلى الله عليه وسلم: ((إنّما الأعمال بالنِّيّات))، وأمثاله.
وقال السيوطي: ومثال “المشهور” وهو صحيح: حديث: ((إنّ اللهَ لا يَقبِض العلْم انتزاعًا ينتَزِعُه))، وحديث: ((مَن أتى الجُمعة فلْيغْتسلْ)).
ومثّله الحاكمُ وابن الصلاح بحديث: ((إنّما الأعمالُ بالنِّيّات)).
واعترض على ابن الصلاح بأنّ الشهرة؛ إنما طرأت له من عند يحيى بن سعيد، وأوّل الإسناد فرْد.
وغير الصحيح؛ كحديث: ((طَلَبُ العلْمِ فريضةٌ على كلِّ مسلم)).
ومثاله وهو حَسَن: حديث: ((طلب العلم فريضة على كل مسلم))؛ فقد قال المزّي: “إن له طُرقًا يرتقي بها إلى رُتبة الحسن”.
ومثاله وهو ضعيف: “الأُذُنانِ من الرأس”؛ فقد مثّل به الحاكم لهذا النوع.
وكذلك ينقسم “المشهور” من وجْه آخَر إلى: ما هو مشهور شهرة مطلَقة بين أهل الحديث والعلماء والعوام، كحديث: ((المسلم مَن سلِم المسلمون من لِسانه ويدِه))، وما أشبه ذلك في الشهرة المطلَقة.
ومثال “المشهور” عند الفقهاء: ((أبغضُ الحلال عند الله…)) صحّحه الحاكم.
وحديث: ((مَن سُئل عن علْم فكتَمه…)) حسّنه الترمذي.
وحديث: “لا غِيبةَ لفاسِق” حسّنه بعض الحُفّاظ، وضعّفه البيهقي وغيره…
وحديث: “لا صلاةَ لِجار المسجد إلّا في المسجد”، ضعّفه الحفّاظ.
وحديث: ((استاكوا عرضًا، وادّهنوا غبًّا، واكتحلوا وترًا)).
قال ابن الصلاح: بحثت عنه فلم أجِد له أصلًا ولا ذِكْرًا في شيء من كتب الحديث.
ومثال “المشهور” عند الأصوليِّين: ((رُفع عن أمّتي: الخطأُ، والنِّسيانُ، وما استُكرهوا عليه)) صحّحه ابن حبان، والحاكم بلفظ: ((إنّ الله وضَع عن أمّتي: الخطأ، والنِّسيانَ، وما استُكرهوا عليه)).
ومثال “المشهور” عند النّحاة: “نِعْم العبْدُ صُهيبٌ؛ لو لم يَخَفِ اللهَ لمْ يَعْصِه”، قال العراقي وغيره: لا أصل له، ولا يوجد بهذا اللفظ في شيء من كتب الحديث.
ومثال “المشهور” بين العامّة: ((من دلّ على خير، فله مثْلُ أجْرِ فَاعِله)) أخرجه مسلم.
وحديث: ((مُداراةُ الناس صدَقة)) صححه بن حبان.
وحديث: ((البركةُ مع أكابِرِكم)) صححه ابن حبان، والحاكم.
وحديث: ((ليسَ الخبرُ كالمعاينة)) صححاه أيضًا.
وحديث ((المُستشارُ مُؤْتَمَن)) حسّنه الترمذي.
وحديث: ((العجَلة من الشيطان)) حسّنه الترمذي أيضًا.
وأحاديث: “اختلافُ أمّتي رحمة”، “نيّة المؤمنِ خيْرٌ مِن عمَلِه”، “مَن بورك له في شيء فلْيلْزَمْه”، “الخير عادة”، “عرِّفوا ولا تُعنِّفوا”، “جُبلَت القلوب على حُبِّ مَن أحسَن إليها”، “أُمِرْنا أن نُكلِّم الناسَ على قَدْر عقولهم”.
كلّ هذه الأحاديث ضعيفة. وأحاديث أيضًا أو أقوال: “مَن عَرَف نفْسَه فقد عرَف ربّه”، “كنت كنزًا لا أعرف”، “الباذنجان لِما أُكِل له”، “يومُ صومِكم يومُ نحْركم”، “مَن بشّرني بآذار بشَّرْتُه بالجنة”؛ كل هذه الأقوال باطلة، ولا أصل لها.
قال الإمام السيوطي: “وكتابنا (الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة) حافل ببيان هذا النوع من الأحاديث والآثار الموقوفات، بيانًا شافيًا -ولله الحمد.
والقسم الثاني من أقسام “المشهور”: ما هو مشهور بين أهل الحديث خاصة، كحديث أنس: ((أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قَنَت شهرًا بعد الركوع، يدعو على رَعْلٍ وذَكوان))؛ فهذا حديث اتّفق عليه الشيخان، من رواية سليمان التيمي، عن أبي مجلز. وقد رواه عن أنس غير أبي مجلز، وعن أبي مجلز غير سليمان التيمي، وعن سليمان التيمي جماعة. وهو مشهور بين أهل الحديث. وقد يستغربه غيرهم؛ لأن الغالب على رواية التيمي عن أنس كونها بغير واسطة، وهذا الحديث بواسطة أبي مجلز.
وما روي مطلقًا عن إمام يجمع الراوي حديثَه أولى من الذي انفرد عن كلِّ أحَد من الثقات وغيرهم؛ فحديث النّهي عن بيع الولاء وهبته؛ فإنه لم يصحّ إلَّا من حديث عبد الله بن دينار، عن ابن عمر.
وحديث: ((السّفَرُ قطعةٌ من العذاب))؛ فإنه لم يصحّ إلَّا من جهة مالك، عن سميّ، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، فيما ذكر غير واحد من الأئمة؛ لكن الغرابة فيه منتقضة برواية أبي مصعب، عن عبد العزيز الدراوردي، عن سهيل، عن أبيه أبي صالح؛ وهي صحيحة.
وأيضًا منتقضة بطريق عصام بن رواد، عن أبيه، عن مالك، عن ربيعة، عن القاسم، عن عائشة؛ ولكنّها ضعيفة، أو ببعضه وذلك إمّا في المتن أو في السّند.
أما في المتن: بأن يأتي في متْن رواه غيره بزيادة، كحديث زكاة الفطْر، حيث قيل ممّا هو منتقَد أيضًا: إن مالكًا تفرّد عن سائر مَن رواه من الحفّاظ بقوله: ((مِن المُسلمين))، أو كحديث أمّ زرع، حيث رواه الطبراني في (الكبير) من رواية الدراوردي وعباد بن منصور، كلاهما عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة؛ فجعلاه مرفوعًا كلّه، وإنما المرفوع منه فقط: ((كنتُ لكِ كأبي زرْع لأمّ زرْع)).
وأما في السند: كحديث أمّ زرع أيضًا؛ فالمحفوظ فيه: رواية سعيد بن سلمة بن أبي الحسام، وعيسى بن يونس، وسعيد بن سلمة بن أبي الحسام، كلاهما عن هشام بن عروة، عن أخيه عبد الله بن عروة، عن أبيهما، عن عائشة. ورواه الطبراني من حديث الدراوردي وعباد -كما سبق- عن هشام بدون واسطة أخيه؛ فما حصل التفرد فيه بوجْه من الأوجه فهو الغريب، كما أشار إليه الترمذي في آخر كتابه، وخصّه الثوري بالثقة.
قال بعض المتأخِّرين: “وكأنه نظر إلى أنّ كثرة المروي إذ ذاك عن غير الثقات”.
وأما أبو عبد الله بن منده، فحدّه بالانفراد -يعني: على الوجه المشروح أوّلًا- لكن عن إمام من الأئمة، كالزّهري، وقتادة، وغيرهما ممّن يُجمع حديثُه…
والحاصل: أنّ “الغريب” على قسميْن: “غريب مطلق” و”غريب نسبيّ”.
وحينئذ فهو والإفراد -كما سبق- على حدّ سواء. فلِمَ حصلت المغايرة بينهما؟ ولذلك قال بعض المتأخرين: “إنّ الأحسن في تعريف “الغريب”: ما قاله الميانشي: وإنه: ما شذّ طريقُه ولم يُعرف راويه بكثرة الرواية، وحينئذ فهو أخصّ من ذاك لعدم التقيّد في روايته بما ذُكر”.
وعرّف “الغريب” الشهاب الخولي بأنه: ما يكون متنُه أو بعضُه فردًا عن جميع رواته، فينفرد به الصحابي، ثم التابعي، ثم تابعي التابعي، وهلمّ جرَّا، أو ما يكون مرويًّا بطُرق عن جماعة من الصحابة، وينفرد عن بعضهم التابعي أو بعض رواته. وهذا يحتمل أن يكون “الغريب” عنده على قسميْن أيضًا: مُطلَق ومُقيَّد.
ويكون افتراق أوّلهما عن “الفرْد” بالنظر لوقوع التّفرّد في سائر طبقاته، فهو أخصّ.
ويحتمل التّردّد بين التعريفيْن، لكن قد فرّق بينهما ابن الصلاح بعد قوله: إنهما مترادفان لغةً واصطلاحًا، بأنّ أهل الاصطلاح غايروا بينهما مِن حيث كثرة الاستعمال وقِلّته.
فـ”الفرْد” أكثر ما يُطلقونه على “الفرد المطلق” وهو: الحديث الذي لا يُعرف إلَّا مِن طريق ذلك الصحابي، ولو تعدّدت الطُّرق إليه.
و”الغريب” أكثر ما يُطلقونه على “الفرْد النِّسبيّ”، وهذا من حيث إطلاق الاسم عليهما.
وأمّا من حيث استعمالهم الفعل المشتَقّ، فلا يُفرِّقون، فيقولون في “النِّسبيّ”: تفرّد به فلان، أو أغرب به فلان؛ على أنّ الحافظ ابن الصلاح أشار إلى افتراقهما في بعض الصّوَر، فقال: “وليس كلّ ما يُعدّ من أنواع “الأفراد” معدودًا من أنواع “الغريب”، كما في “الأفراد” المُضافة إلى البلاد”.
قال الحافظ السخاوي: “إلَّا أن يريد بقوله: “انفرد به أهل البصرة”، مثلًا: واحد من أهلها، فهو “الغريب”. وربما يُسمّي كلًّا من قسمَي “الغريب”: ضيِّق المخرج”.
قال الحاكم في الحديث الذي أخرجه البخاري في كتاب الصلاة، عن عمرو بن زرارة، عن عبد الواحد بن واصل أبي عبيدة الحداد، عن عثمان بن رواد، عن الزهري: “دخلتْ عائشة على أنس بدمشق وهو يبكي، فقال: لا أعرف شيئًا فيما أدركتُ إلَّا هذه الصلاة. وهذه الصلاة قد ضُيِّعتْ”: “هو أضيقُ حديث في البخاري. سألني أبو عبد الله بن أبي زهل -يعني: أحد مشايخه- فأخرجتُُه له، فسمعه شيخه منه عن علي بن حمشاذ، عن أحمد بن سلمة، عن عمرو، وكان ضِيقه مخصوصًا برواية الحداد عن بن أبي رواد، وإلاّ فقد علّقه الإمام البخاري عقب تخريجه للرواية الأولى من طريق محمد بن بكر البرساني عن أبي رواد”.
وأيضًا من طريق البرساني، وصله الإسماعيلي في (مستخرجه)، وابن أبي خيثمة في (تاريخه)، وأحمد بن علي الباري في (جمعه لحديث الزهري).
ومن طريقه، رواه أبو نعيم في (المستخرج).
فإذا علم هذا، فقد قال بعضهم: “الغريب” من الحديث على وزن الغريب من الناس، فكما أن غُربة الإنسان في البلد تكون حقيقة بحيث لا يعرفه فيها أحد بالكلية، وتكون إضافية بأن يعرفه البعض دون البعض الآخر، ثم قد يتفاوت معرفة الأقلّ منهم تارة والأكثر أخرى، وقد يستويان، وكذا الحديث.
وقد قلنا قبل ذلك: إن الحديث “العزيز” سُمِّيَ بذلك لِقِلّة وجوده، لأنه يقال: عزّ الشيءُ، يعِزُّ، عزازة: إذا قَلّ بحيث لا يكاد يوجد، وإمّا لكونه قويَ واشتدّ بمجيئه من طريق أعزّ، من قولهم: عزّ يعَزّ عِزًّا وعزازةً أيضًا: إذا اشتدّ وقوي، ومنه قوله سبحانه وتعالى: {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُون} [يس: 14]، أي: قوّيْنا وشدّدنا.
ثم هو ظاهر في الاكتفاء بوجود ذلك في طبقة واحدة، بحيث لا يمتنع أن يكون في غيرها، لانْطباقه غريبًا، كأن ينفرد به راوٍ آخَرُ عن شيخه؛ بل ولا أن يكون “مشهورًا” أيضًا، لاجتماع ثلاثة فأكثر على روايته في بعض طباقه أيضًا.
و”الغريب” ينقسم أيضًا من وجهٍ آخَر:
– فمنه: ما هو غريب مَتْنًا وإسنادًا، وهو الحديث الذي تفرّد برواية متْنه راوٍ واحد.
– ومنه: ما هو غريب إسنادًا لا متْنًا، كالحديث الذي متْنه معروف مرويّ عن جماعة من الصحابة، إذا تفرّد بعضهم بروايته عن صحابي آخر، كان غريبًا من ذلك الوجه، مع أنّ متْنَه غير غريب.
– ومن ذلك أيضًا: غرائب الشيوخ في أسانيد المتون الصحيحة، وهذا الذي يقول فيه الإمام الترمذي: “غريب من هذا الوجه”.
قال الحاكم: ومثاله: ما حدّثناه أبو العباس محمد بن يعقوب، قال: حدثنا الربيع بن سليمان، قال: أخبرنا الشافعي، قال: أخبرنا مالك عن نافع عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يَبِعْ حاضرٌ لِبَادٍ)).
قال الحاكم: “هذا حديث غريب لمالك بن أنس عن نافع وهو إمام يُجمع حديثه. تفرّد به عن الشافعي وهو إمام مقدّم، لا نعلم أحدًا حدّث به عنه غير الربيع بن سليمان، وهو ثقة مأمون”.
حدثنا أبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي بمرو، قال: حدثنا سعيد بن مسعود، قال: حدثنا النضر بن شميل، قال: حدّثنا شعبة عن حصين، عن أبي وائل، عن عبد الله: حديث التّشهّد.
قال الحاكم: “هذا حديث يُعدّ في “أفراد” النضر بن شميل عن شعبة، وقد تابعه بدل بن المحبر، ولا أعلم له راويًا عن النضر بن شميل غير سعيد بن مسعود”.
قال الحافظ ابن الصلاح: “ولا أرى هذا النوع ينعكس، فلا يوجد إذًا ما هو غريب متنًا، وليس غريبًا إسنادًا، إلَّا إذا اشتهر الحديث “الفرد” عمّن تفرّد به، فرواه عنه عدد كثيرون؛ فإنه يصير “غريبًا مشهورًا”، وغريبًا متنًا، وغيرَ غريبٍ إسنادًا. لكن بالنظر إلى أحَد طرفَيِ الإسناد، فإنّ إسناده متّصف بالغرابة في طرَفه الأوّل، مُتّصف بالشهرة في طرَفِه الآخر، كحديث: ((إنّما الأعمال بالنِّيّات))، وكسائر الغرائب التي اشتملت عليها التصانيف المشتهرة”.
وقد قسّم الحاكم “الغريب” إلى ثلاثة أنواع: غرائب الصحيح، وغرائب الشيوخ، وغرائب المتون.
ومثّل لذلك بما حدّثه به عبد الله بن محمد بن إسحاق الخزاعي بمكة، أنه قال: حدّثنا أبو يحيى بن مسرّة، قال: حدثنا خلاد بن يحيى، قال: حدثنا أبو عقيل، عن محمد بن سوقة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر، قال: قال رسول اللهصلى الله عليه وسلم: ((إنّ هذا الدِّينَ متينٌ، فأوغِلْ فيه بِرِفْق، ولا تُبَغِّضْ إلى نفسِك عبادةَ الله؛ فإنّ المُنبَتَّ لا أرضًا قطَع، ولا ظهرًا أبقى))، قال الحاكم: “هذا حديث غريب الإسناد والمتْن”.
فكلّ ما روي فيه فهو من الخلاف على محمد بن سوقة، فأمّا ابن المنكدر عن جابر فليس يرويه غير محمد بن سوقة، وعنه أبو عقيل، وعنه خلاد بن يحيى. قال: حدثنا أبو الحسن محمد بن المظفر الحافظ، قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن غزوان، قال: حدثنا علي بن جابر، قال: حدثنا محمد بن خالد بن عبد الله، قال: حدثنا محمد بن فضيل، قال: حدثنا محمد بن سوقة، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عبد الله، أنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: “يا عبد الله، أتاني ملَك فقال: يا محمد، واسألْ مَن أرسلْنا مِن قبْلك من رسلنا علام بُعثوا؟ قال: قلتُ: علام بعثوا؟ قال: على ولايتك وولاية عليّ بن أبي طالب”. قال الحاكم: “تفرّد به علي بن جابر، عن محمد بن خالد، عن محمد بن فضيل، ولم نكتبه إلَّا عن ابن المظفر، وهو عندنا حافظ ثقة مأمون”.
فهذه الأنواع التي ذكرتُها مثلًا لألوف من الحديث، يجري على مثالها وسننها.
وقد قسّمه ابن طاهر إلى خمسة أنواع، واعترض على ابن الصلاح في تقسيمه “الغريب”. وقول ابن الصلاح: “ولا أرى هذا النوع ينعكس، فلا يوجد إذًا ما هو غريب متنًا وليس غريبًا إسنادًا… إلى آخِر كلام ابن الصلاح”.
قال العراقي: “وقد أطلق أبو الفتح اليعمري ذكْر هذا النوع الذي أنكره من جملة أنواع “الغريب”، فقال في (شرح الترمذي): “الغريب” على أقسام: غريب سندًا ومتنًا، وغريب متنًا لا سندًا، وغريب بعض السند فقط، وغريب بعض المتن فقط”.
فالقسم الأوّل: واضح.
والقسم والثاني: هو الذي أطلقه أبو الفتح ولم يُمثِّلْه.
والقسم الثالث: مثاله: حديث رواه الخطيب في كتاب الرواة عن مالك، من طريق عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد، عن مالك، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((الأعمالُ بالنِّيّة))، قال الخليلي في (الإرشاد): “أخطأ فيه عبد المجيد، وهو غير محفوظ من حديث زيد بن أسلم بوجْه من الوجوه”. قال: “فهذا ممّا أخطأ فيه الثقة عن الثقة”.
قال أبو الفتح: “هذا إسناد غريب كلّه، والمتن صحيح”.
ومثَّل للقسم الرابع بحديث رواه الطبراني في (المعجم الكبير)، من رواية عبد العزيز بن محمد الدراوردي، ومن رواية عباد بن منصور، فرّقهما، كلاهما عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة بحديث أمّ زرع.
والمحفوظ ما رواه عيسى بن يونس، عن هشام بن عروة، عن أخيه عبد الله بن عروة، عن عائشة, هكذا اتّفق عليه الشيخان، وكذا رواه مسلم من رواية سعيد بن سلمة بن أبي الحسام، عن هشام.
قال أبو الفتح: “فهذه غرابة تخصّ موضعًا مِن السّند، والحديث صحيح”.
وأمّا القسم الخامس: فإنه يصلح أن يكون مثالُه: ما ذكر من عند الطبراني؛ لأن عبد العزيز وعبادًا جعلًا جميع الحديث مرفوعًا، وإنما المرفوع منه: قوله صلى الله عليه وسلم: ((كنتُ لكِ كأبي زرع لأمِّ زرع))، فهذه غرابة بعض المتن.
وأشار أبو الفتح إلى أنه أخذ هذا التقسيم من كلام محمد بن طاهر المقدسي؛ فإنّه قسّم “الغرائب” و”الأفراد” إلى خمسة أنواع: خامِسها أسانيد ومتون ينفرد بها أهل بلد، لا توجد إلَّا مِن روايتهم، وسُنن ينفرد بالعمل بها أهل مصر، لا يُعمل بها في غير مِصرهم.
ثم ذكر أبو الفتح الأقسام، وقال: “وأمّا النوع الخامس، فيشمل “الغريب” كلّه، سندًا ومتناَ، أو أحدهما دون الآخر.
وقد ذكر أبو محمد بن حاتم بسند له: أنّ رجلا سأل مالكًا عن تخليل أصابع الرِّجْليْن في الوضوء؟ فقال له مالك: إن شئتَ فخلِّلْ، وإن شئتَ فلا تُخلِّلْ. وكان عبد الله بن وهب حاضرًا، فعجب من جواب مالك، وذكر لمالك في ذلك حديثًا بسند مصريّ صحيح، وزعم أنه معروف عندهم، فاستعاد مالك الحديث، واستعاد السائلَ فأمَره بالتخليل -هذا أو معناه.
والحديث المذكور رواه أبو داود والترمذي، من رواية ابن لهيعة، عن يزيد بن عمرو المعافري، عن أبي عبد الرحمن، عن المستورد بن شداد، قال الترمذي: “حديث غريب لا نعرفه إلَّا من حديث ابن لهيعة”.
ولم ينفرد به ابن لهيعة، بل تابعه عليه الليث بن سعد، وعمرو بن الحارث، كما رواه ابن أبي حاتم عن أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، عن عمّه عبد الله بن وهب، عن الثلاثة المذكورين. وصحّحه ابن القطان؛ لتوثيقه لابن أخي ابن وهب؛ فقد زالت الغرابة عن الإسناد بمتابعة الليث وعمرو بن الحارث لابن لهيعة، والمتن غريب.
ويُحتمل أن يريد بكونه غريب المتن لا الإسناد: أن يكون ذلك الإسناد مشهورًا جادّةً لعدّة من الأحاديث، بأن يكونوا مشهورين برواية بعضهم عن بعض، ويكون المتن غريبًا لانفرادهم به.
قال الحافظ العلائي: “حديث: ((نحنُ الآخِرون السّابقون يوم القيامة))، قال: “هذا حديث “عزيز” عن النبي صلى الله عليه وسلم رواه عنه حذيفة بن اليمان، وأبو هريرة. وهو “مشهور” عن أبي هريرة، رواه عنه سبعة: أبو سلمة بن عبد الرحمن، وأبو حازم، وطاوس، والأعرج، وهمام، وأبو صالح، وعبد الرحمن مولى أم برثن”.
قال الحافظ العراقي: “إن وصف الحديث بكونه “مشهورًا”، أو “غريبًا”، أو “عزيزًا، لا ينافي الصحة ولا الضعف؛ بل قد يكون مشهورًا صحيحًا، أو مشهورًا ضعيفًا، أو غريبًا صحيحًا، أو غريبًا ضعيفًا، أو عزيزًا صحيحًا، أو عزيزًا ضعيفًا. ولم يذكر ابن الصلاح كون “العزيز” يكون منه الصحيح والضعيف، بل ذكر ذلك في “المشهور” و”الغريب” فقط”.