الأساس الاجتماعي
لقد ظهرت في “أوربا” مدرسة تُعرف بمدرسة علم اللغة الاجتماعي، ويأتي على رأس روادها “منوفيسكي” و”فيرث” هذه المدرسة أخذت على عاتقها البحث عن ملكة التواصل، أو قواعد القدرة على التواصل التي تشمل القدرة اللغوية، ولكنها تتعدَّاها إلى استخدام اللغة في المجتمع، وقد ظهرت هذه المدرسة -كما قلت- في أوربا وآمن بها نفر غير قليل، سواء في محيط علم اللغة الاجتماعي أو في محيط علم اللغة النفسي أو في الدراسات النفسية بصفة عامة، وخصوصًا بعد أن وصلت نظرية “تشوميسكي”، التوليدية التحويلية إلى درجة من التجريب؛ بحيث لم يعد يفهمها إلا المختصون، ورأوا عقمَ استخدامها في تعليم اللغات.
فلم تعد الجملة الوحدة اللغوية التي يركز عليها البحث، وإنما الذي ينبغي أن يُبحث من وجهة نظر الفكر الاجتماعي الكلامُ المتصل الشفوي أو الكتابي الذي يعبر عما يحصل فعلًا في موقف معين، وإن أمكن تحديده إلى مستوى الجملة أو أجزائه، وخصوصًا مما يُستخدم في الحوار بين شخصين أو أكثر.
وقد قلت منذ قليل أن أصحاب النظرية المعرفية قد اهتموا بالجوانب الاجتماعية في التعلم؛ بل ظهرت من النظريات المعرفية نظرية تسمى بنظرية التعلم الاجتماعي التي تَبحث في سلوك الأفراد في المواقف الاجتماعية، ولما كانت اللغة ظاهرة اجتماعية أو سلوكًا اجتماعيًّا، فإن اللغة ينبغي أن تُتعلم من أجل الاتصال الاجتماعي؛ لذلك ينبغي أن تربط بوظائفها في المواقف الاجتماعية المختلفة، وقد أُخِذَ على المدارس الأخرى أنها أهملت العلاقة بين اللغة والمجتمع؛ ولذلك ركَّز أتباع النظرية المعرفية على الدور الاجتماعي في تعلم اللغات، فنقدوا الأساسين اللذين قامَا عليهما فكر النظرية الـ”تشوميسكية”، أعني: التوليدية التحويلية، وهذان الأمران هما: الملكة اللغوية، والأداء اللغوي.
الأمر الاول: الملكة اللغوية: وهي ما تسمى أيضًا بالمعرفة اللغوية، ومن أهم مكوناتها معرفة قواعد النحو والصرف الرابطة للمفردات في الجملة، بالإضافة إلى معرفة قواعد التحويل.
الأمر الثاني: وهو الأداء اللغوي، أي: ما يقوله المرء بالفعل، وهذا الأداء لا يكون صحيحًا صحة الملكة اللغوية؛ لأن فيه كثيرًا من الترداد والتكرار والتوقف ومخالفة القواعد، كما لا ينجو من الأخطاء، وذلك بسبب الظروف التي تحكم الكلام الفعلي من خجل أو مرض أو خوف، أو عدم معرفة كاملة لموضوع الحديث… إلى غير ذلك.
رفض علماء اللغة الاجتماعيون هاذين الأساسين، ورأوا أن مفهوم الملكة اللغوية لا يدل دلالةً كافيةً على القدرة اللغوية عند الإنسان العادي، فإلانسان يمتلك فعلًا هذه القدرة القائمةَ على التمكن من قواعد لغتهم -أعني: لغتهم الأم أو الأصلية- ولكن هذه القواعد غير كافية لإتقانها، فيحتاج إلى اكتساب قدرات أخرى كالتواصل الاجتماعي الذي يتألف من وظائف، أو ما يسمى بقواعد اجتماعية لاستخدام اللغة استخدامًا مناسبًا في المواقف الاجتماعية المتنوعة؛ لذلك رأوا أن الطفل ينبغي عليه أن يعرف مناسبة الجمل من المقام الذي تُقال أو تسمع فيه، فيعرف متى يتكلم أو يصمت؟ وعم يتحدث؟ ولِمَن؟ ومتى؟ وأين؟ وبأي طريقة أهي ودية أم رسمية أم متأدبة؟ لذلك أوجبوا عليه أنه يراعي المواقف الاجتماعية المختلفة عندما يتحدث أو يكتب أيضًا، هذا السلوك التواصلي أصبح في الآونة الأخيرة أساسًا أو محورًا مهمًّا في تعليم وتعلم اللغات الأجنبية؛ لذلك نراهم يصنفون الوظائف اللغوية المستخدمة في رزم، وهي كبيرة جدًّا، أو كثيرة جدًّا، وحاولوا أن يضعوا تصنيفًا لها؛ تسهيلًا لمحاولة حصرها، كما ذهب بعضهم إلى تحليل الكلام على أساس أساليب لغوية يستخدمها الفرد في مواقفه الاجتماعية المختلفة ويقسمونها إلى مستويات، كما نرى بعضهم يتوسع في هذا الجانب الاجتماعي أكثر من تصنيف الوظائف، أو بيان الأساليب اللغوية ومستوياتها؛ بل ينظر إلى الموقف الذي يتم فيه التواصل وإلى الحدث التواصلي، فيركز على تحليل الأحداث التواصلية من جوانبها المختلفة سواء كانت لغوية أو كانت غيرَ لغويةٍ مصاحبة للكلام.
ما أريد أن أذكره الآن أن هذه النظرة الاجتماعية في تعليم اللغات الأجنبية لها أهميتها من وجهة نظر علماء كثيرين، سواء كانوا علماء أجتماع، أو علماء نفس، أو علماء نحو، فلا فائدةَ من إتقان تراكيب اللغة وجملها إذا لم يعرف المتحدثُ كيف يستخدم الأشكال المناسبة في المواقف المختلفة، وأن يغير تلك الأشكال بتغير نوع الحدث أو موضوعه، وإذا كان هذا يحدث في المجتمع الواحد فكيف يكون الحال إذا تعلم المرء لغةً غير لغتهِ، وأن يستخدمها في مجتمعها الأصلي؟ فالظروف الاجتماعية مختلفة ومتنوعة، وعليه أن يتعلم قدر طاقته كيفية استخدام هذه الوظائف اللغوية التي تعوَّد عليها أبناءُ اللغة الأم؛ حتى لا يحدث عدم الفهم، أو إساءته، أو يحدث استياء أو غضب؛ لذلك يرى أصحاب هذا الاتجاه الاجتماعي أن إتقان الطرائق السليمة للاستخدام اللغوي في محيطها الاجتماعي أشق من إتقان قواعد اللغة وأصواتها، وحينما توضَع طرائقُ لتدريس اللغات الثانية أو الأجنبية فإن هذا الأساس اللغوي الاجتماعي ينبغي أن يوضع في الحسبان.