الأحوال الاجتماعية والثقافية تحت الحكم العباسي
تميزت دولة العباسيين عن دولة الأمويين ببعض المميزات أو السمات في النواحي الاجتماعية والسياسية والثقافية:
أما من الناحية الاجتماعية: فقد قامت الدولة العباسية على أنقاض الدولة الأموية، وامتد حكم هذه الدولة العباسية خمسةَ قرون إلى أن سقطت على أيدي المغول بزعامة هولاكو حفيد جنكيز خان سنة ستمائة وست وخمسين من الهجرة.
وقد كانت الأسرة العباسية الحاكمة أسرةً عربيةً هاشمية إلا أنها اعتمدت في بادئ الأمر -عند قيامها- على الموالي الفرس، ولهذا لم يعد للجنس العربي المكانة التي كانت له أيام الدولة الأموية؛ ولذلك لم يسمِّ المؤرخون الدولةَ الأمويةَ دولةً عربية، أو يصفونها بأنها دولة عربية، كان للجنس العربي الغلبة والسيطرة والحكم والتميز، وكان فيه إسراف في هذا الجانب وقع فيه الأمويون، وسبَّبَ لهم كثيرًا من البغض والكراهية عند الموالي غير العرب.
أما العباسيون: فقد قرَّبُوا الفرس، ومكَّنُوا لهم، وكان الموالي يشعرون في الدولة الفارسية بأنهم من أصحاب الفضل عليها.
واتسمت الخلافةُ العباسيةُ بسمةٍ دينية، حتى إن أبا جعفر المنصور ثاني خلفاء العباسيين قال في إحدى خطبه:
“أيها الناس إنما أنا سلطان الله في أرضه، أسوسكم بتوفيقه وتأييده، وحارسه على أمواله، أعمل فيه بمشيئته وإرادته، فاسألوا الله أن يوفقني إلى الرشاد”.
وقد أدت هذه المسحة الدينية التي صبغ العباسيون بها حكمهم وخلافتهم إلى جمعِ كثيرٍ من الناسِ حولهم، واقتناعهم بأنهم يحكمون بالحق الإلهي.
أما من الناحية السياسية: فقد خلط العباسيون السياسة بالدين، وهم بذلك يختلفون عن الأمويين الذين اتهموا بالخروج عن الدين والاهتمام بالمصالح الدنيوية والثورات التي قامت ضدهم كانت تتهمهم بالخروج على الإسلام فالعباسيون مزجوا السياسة بالدين، واستفادوا من ذلك استفادةً عظيمةً، وكان الخليفة العباسي يرتدي بردةَ الرسول صلى الله عليه وسلم كرمز للسلطة الدينية، خاصة في المناسبات كصلاة الجمعة والعيدين، وفي ذلك يقول البحتري في مدح الخليفة العباسي المتوكل:
ووقفْتَ في بُرْدِ النبي مُذَكِّرًا | * | للهِ تنذرُ تارةً وتُبَشِّرُ |
واستحدث العباسيون طرقًا جديدة ومراسيم فيما يتعلق بالحكومة والوزارة والحجابة، وطريقة التسليم على الخليفة، فكان الذي يدخل ليسلم ينحني، ويقبل الأرض، أو يقبل ذيل الثوب، وهذه المراسيم أكثرها وافد من التراث الفارسي الذي كان سابقًا على دخول الإسلام لبلاد فارس.
أما من الناحية الثقافة: فقد ازدهرت الثقافة ازدهارًا كبيرًا وانتشرت انتشارًا واسعًا، وأدى امتزاج العرب بغيرهم من أصحاب الحضارات القديمة إلى ظهورِ علومٍ حديثةٍ لم يكن للعرب عهدٌ بها، وكثير من الأجانب أو من غير العرب أسهموا في النهضة الثقافية التي شهدتها الدولة العباسية، وظهرَ كثيرٌ من الفلاسفة، وكثير من علماء الطب والكيمياء، والرياضيات والفلك، ونشطت مع ذلك كله حركة الترجمة والتعريب، ونقْل علوم الأوائل إلى اللغة العربية، وكثُرَتْ التآليف في التفسير، وشرح القرآن الكريم، وفي الفقه، والحديث النبوي، وفي اللغة العربية كذلك، وظهرت أجيالٌ متتابعةٌ من الشعراء والأدَبَاء الذين أثروا الحياة الأدبية ثراءً كبيرًا في العصر العباسي.
ولا يفوتنَّكَ أن العصر العباسي -كما قلت- امتد خمسة قرون تقريبًا، وبعض المؤرخين يقسمون هذا العصر إلى عدةِ عصور.
وقد امتزجت هذه الحضارات الكثيرة التي دخل أهلها في الإسلام مع الحضارة العربية، وشكَّلَت جميعًا الحضارة الإسلامية الرائعة التي بذخت وشمخت في أثناء الحكم العباسي، وقد كان من معجزات الإسلام أنه أظل دولًا مترامية الأطراف، وأجناسًا مختلفة، وأممًا متباينةً، وثقافاتٍ متعددةً؛ فجمع الشتات، وأذاب الفروق، ووحَّدَ الأمم والثقافات في نسيج قوي محكم أثمر حضارة شامخة وإنجازات باهرة كانت وما تزال لبناتٍ مهمةً في صرح الحضارة الإنسانية.
ومن مفاخر لغة العرب: أنها استوعبت هذه الحضارات جميعًا، فقد استوعبت لغة العرب حضارة الفرس، وفلسفة اليونان، وتراث المصريين، وطب الهند، وألوانًا عديدةً من العلوم والثقافات استطاع المترجمون من أبناء هذه الأمم الذين تعلموا القرآن، وتعلموا اللغة العربية، أن ينقُلُوا هذه العلوم من لغاتِهم الأولى إلى اللغة العربية، وكان كثير من هؤلاء يتقنون اللغة العربية إلى جانب لغاتهم الأصلية.
لقد فتح الإسلام بلادَ الدنيا فأظلها برحمته، وحكمها بعدالَتِهِ، واحتضن علومها وحضاراتها، وأصبحت العربية هي الوعاء الذي حفظ هذه العلوم من الضياع والاندثار عن طريق الترجمة التي شجعها الحكام المسلمون في الدولة العباسية، وأنفقوا عليها أموالًا طائلة.
فن الشعر:
لقد ظل الشعر فَنَّ العربية الأول مع ما طرأ عليه من تجددٍ وتطورٍ في الموضوعات والأفكار والصور والأساليب في العصر العباسي، ونبغ فيه كثيرٌ من المستعربين الذين كانوا يرجعونَ إلى أصولٍ غير عربية، وظهرت في الشعر آثارُ الثقافات المنقولة، والعلوم المترجمة التي تمثَّلَهَا الشعراءُ سواء منها الهندي أو الفارسي أو اليوناني.
ولقد نَظَرَ كثيرٌ من الشعراء في هذه العلوم، وغذوا أشعارهم بأفكارٍ منها، لقد كان العصر العباسي بحقٍّ هو العصر الذهبي للثقافة الإسلامية والعربية، ولقد زخر هذا العصرُ بأسماءِ الشوامخِ الذين ما تزال الدنيا تدرسُ نظرياتهم في العلوم، وفي الطب والكيمياء والرياضيات، كما زَخَرَ هذا العصر كذلك بأسماءِ كبارِ الشعراءِ والأدباءِ، نذكر منهم: البحتري، وأبا تمام، والمتنبي، وابن الرومي، وأبا العلاء، والجاحظ… وغير هؤلاء كثيرون مما يجعل هذا العصر العباسي بحق هو العصر الذهبي للثقافة الإسلامية والعربية.