الأحاديث التي علقها البخاري في صحيحه بصيغة التمريض من غير الأحاديث المرفوعة
أولًا: القسم الثاني من الأحاديث المعلقة في (صحيح الإمام البخاري):
ما أورده الإمام البخاري بصيغة التمريض، مثل: رُوي، وقِيل، وحُكي، ويُذكر، ببناء هذه الأفعال للمجهول، وما رُوي بصيغة التمريض في (صحيح الإمام البخاري).
قال الإمام النووي عن هذه الأحاديث التي أوردها الإمام البخاري بصيغة التمريض: وليس بواهن لإدخاله في الكتاب الموسوم بالصحيح. قال السيوطي: ما أورده البخاري في الصحيح مما عبر عنه بصيغة التمريض، وقلنا: لا يُحكم بصحته، ليس بواهن، أي: ساقط جدًّا لإدخاله إياه في الكتاب الموسوم بالصحيح.
قال الحافظ بن حجر: وقد تبين مما فصلنا به أقسام تعاليقه؛ أن جميع ما فيه صحيح باعتبار أنه كله مقبول، ليس فيه ما يرد مطلقًا إلا نادرًا؛ فهذا حكم المرفوع، وقد أفرد الحافظ بن الحجر لهذه الأحاديث المعلقة المائة والستين التي لم يصلها البخاري في صحيحه مؤلفًا خاصًّا بها، سماه (التوفيق في جمع التعليق) بيّن الحافظ بن حجر أن هذه الأحاديث التي لم توجد موصولة في (صحيح الإمام البخاري) وجدت موصولة خارج الصحيح من كتب السنة، وقد وصلها الحافظ بالفعل في مؤلف خاص كما سبق.
وألف الحافظ بن حجر كتابه (تغليق التعليق) جمع فيه الأحاديث المعلقة، والمتابعات، والموقوفات بأسانيدها، ولم يُسبق الحافظ بن حجر إلى هذا التصنيف كما قال هو. ثم اختصر كتابه (تغليق التعليق) في كتاب آخر بلا أسانيد سماه: (التشويق إلى وصل المهم من التعليق) والفرق بين هذا الكتاب والسابق عليه: أنه حذف أسانيد السابق عليه فقط.
ملحوظة هامة: صيغة التمريض، وإن كانت تُستعمل في الأحاديث الضعيفة؛ إلا أنه ليس كل ما يورده المحدث بصيغة التمريض يكون ضعيفًا، إلا إذا التزم ذلك، ونص عليه، بل قد يورد المحدث الحديث بصيغة التمريض، وهو صحيح لأسباب أخرى غير ضعف الحديث، والواقع العملي يشهد بذلك؛ فالإمام البخاري أخرج أحاديث في صحيحه معلقة بصيغة التمريض، وجِدت هذه الأحاديث موصولة في كتب السنة الأخرى، بل بعضها خرجه الإمام مسلم في صحيحه، وبعضها حسن، بل إن الإمام البخاري وصل بعض هذه الأحاديث في صحيحه، كما سترى ذلك.
ومن المعلوم: أن الحكم على متن الحديث إنما يكون بأعلى الأسانيد، أو بمجموع الأسانيد، وقد يكون الحديث غير صحيح عند البخاري، لما عُلم من تشدده في انتقاء الرجال وغير ذلك، ولكنه صحيح عند غير البخاري من أئمة الحديث، وقد ذكر الحافظ بن حجر أن من أسباب إيراد البخاري للأحاديث معلقة بصيغة التمريض: أنه ذكر المتن بالمعنى أو اختصره، فلم يذكره بصيغة التمريض؛ لأنه ضعيف.
ثانيًا: المعلقات في (صحيح الإمام البخاري) من غير الأحاديث المرفوعة: يدخل في هذا القسم ما يورده الإمام البخاري في صحيحه من فتاوى الصحابة والتابعين، وتفسيرهم للآيات القرآنية؛ سبب إيراد البخاري لأقوال الصحابة والتابعين في صحيحه، إنما يورد الإمام البخاري في صحيحه فتاوى الصحابة والتابعين، وتفسيرهم للآيات القرآنية على طريق الاستئناس والتقوية لما يختاره من المذاهب في المسائل التي وقع الخلاف فيها بين الأئمة.
إلا أنها إذا اعتبرت بعضها مع بعض -أي: الآثار غير المرفوعة- واعتبرت أيضًا بالنسبة للأحاديث المسندة المرفوعة، يكون بعضها مع بعض منها مفَسِّر ومنها مفَسَّر؛ فيكون بعضها كالمترجم له باعتبار، ولكن المقصود بالذات هو الأصل، وهذا النوع ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: ما أورده الإمام البخاري بصيغة الجزم، وإنما يجزم الإمام البخاري بما صح عنده، ولو لم يكن على شرطه، أو بما كان فيه إسناده ضعف أو انقطاع، ولكنه منجبر إما بمجيئه من وجه آخر، وإما لشهرته على من قاله.
القسم الثاني: ما أورده الإمام البخاري بصيغة التمريض، وإنما يورد ما يورد بصيغة التمريض من هذا النوع إن كان ضعيفًا غير منجبر.
بعد هذا العرض لموضوع الأحاديث المعلقة في (صحيح الإمام البخاري)، لا ينبغي لأحد أن يوجه نقدًا للإمام البخاري بسبب إخراجه للأحاديث المعلقة في صحيحه، وإن كان بعضها على غير شرطه؛ إلا أن البخاري ميز هذه الأحاديث حيث إنه علقها، ولم يكتف بذلك، بل بين رضي الله عنه أن الأحاديث المعلقة ليست في درجة واحدة، بل هي متفاوتة؛ فما رواه بصيغة الجزم غير الذي رواه بصيغة التمريض كما سبق، والله أعلم.
فعُلم بذلك أن الموضوع الأصلي لـ(صحيح الإمام البخاري)، إنما هي الأحاديث المسندة المتصلة، وأن ما عدا ذلك، إنما ذُكر عرضًا لا أصلًا؛ فرضي الله عن الإمام البخاري، وعن الشارحين لهذا الكتاب، الكاشفين عن مزاياه، وحشرنا معهم.