الأساس النفسي المعرفي، والفرق بينه وبين النفسي السلوكي
هذا الأساس المعرفي الذي هو واحدٌ من الأسس السيكولوجية التي ظهرت في ضوء نظريات التعلم بصفة عامة ظهر في النصف الأول من القرن العشرين؛ ردًّا على النظريات السلوكية الميكانيكية والترابطية المركزة على مفاهيم المثير والاستجابة والتشجيع أو التعزيز والعقاب… إلى آخره.
النظرية المعرفية:
وتهتم بسيكولوجية التفكير، ومشكلات المعرفة بصفة عامة، وتقديم الحلول لها، كما تهتم بالإدراك، وتهتم بالشخصية، كما تهتم بالجوانب الاجتماعية في التعلم، ولقد انبثقت من هذه النظريات أو من هذه النظرية المعرفية نظريات عِدة، منها النظرية الكلية المعروفة بالجشطلتية، ومنها النظرية البنائية لصاحبها “ديجيه”، ومنها التعليم بالملاحظة، ومنها نظرية التعلم الاجتماعي التي تبحث في سلوك الأفراد في المواقف الاجتماعية المتنوعة.
والنظرية المعرفية لكل جوانبها لها مجالات تطبيقية في علم النفس التربوي، ولها مجالات تطبيقية أيضًا داخل الصفوف المنزلية، ويمكن تطبيق مبدأ من مبادئها، ألا وهو مبدأ الاستفسار على جميع مراحل التعلم، بدءًا من رياض الأطفال إلى ما تلاها من مراحل، أما بالنسبة لأثر هذه النظريات المعرفية في تعلم اللغة بصفة عامة، فقد اختلفت نظرتهم عن نظرة السلوكيين، فلقد علمتَ أن المدرسة السلوكية ترى أن التعلم متشابه بين جميع الناس؛ لأنه محكوم بعوامل خارجية، وبخلق الظروف التعليمية المتشابهة، أما أصحاب النظريات المعرفية فلهم رأي آخر في قضية التعلم عامةً وتعلم اللغة خاصةً، فكل إنسان يستطيع أن يتعلم اللغة؛ لأنه يمتلك قدرةً فطريةً تسمح له بهذا التعلم، وليس كما يزعم السلوكيون بأن جميع البشر يخضعون لعمليات إشراطية متشابهة؛ لذلك رأى “تشوميسكي”، أن اللغة شكل من أشكال السلوك المعقد لا يعتمد في تفسيره على المؤثرات الخارجية فقط.
وقد لاحظوا أن الأطفال يتعلمون اللغة أحيانًا بمجرد استماعهم لها، ولكن ربما لا يستخدمونها في ذلك الوقت، وإنما يستخدمونها حينما يأتي موقف جديد، ففكرة التعزيز، أو التشجيع والتكرار -التي قال بها السلوكيون- ربما لا تكون دائمًا مرتبطة بأفضل الظروف المناسبة للتعلم، وقد رفض أصحاب النظريات المعرفية التحليل القائم على المثير والاستجابة؛ حيث نادى السلوكيون بهذا، وقد اهتموا بالمعنى؛ لكونه الغاية من الاتصال، ولا يمكن تعلم التراكيب واستخدامها إلا بالفهم التام، أما التدريبات اللغوية الآلية الميكانيكية فرأوها غير مجدية لا في الاتصال ولا في تعلم العناصر اللغوية نفسها، فالفَهم عنصر رئيس في تعلم اللغة عند أصحاب النظريات المعرفية سواء كانت اللغة أمًّا -أعني: أصلية- أو كانت ثانية أو أجنبيةً، ورأوا أن للمجتمع دورًا في تعلم اللغة.
وما يهمنا أن نقوله الآن، أن النظريات المعرفية تختلف عن النظريات السلوكية في تعلم اللغة.
فالنظريات السلوكية إذن، لا تفرق بين تعلم اللغة وتعلم أي شيء آخر، والنظريات السلوكية تدرس المادة اللغوية التي يسمعها المتعلم، وترى أن كل عبارة لُغوية أو أو جزء منها والتي ينطقها المتعلم، ما هي إلا استجابة لمثير ما، والمثير إما حاضر فعلًا في الموقف أو داخلي ضِمني، ولا بد من تشجيع أو تعزيز الاستجابة التي تصدر عن المتعلم بطرائق مختلفة، مثل موافقة الوالدين لطفلهما أو موافقة المدرسين والمعلمين على الاستجابة وتشجيع الطفل والتعود عليه، فالأجزاء اللغوية الصحيحة هي التي يتم تعلمها، أما غير الصحيحة فلا، فالتعزيز والتشجيع وتكرار الاستجابة والاستجابة ينبغي أن تكون نشطةً منتجةً وليست مجرد فهم أو استماع.
وقد ركزت النظريات السلوكية على الكلام الشفوي دون المكتوب؛ لأن الكلام يسبق الكتابة، وعلمت أن المعنى عندهم غير مهم في تعلم اللغة، فالمعنى الحقيقي هو قدرة المتعلم على إعطاء الاستجابة الصحيحة للمثير، وليس التفكير في معنى الكلمة جزءًا أساسيًا من المخزون اللغوي للمتكلم.
فرأوا أنه لا ضرورةَ لإقامة قواعدَ ذهنية عقلية؛ ولذلك ركزت هذه المدرسة على تربية العادات وتنمية المهارات، بناءً على أن اللغة في نظرهم ما هي إلا شكل من أشكال السلوك، ورأوا أن تعليم اللغة الأجنبية عملية آلية ميكانيكية تختص بتكوين العادات اللغوية وأدائها.
وشبَّهوا هذا التعلم بتعلم ركوب الدراجة مثلًا، وهذا الرأي السلوكي جاء رد فعل مضاد للمدرسة التقليدية ولقواعدها التي كانت تصف اللغات الحديثة باستخدام أجزاء الكلام، ونماذج النحو والصرف المطبقة على اللغات القديمة، وخاصة اللاتينية والإغريقية.
وقد تأثرت هذه النظرية السلوكية في علم النفس بالنظرية البنيوية الوصفية في علم اللغة؛ حيث وصف كل منهما اللغةَ في شقها الشفوي الحي، من حيث تركيبها الظاهري، ومن حيث إهمال المعنى؛ حيث رأوه مظهرًا خارجيًّا؛ لأنه ليس مظهرًا خارجيًّا يمكن دراسته بالمنهج العلمي الموضوعي المستخدَم في العلوم الطبيعية.
كل هذا يوقفك على مدى الفارق بين هذا الفكر السلوكي وبين الفكر المعرفي الرافض للتحليل القائم على المثير والاستجابة، والمؤمن بأهمية المعنى في التعلم اللغوي؛ لكونه الغاية من الاتصال.