الأصول الاعتقادية
مقدمة:
العقائد هي الأفكار التي يؤمن بها الإنسان ويصدر عنها في تصرفاته وسلوكه وتطلق العقائد الإسلامية على أركان الإيمان، وعلى الإيمان بالغيب وبالرسل والكتب والملائكة واليوم الآخر؛ فالإيمان إذن هو أساس العقائد، ولكي نفهم أهمية العقيدة ولماذا اعتبرت أساسًا، لا بد لنا من معرفة معنى كلمة الإيمان وتوضيح أهميتها.
أهمية الإيمان وضرورته كأساس من أسس التربية:
- المراد بالإيمان: إيمان الإنسان بشيء أنه قد استقر في ذهنه تصديقًا ويقينًا، ولم يعد بعده يخاف أن يتسرب إلى ذهنه شيء يخالفه؛ فهو لغة: التصديق، وشرعًا: ما وقر في القلب وصدقه العمل.
- فإذا قوي إيمان المرء فقد قامت سيرته على ما صدقه واطمأن قلبه إليه فالإيمان الصحيح أساس متين لتربية ثابتة مضمونة النتائج.
ولقد قامت العقيدة الإسلامية على الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره.
من أدلة العقيدة:
قوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِير} [البقرة: 285].
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: «بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يُرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد، أخبرني عن الإسلام؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الإسلام أن تشهد ألا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلًا، قال: صدقت، قال: فعجبنا له يسأله ويصدقه، قال: فأخبرني عن الإيمان، قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره، قال: صدقت، قال: فأخبرني عن الإحسان؛ قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، قال: صدقت، ثم انطلق فلبث مليًّا، ثم قال: يا عمر، أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: هذا جبريل أتاكم يعملكم دينكم».
أولًا: عقيدة التوحيد، وأثرها التربوي:
تقوم عقيدة التوحيد على الإيمان بالله وحده الموصوف بكل صفات الكمال. الغني بذاته عن جميع مخلوقاته الخالق المدبر، الأول ليس قبله شيء. والآخر ليس بعده شيء ذي الأسماء الحنسى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
ولعقيدة التوحيد آثار تربوية عميقة في شخصية المؤمن منها:
إنها تحدد هدف المؤمن في الحياة وهو: التحقق بالعبودية لله وحده فيوجه كل أعماله نحو تحقيق هذا الهدف الأسمى. يقول تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِين * لاَ شَرِيكَ لَهُ} [الأنعام: 162، 163].
وقد حدد القرآن الكريم ذلك الهدف بوضوح: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُون} [الذاريات: 56].
ب. تربي المؤمن على التوكل على الله مع الأخذ بالأسباب وإتقان العمل، وبالتوكل والأخذ بالأسباب ينمو المؤمن؛ ليصير من الأقوياء إن لم يكن أقواهم، ويدل على ذلك قوله سبحانه: يقول تعالى: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3] أي: كافيه وحاميه ومسانده.
وفي الحديث الصحيح: «اعقلها وتوكل».
ج. تحرر المؤمن من الخوف، فقد يعتدى الإنسان بعض المواقف التي يخاف فيها على حياته، وحياة أهله ورزقه ومستقبله، وغير ذلك من المخاوف التي تسلب الإنسان الأمن والطمأنينة.
ولذا يمد القرآن الكريم المؤمن بالأمل في التغلب على الصعاب {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُم} [محمد: 7].
كما يفيض القرآن الكريم على القلب المؤمن رحمة واطمئنانًا وإيمانًا: {الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوب} [الرعد: 28].
من هنا تطهر عقيدة التوحيد المؤمن من الخوف، وتزرع في نفسه الطمأنينة والرضا، بقدر الله فيواجه التحديات في الحياة بروح الإيمان،
د. تُطهر النفس المؤمنة من القلق والحزن، وتحقق السلام الداخلي لأن عقيدة التوحيد تصون النفس من التمزق بين ولاءات كثيرة لآلهة متعددة، فالله ولي المؤمن وناصره: {أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّار} [يوسف: 39].
هـ. تهيئ المؤمن ليربي نفسه على الاعتدال، فلا يأسى على ماض انتهى، ولا يفح لخير أتاه،: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِير * لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُور} [الحديد: 22، 23].
و. تُربّي المؤمن ليكون قريبًا من الله؛ فيتمتع بالصحة النفسية، وهي من أجل نعم الإيمان بالله، ويظهر ذلك في قول الإمام جعفر الصادق؛ أحد أئمة البيت النبوي الكريم: “عجبت لأربعة كيف يغفلون عن أربع، لمن ابتلي بالخوف كيف يغفل عن قوله تعالى: {حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيل} [آل عمران: 173] فإني سمعت الله عز وجل يقول بعدها: {فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيم} [آل عمران: 172].
وعجبت لمن ابتلي بمكر الناس، كيف يغفل عن قوله تعالى على لسان مؤمن آل فرعون: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَاد} [غافر: 44] فإني سمعت الله عز وجل يقول بعدها: {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَاب} [غافر: 45].
وعجبت لمن ابتلي بالضر، كيف يغفل عن قول الله تعالى على لسان أيوب عليه السلام: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِين} [الأنبياء: 83] فإني سمعت الله عز وجل يقول بعدها: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ} [الأنبياء: 84].
ز. وفوق هذا كله يذكر القرآن الكريم أن التربية بالتوحيد توفر للمؤمن زادًا يسعد به في الدنيا، ويستعد به للآخرة، فينعم -إن شاء الله- بالرضا والرحمة والجنة، والقرب من ربه، وهذا جزاء كل من استقام على التوحيد: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُون * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُون * نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيم} [فصلت: 30 – 32].
الانتماء إلى الله، والاعتزاز به، موالاته فالمؤمنون هم حزب الله، وهو مولاهم، والكافرون لا مولى لهم، وأي شيء أعظم من الانتماء للخالق سبحانه. قال سبحانه وتعالى: {وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُون} [المائدة: 56].
وقال في وصف حزب الشيطان: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُون} [المجادلة: 19] {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَى لَهُم} [محمد: 11] فكل من آمن بالله على أساس القرآن؛ فهو من حزب الله أيًّا كان جنسه أو عرقه أو لونه، وكل من كفر بالله وحارب حزبه وقاوم دعوته؛ فهو من حزب الشيطان أيًّا كان لونه أو عرقه.
ثانيًا: الإيمان بالملائكة، وأثره التربوي:
نؤمن بملائكة الله تعالى وأنهم عباد مكرمون، لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون،
وهم مفطورون على الطاعة لله والاستغفار الدائم: {لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُون} [التحريم: 6] وهم على خلاف البشر في كل صفاتهم إلا في العبودية لله وحده، والتسبيح بحمده، والخضوع الدائم له، وأنه سبحانه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]. فإنهم يشتركون فيه مع البشر، ومع سائر مخلوقات الله تعالى.
وللإيمان بالملائكة آثار تربوية، منها:
إدراك حكمة الله في تنوع الخلق – وتنوع المهام المرتبطة بكل نوع منها، فالملائكة، والجن والإنسان كل منهم له مهام مختلفة عن الآخر، وكلهم في النهاية عبيد لله تعالى.
يعلمنا الإيمان بالملائكة الطاعة لله والنظام والإتقان في أعمالنا، وهذه سمات كل عمل ناجح،
ج يراجع المؤمن نفسه في كل عمل، قاصدًا الخير؛ لأنه يؤمن بأنه: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد} [ق: 18] وفي هذا مسارعة إلى الأعمال الصالحة، وتوبة واستغفار من الأعمال الطالحة.
ثالثًا: الإيمان بالكتب، وأثره التربوي:
اقتضت حكمة الله سبحانه وتعالى أن يُنزل كتبه على رسله؛ ليكون ذلك تنظيمًا لحياتهم، وللمؤمنين برسالتهم، وتذكرة لهم ولمن بعدهم، فلا تكون مبادئ الدين معتمدة على المشافهة وحدها، وإنما تسجلها أقلام الخلق، عن رسل الحق؛ فآتى الله عز وجل داود الزبور، وأنزل الصحف الأولى على إبراهيم، وأنزل التوراة على موسى، وأنزل الإنجيل على عيسى، وختم سبحانه وتعالى كتبه فأنزل القرآن الكريم، على خاتم رسله وأحبهم إلى ربه محمد صلى الله عليه وسلم.
ومن حكمة الله -تعالى- أن شرع في هذه الكتب لكل أمة ما يناسبها من الأحكام والتشريعات، وكان خاتم هذه الكتب -القرآن الكريم- مناسبًا لجميع الناس في كل زمان ومكان إلى يوم القيامة، وللإيمان بالكتب المنزلة على رسل الله آثار تربوية منها:
- شكر الله على نعمه والاهتداء بهديه تعالى، والبحث عما يسعد الناس دنيا وأخرى في الكتاب الخاتم المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم .
- يوضح لنا نزول الكتب من الله على مراحل، حكمة الخالق عز وجل في علاج البشرية من أمراضها ومفاسدها، علاجًا تربويًّا يناسب المرحلة التي تمر بها، حتى إذا استقام العقل البشري ونضج، وتهيأ لقبول القرآن الكريم خاتمًا لكتب الله، ودستورًا إلى يوم القيامة.
- نزول الكتب السماوية وختمها بالقرآن الكريم، يبين لنا أن الله قد أتم دينه في القرآن الكريم، المنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم وهو الكتاب الهادي إلى الله في كل زمان ومكان إلى قيام الساعة، وفي اهتدائهم بالقرآن الكريم الحل الأمثل لمشكلاتهم والملاذ لهم من شرور حياتهم.
- القرآن الكريم الذي تحدى الله به الإنس والجن أن يأتوا بمثله، أو بصورة من مثله فعجزوا، والذي تكفل الله بحفظه دون الكتب السابقة عليه، هو حجة الله البالغة على خلقه، فهو هدي الله للإنسان في سائر شئونه، يكفل له سعادة الدارين {فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون} [البقرة: 38].
ويقول تعالى: {إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} [الإسراء: 9].
- يربي القرآن الكريم الإنسان تربية شاملة متكاملة؛ فينمي روح الإنسان بالعبادة وقراءة القرآن، ويربي العقل بالعلم والمعرفة، والتأمل في ملكوت الله، ويربي الجسم بالغذاء والرياضة والعبادة بغية مرضاة الله،
- التروي وعدم التسرع في الفهم، وتثبيت القلب بالتدرج في الفهم قال تعالى: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلا} [الإسراء: 106].
وقال سبحانه وتعالى: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِه} [القيامة: 16].
وقال: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} [الفرقان: 32].
- تعويد اللسان على الفصاحة والبيان، وهذا معروف لدى كل مشتغل بالقرآن؛ {حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِين} [الزخرف: 1-2].
وقال سبحانه: {لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِين} [النحل: 103].
- تربية العواطف الربانية من خوف وخشوع ورغبة ورهبة، وترقيق للقلب والمشاعر: قال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء} [الزمر: 23].
أما تربية السلوك بالقرآن فقد علمنا ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان له أذكار وأدعية من القرآن، يتلوا بعضها ويدعو ببعضها في مناسبات معينة، فإذا استيقظ من نومه نظر في السماء وتلا قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَاب * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّار} [آل عمران: 190، 191].
وإذا آوى إلى فراشه تذكر قوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الزمر: 42] فدعا بهذا الدعاء ((اللهم إن أمسكت نفسي فارحمها؛ وإن أرسلتها فاحفظها بما حفظت عبادك الصالحين)).
وفي القرآن آداب سلوكية عظيمة تعلمنا: غض البصر، والغض من الصوت، والقصد في المشي، وبر الوالدين، وكثيرًا مما لا يحصى في هذا المقام.
رابعًا: الإيمان بالرسل، ودلالته التربوية:
من حكمة الله تعالى ورحمته بالناس أنه وإنما أنعم عليهم بمن يدلهم على الطريق، ويبين لهم سبل الطاعة، ومعالم الصواب والخطأ، وأنبياء الله ورسله -عليهم السلام- هم الذين اصطفاهم الله من بين الناس؛ ليكونوا الداعين إلى الله مبشرين ومنذرين.
وقد ختم الله رسله برسوله الخاتم إلى الناس جميعًا محمد صلى الله عليه وسلم الذي اصطفاه ربه من بين خلقه، وأدبه فأحسن تأديبه، ليكون داعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، وليكون رحمة للعالمين.
وبعد أن أتم الله رسالاته بالرسالة الخاتمة المنزلة على محمد صلى الله عليه وسلم لا حجة لأحد: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 165] وللإيمان بالرسل دلالات تربوية منها:
- بيان السر الإلهي من تنزيل الرسل، فلا ثواب ولا عقاب إلا بعد التكليف، وقد بصر الله عباده بالصواب والخطأ على السنة رسله، وأتم الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم مهمته العظمى فبلغ الرسالة وأدى الأمانة فلم يعد أمام البشر غير الحساب والجزاء.
- يكشف الإيمان بالرسل عن العدالة الإلهية المطلقة، التي تهب الناس القدرة على التمييز، وتحمل المسئوليات، ثم يمن الله عليهم بالرسل والرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم ليتبين للناس القصد بلا إرغام أو إكراه،
- يدل الإيمان بالرسل والرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم على ما وصلت إليه البشرية من نضج عقلي، يؤهلها لتحمل المسئولية كاملة أمام الله؛ فختم الرسالات بالرسالة المنزلة على محمد صلى الله عليه وسلم يعني أمرين أساسيين:
الأول: أن في الإسلام كل ما يهدي البشرية أحمرها وأصفرها، وأسودها وسائر أجناسها إلى يوم القيامة.
الثاني: أن البشرية لا عذر لها ولا حجة بعد نزول القرآن الكريم، وقد أنزله الله هداية ورحمة.
- يدفع الإيمان بالرسل وبالرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم المؤمن إلى أن يتوخى في سلوكياته مسيرة الرسول الخاتم الذي شرف الله به الخلق، وجعله المثل الأعلى له.
خامسًا: الإيمان باليوم الآخر:
إن ا لإيمان بالحياة الآخرة هو نتيجة طبيعية لنظرة الإسلام إلى الكون والحياة، وما خالق الله الكون عبثا، بل خلقه لأجل مسمى عنده، فإذا انتهى أجل الكون، والحياة البشرية كلها أفنى الله هذا الكون، وأهلك كل شيء فيه ثم يخلق عالما آخر، وحياة أبدية لا موت بعدها ليزن أعمال العباد بالقسطاس المستقيم قال تعالى:{فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُون}[ [الأعراف: 8، 9].
فإذا انقضى الحساب تجلت رحمة الله على عباده المؤمنين؛ فيدخلهم الجنة خالدين فيها، ويتجلى غضبه على الكافرين الجاحدين، الذين يدعون إلى جنهم دعا خالدين فيها.
النتائج التربوية للإيمان باليوم الآخر:
تربية الشعور الحقيقي بالمسئولية: فما دام الملائكة الحفظة يكتبون، وما دام يوم الحساب والجزاء ينتظرنا بالمرصاد، فكل من ربي تربية إسلامية يشعر بتمام المسئولية عن كل أعماله، خوفًا من الوقوف للحساب بين يدي الخالق في يوم تشخص فيه الأبصار.
- تحقيق الأخلاق الفاضلة المطلقة في سلوكنا، وحياتنا، تحقيقًا فعليًّا مستمرًا، ثابتًا غير متقلب، بلا نفاق ولا رياء. جزاءه عند الله، لا عند المجتمع ولا عند الناس، ويوم الجزاء آت لا ريب فيه في موعده الذي قدر الله له لا يتزحزح؛ لذلك فإن أخلاق المؤمن ثابتة لا يزعزعها شيء من أعراض الحياة الزائلة.
- وكذلك انضباط جميع الدوافع والتحكم في الغرائز الجامحة، إنما يتم خوفًا من الله وطمعًا في جنته.
- إيثار الآخرة على الدنيا والصبر على الشدائد، فنساء رسول الله وهن فضليات النساء اجتمعن ليطالبن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يمتعهن بزينة الحياة الدنيا وغناها، كما تتمتع نساء الملوك؛ فنزل فيهن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً * وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 28، 29].
فاخترن الله ورسوله والدار الآخرة وبقين في كنف رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبرن على شظف العيش، وقال سبحانه {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى: 16، 17].
- تربية العقل على الفطرة السلمية: وذلك أن كل إنسان يفكر في هذا الكون بدون تحيز إلى أهواءه يصل إلى النتائج التالية:
- أن كل ما في الكون صائر إلى الزوال، ومسير بغير إرادته.
- وأن هذا الإنسان الذي يقضي عمره في كدح وجد، وهو يتمتع بالعقل والتمييز بين الخير والشر، إذا به يموت ومن الناس ظالم ومحسن، فهل تكون أعمال الناس إلى فناء، دون تمييز بين المحسن والمسيء، إن العقل السليم والفطرة لا يستسيغان ذلك كما لا يستسيغان أن يصير الكون إلى الفناء دون هدف ولا غاية.
- فالكون الذي يدل على خالق مبدع حكيم يدل على أن وراء وجوده غاية من أجلها أوجده الله، وهذه النتيجة يتوصل إليها العقل بفطرته.
- وبالقياس المنطقي على خلق الله لهذا الكون ينتج، أن الذي خلق الكون أول مرة قادرًا على إعادته خلقًا جديدًا، وكذلك الذي خلق الإنسان.
فالتربية الإسلامية تنمي عقل الإنسان دائمًا على هذا التفكير السليم، والارتباط المنطقي بين المقدمات والنتائج،
سادسًا: الإيمان بالقدر خيره وشره:
وهذا الإيمان من لوازم الإيمان بالله؛ لأن الله هو الذي قدر كل ما في الكون.
ما هي الآثار التربوية للإيمان بالقدر؟
1. العزم والقضاء على التردد: إذا ناقش الأمور ورجح بينها، واستشار غيره، واستخار ربه يمضي قدمًا فيما عزم عليه، دون توقف أو تردد، أو خوف؛ ليقينه بأن وأن الله مؤيده؛ فإذا يسر له ما عزم عليه، فهو الخير المقدر له، أو ليصرف الله عنه شرًا كان محتملًا.
2. عدم الندم أو الحسرة على ما فات: فالمؤمن لا ينوح على الماضي بالتندم والتحسر؛ ولكن له أن يعتبر؛ فيتوب من الخطأ أو الذنب.
3. الجرأة أمام الموت: أما الموت فلا يمكن لنفس أن تموت إلا بإذن الله، بعد أن تستوفي أجلها الذي كتبه الله لها {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَابًا مُّؤَجَّلاً} [آل عمران: 145].
فإذا تربى المؤمن على الجرأة أمام الموت فقد أصبح جريئًا أمام كل شيء، أمام فقد مال أو ولد ما دام يؤمن بأنه مقدر من الله.
4. التفاؤل والرضا وقطع دابر التشاؤم: وهو تعليل المصائب بعلل أو أسباب غير صحيحة كالتشاؤم من صوت البوم، أو كتشاؤم الكفار بأنبيائهم، مع أن كفرهم هو الذي كان شؤمًا عليهم، كما نص الله علينا في سور يس، قول الكفار لأنبيائهم: {قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيم * قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُون} يس: 18، 19].
5. يرتبط الإيمان بالقدر بالسعي والعمل الدءوب من جانب، وبالتوكل والتفويض من جانب آخر: وهذا يحقق للمؤمن ثلاث ثمار:
الأولى: طاعة الرب -جل وعلا- فيما أمر.
الثانية: تحصيل ثمرة السعي، والعمل.
الثالثة: تحقيق الأمن النفسي والاطمئنان القلبي. وهذه ثمار مباركات، لا يجنيها من شجرة الإيمان غير المؤمن بالله وبقدره.
6. يكون المؤمن بالقدر نشيطًا عاملًا: فيؤدي عمله بإتقان؛ لأن الإيمان بالقدر يرتبط بالعمل؛ وقد طالبنا الله بالسعي والتسليم، فيجب أن نطيع ونذعن.
7. يكتسب المؤمن بالقدر هدوء النفس: لأنه يؤمن بأن كل شيء بيد الله وحده؛ فلا ينزعج قلبه، ولا يحزن حزن اليأس، ولا يفرح فرح البطر المختال.
8. يُرَبّي المؤمن بالقدر نفسه على أن يكون راضيًا هادئًا متواضعًا: فيطرد الإعجاب بالنفس عند حصول المراد، ويؤمن بأن ما حصل له إنما هو نعمة من الله بما قدره من أسباب الخير، كما يطرد القلق والضجر عند فوات المراد؛ لأن كل شيء بقضاء الله تعالى.
كما يربي نفسه على أن يكون معتمدًا على الله كل الاعتماد، مع فعل الأسباب؛ لأن السبب والمسبب كلاهما بقضاء الله وقدره، والخير والضر بتقدير الله تعالى، الذي يعلم ما ينفع خلقه، ولله الحكمة في كل ما قدره: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِير * لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُور} ، [الحديد: 22، 23] وعلى المؤمن بالقدر أن يتوكل على الله حق التوكل، فمن توكل على الله كفاه هم الدنيا والآخرة.