الأساس اللغوي
لقد تعددت النظريات اللغوية لدراسة اللغات، وتنوعت ما بين طريقة أو أساس تقليدي، أو أساس تركيبي بنيوي، أو أساس تحويلي، أو آخر اجتماعي.
ونتحدث عن هذه النظريات المتنوعة التي أرسى دعائمها اللغويون، وأفادوا منها من الناحية التطبيقية في تعليم اللغات، وخاصة اللغات التي تعد ثانيةً أو أجنبيةً عن أصحاب اللغة الأصليين، فنتناول ما يسمى بالنظرية التقليدية أو الأساس التقليدي؛ حيث ساد هذا الاتجاه فيما قبل القرن العشرين الميلادي -وأخص القرن التاسع عشر- حيث اتجهت الدراسات اللغوية إلى الاتجاهين التاريخي، والمقارن؛ حيث استُخدمت قواعد اللغتين الإغريقية واللاتينية نموذجًا في وصف اللغات الحديثة، وخاصة شقها المكتوب، وحاول العلماء وقتئذٍ فرضَ قواعد هاتين اللغتين على اللغات الأخرى في أثناء تعليمها أو تعلمها.
والحق أن هذه الطريقة -على الرغم من ذيوعها- لها عيوب عدة؛ من أهمها: أن لكل لغة قواعدَ خاصةً تنبع من ذاتها، فلا يصلح في دراسة قواعد اللغتين الإغريقية واللاتينية ليس بالضرورة أن يكون صالحًا لدراسة اللغات الأخرى المنتشرة هنا وهناك، فقواعد اللغات إذن مختلفة.
وبالإضافة إلى ما ذكرنا، فإن هذا الاتجاه كان يصف اللغة اعتمادًا على شقها المكتوب، ويهمل اللغة الشفوية التي هي لغة الحديث والتواصل بين الناس، فإهمال لغة الحديث الشفوية من نقائص هذه الطريقة، أو هذا الأساس.
ومن النقد الذي وجه أيضًا إلى هذا النظام، هو الاهتمام بالتعريفات أكثر من الاهتمام بالتطبيق.
لكل هذه النقود وغيرها، حدثت ثورة على هذا الأساس التقليدي، أو المسمى بالقواعد التقليدية، وظهرت مدرسة أخرى مع مطلع القرن العشرين الميلادي، هذا الاتجاه الجديد هو المعروف في الدراسات اللغوية الحديثة طوال القرن العشرين، وإلى مطلع هذا القرن الحادي والعشرين أيضًا، يعرف بالنظام البِنيوي، أو الأسس البنيوية، أو المدرسة البنيوية التركيبية.
ونفصِّل في هذا الأساس؛ حيث كان على رأس رواده، العالم السويسري “دوسيسير”، المتوفى: سنة (ألف وتسعمائة وثلاث عشرة) من الميلاد؛ حيث ضمن نظريته البنيوية هذه في كتاب ظهر بعد وفاته بثلاث سنوات، بعنوان: (دراسة في اللغويات العامة).
هذه الفكرة انتشرت في العالم الغربي الأوربي والأمريكي، وأحدث العلماء فيها بعضًا من التغييرات، وأسهمت هذه المدرسة بفكرتها في تطبيقها على العملية التعليمية.
وتأثَّر بها نفر أيضًا من علماء النفس، ومن أشهرهم: العالم “سكنر”، الذي جمع بين علمي: اللغة والنفس.
فإذا كان “دوسيسير”، يعتبر أبًا للدراسات اللغوية في أوربا، فقد عُدَّ العالم الأمريكي “جلونفيلد”، أبًا للدراسات البنيوية الحديثة في الغرب عامة، وفي أمريكا بصفة خاصة.
وقد امتد أثر هذه المدرسة -بفضل أتباعها وعلمائها- إلى أواخر الخمسينيات من القرن الماضي -أعني: من القرن العشرين الميلادي- بل امتدت التطبيقات المصاحبة لها حتى أوائل السبعينيات أيضًا؛ بل يمكن أن نقول: إنها لا تزال مطبقة في بعض البلدان في وقتنا الحاضر.
الأسس التي تقوم عليها هذه المدرسة البنيوية التركيبية:
إن الفكرة البنيوية اعتمدت على المدرسة السلوكية النفسية، فاقتصرت على السلوك اللغوي الظاهري الملاحَظ بالحواس دون تطرق إلى ما يجري في داخل دماغ الإنسان.
فركزوا على اللغة الشفوية أو على اللغة في شقها الشفوي المنطوق، واهتموا بدراسة الألفاظ وأثرها في المعنى.
ولكنهم لم يدرسوا المعنى في حد ذاته؛ لأنه شق غائب رأوا أن الولوج إليه صعب، واللغويون غير مؤهلين لتناول هذا الشق.
ميزات المدرسة البنيوية التركيبية:
هذه المدرسة البنيوية التركيبية لها ميزات، و عليها مآخذ، فمن مزاياها:
أنها وصفت بنية اللغة الأساسية وصفًا دقيقًا، وركزت على اللغة في شقها الشفوي المنطوق -أي على اللغة في شقها الحي- حيث كان الغرض التواصل الشفوي.
لذلك ركزت على الشق الشفوي المنطوق الحي أكثر من الشق المكتوب؛ لذلك لم تهتم بالكتابة بشكل مساوٍ؛ لاهتمامها بالشق الآخر المنطوق.
ويضيف بعض العلماء ميزةً أخرى، وهي: أنها التزمت بالمعايير اللغوية التي وضعتها لنفسها؛ حيث التزمت بعدم الإشارة إلى المعنى ودراسته، وقد التزمت بذلك فعلًا.
ركزت في معاييرها على اللغة ذاتها، وقد التزمت بذلك فعلًا.
النقود الموجهة إلى النظام البنيوي التركيبي:
إن هذا النظام، لم ينج من مآخذ ونقود، فمن أبرز المآخذ التي أخذت على هذا الأساس:
أ. التركيز على شكل اللغة دون معناها، وتوجههم النظري لتحليل اللغة، فقد رأى علماء هذه المدرسة -وعلى رأسهم “سنكر”-: أن اكتساب اللغة شبيه باكتساب أي عادة أخرى، عن طريق المثير والاستجابة والتعزيز -أي: التشجيع- ورأوا أن القوالب التي قسموا اللغة إليها ما هي إلا أجزاء من العادات أو السلوك اللغوي، يكتسبها الطفل واحدة بعد أخرى بالاستماع والمحاكاة والتشجيع والتكرار إلى أن يتقنها.
وقد رأوا أن أسلوبهم هذا، أسلوب سليم في تعليم اللغات الأجنبية؛ حيث يتم تبسيط اللغة على المتعلم بتقسيمها إلى قوالب، وبنوا عليها طريقة، هذه الطريقة هي المسماة بالطريقة السمعية الشفوية التي سادت فترةً طويلةً من الزمن.
إن معظم العلماء الآن غير راضين عما ذهبت إليه هذه المدرسة، فلا يعتقدون أن التفسير السلوكي لاكتساب العادات بوجه، عام ينطبق على اكتساب اللغة؛ لذلك أخذ عليهم أنهم أهملوا علاقة اللغة بالعقل، كما أهملوا علاقة اللغة بالمجتمع.
ب. أنها ركزت على ظاهر اللغة، هذا التركيز جعل أتباع هذه المدرسة يرون أن كل لغة تختلف عن اللغة الأخرى، فهذه النظرة لا تساعد مترجمًا على أن يترجم من لغة إلى أخرى ما دام هذا الاختلاف من وجهة نظرهم قائمًا، وعندما أخذوا يطبقون نظريتهم هذه على تعليم اللغات الأجنبية، قالوا: إن أهم الصعوبات: العادات اللغوية المكتسبة من لغة الطفل الأصلية أو الأم واختلافها عن عادات اللغة الثانية أو الأجنبية، وأرجعوا الأخطاء التي يرتكبها المتعلم إلى هذه.
لهذا كله ظهرت نظرية ثالثة، حاولت هدم هذه النظرية البنيوية التركيبية، وهي ما يسمى بالنظرية التوليدية التحويلية، أو نظرية القواعد التوليدية التحويلية، ولقد أرسى دعائم التوليد والتحويل، العالم الأمريكي “تشوميسكي”، في سنة (سبع وخمسين وتسعمائة وألف) من الميلاد، وفي سنة (تسع وخمسين وتسعمائة وألف) للميلاد أيضًا، هذه النظرية كان لها أثر كبير في تعلم وتعليم اللغات الأجنبية والهدف منها أو الأساس الذي قامت عليه، هو التوصل بشكل علمي ومنطقي ورياضي أيضًا إلى جميع القواعد اللغوية التي تكون الأساس لدى الفرد؛ ليتمكن من توليد الجمل اللغوية الصحيحة؛ لذلك ركزوا على القواعد النحوية، وتوصلوا إلى ما يسمى بالبنية التحتية أو العميقة والقواعد الرئيسة التي تولدها، واستخدموا لذلك الرموز الشبيهة بالرموز المنطقية أو الرياضية الحديثة؛ ليتجنبوا استخدام مصطلحات القواعد التقليدية.
كما توصلوا إلى أن القواعد التحويلية التي تحول كل معنى في البنية العميقة إلى عدة أشكال لغوية ظاهرة، تنحصر في الجوانب الصرفية والنحوية والصوتية، وأطلقوا على هذه القواعد البنية السطحية في مقابل ما ذكرناه، البنية التحتية أو البنية العامة، وقد اعتمدوا الجملة الخبرية المثبتة أساسًا يتم التحويل منها عن طريق قواعد معينة إلى جمل أخرى، كالمنفية، والاستفهامية، أو الأمر، أو النهي، أو المبنية للمجهول، إلى غير ذلك، ونجحوا في هذا مع أنهم استخدموا معادلات رياضية صعبة.
أما الجانب التطبيقي لهذه النظرية المتعلق بتعليم اللغات، سواء كانت أصلية أو أجنبية -ونحن نستخدم اللغات الأصلية مرادفة للغات الأم، ونستخدم اللغات الأجنبية مرادفة للغات الثانية- نقول: لقد حاولوا تفسير السهولة التي يتم بها اكتساب الطفل لغته الأصلية، واستطاعوا استخدامها أيضًا في تعليم اللغات الأجنبية؛ حيث رأوا أن في الطفل قدرة خاصة تختلف عن المخلوقات الأخرى لاكتساب أية لغة أو لغات، مخالفين في رأيهم هذا كل من سبقهم من القائلين: بأن الاكتساب يتم عن طريق الاستماع والمحاكاة والتكرار.
وأما ما يتصل بتطبيق هذه النظرية في تعليم اللغات -وأخص اللغات الثانية أو الأجنبية- فنقول: إنه قد قامت محاولات تطبيقية تعتمد على هذا الأساس، ولكن كثيرًا منها لم يوفق، والمتأخرون من أتباع هذه النظرية ضمنوا كتب القواعد التعليمية بعضَ النتائج، بحيث يستطيع المعلم سبغ أغوار اللغة، ويتجنب الأفكار التقليدية.
فقد رأوا مثلًا أن إسهام الطفل بشكل إيجابي عند تعلمه اللغة أمر ضروري؛ حيث تُتاح له الفرصة؛ ليستفيد من الأخطاء التي يرتكبها للتوصل إلى الصيغ السليمة، وتتاح له الفرصة أيضًا ليعبر عن نفسه في حرية حتى ولو عبر بلغة قاصرة بصرف النظر عن الأخطاء.
وهذه النظرية التحويلية لها في تراثنا الإسلامي نظير؛ بل رأى العلماء أن نظرية “تشوميسكي”، التحويلية هذه، ما هي إلا امتداد لما ارتآه الشيخ عبد القاهر الجرجاني فيما عرف عنه بنظرية النظم؛ حيث تعرَّض لما سماه بالمعنى النحوي، والمعنى النحوي، ما هو إلا الدور الذي تؤديه الكلمات في التراكيب، واختلاف هذا الدور بالكلمة الواحدة باختلاف التراكيب التي توضَع فيه، واختلاف وضع الكلمة في التركيب يولد معاني نحوية كثيرة، ونظرية “تشوميسكي”، تتناول هذا الشيء أيضًا، فهي تتناول كيفية توليد الصيغ اللغوية المتعددة من الكلمات وأشباه الجمل.
لقد أقام عبد القاهر نظريته في النظم على ثنائية المعاني والألفاظ، إلا أنه أعلى من شأن المعاني، وجعلها الأساس في اختيار الألفاظ وتركيبها، وعلى النسق نفسه تقريبًا أقام “تشوميسكي”، نظريته اللغوية، على أساس أن منظومة اللغة ذات بنية ثنائية، ويقصد بذلك: أن الجملة اللغوية لها بنية سطحية ظاهرة، أي: تلك التي تنطق بها، أي: الألفاظ، وبنية منطقية عميقة؛ وهي البنية التي تتشكل في مخ صاحب الجملة قبل النطق بها، وما العملية الصوتية إلا عملية تحول هذه البنية العميقة الفكرية، وقد تجسدت ألفاظًا وأصواتًا، ونبرًا وتنغيمًا، وتقديمًا وتأخيرًا، وإظهارًا وحذفًا وإضمارًا… إلى غير ذلك.
فالثنائية اللغوية واضحة لدى العالِمين.
ثم رأى عبد القاهر أن الثنائية هذه تتلاشَى في عنصر آخر وهو النظم، وجعل البلاغة كل متكامل من المعنى واللفظ معًا، وبما أن الكل أكبر من مجموع الأجزاء فالنظم إذن، عنصر ثالث، فالثنائية اللغوية قد تحولت على يديه إلى ثلاثية.
إن النظرية التحويلية هذه وما سبقها وواكبها؛ من النظرية التركيبية البنوية، وما سبقها أيضًا وواكبها مما يسمى بنظرية القواعد التقليدية، جميع هذه النظريات تتعامل مع لغة مثالية يتحدث بها أناس مثاليون في مواقف مثالية، وأغفلت دور المجتمع، وهذا غير مفيد للتعليم الفعلي للغات؛ لذلك ظهرت مدرسة جديدة تأخذ الواقع الفعلي وواقع المجتمع الذي تتكلم فيه اللغة؛ بحيث يصبح تعليم اللغة أداة للتواصل الاجتماعي الفعلي، هذه المدرسة هي مدرسة علم اللغة الاجتماعي؛ حيث بحثوا عن قواعد ما سموه بالقدرة على التواصل، أو ملكة التواصل التي تشمل القدرة اللغوية، ولكنها تتعداها إلى استخدام اللغة في المجتمع.
وسوف يتضح أن أفكار هذه المدرسة اللغوية الاجتماعية قد دعا إلى اتِّباعها نفر من علماء النفس؛ بل ظهرت نتيجةً لهذا الاهتمام أساسًا من الأسس التي قامت عليها طرائق تعليم اللغات الأجنبية.
حيث رأى أتباع هذا المذهب الاجتماعي، أنه لا فائدةَ من إتقان تراكيب اللغة وجملها إذا لم يعرف المتحدث كيفية استخدام الأشكال المناسبة في المواقف المختلفة.
وتغيرها بتغير نوع الحدث أو موضوعه؛ فأسلوب الخطاب مثلًا مع الغريب يختلف عن أسلوبه مع القريب.
كما يختلف من صغير السن إلى كبيره، كما يختلف مع رؤساء الإنسان في عمله أو مع رؤساء الدول أو الوزراء، كما يختلف من الصحيح إلى المريض.
إن استعمال الصيغة الخطأ يعد إهانة للمخاطب بل يسبب سوء الفهم؛ لذلك يركز علماء البلاغة العرب على أن لكل مقام مقالًا، فإذا كان الأمر كذلك في المجتمع الواحد فكيف يكون الحال إذا تعلم المرء لغة غير لغته.
وأن يستخدمها في مجتمعها الأصلي، والمتكلم بلغة ثانية أو بلغة أجنبية، يجهل كثيرًا من وظائف هذه اللغة في موطنها الأصلي.
لذا عليه أن يتعلم استخدام هذه الظواهر أو هذه القواعد الاجتماعية؛ حتى لا يحدث عدم فهم أو إساءته إلى غير ذلك.