الأطلس اللغوي
لقد اقتبس علم اللغة طرق علم الجغرافيا، ليضع حدودًا لغوية للهجات المختلفة في خرائط تبين معالم كل لهجة، وتفرق بين لهجة وأخرى، ولا تختلف هذه الخرائط عن خرائط الجغرافيا، إلا في أن ما يدون عليها ظواهر لغوية، تطلع القارئ على أدق الفروق في الأصوات والمفردات بين اللغات المختلفة واللهجات المتباينة.
وتطلعنا هذه الخرائط على الاختلافات الصوتية بين المناطق المختلفة، فقوم يجهرون أصوات وقوم يهمسونها، وطائفة تنطق الفاتحة صريحة، وأخرى تنطقها ممالة، ولهجة تنبر الكلمة في مقطعها الأول، وأخرى تنبر المقطع الأخير منها، وهكذا.
كما يبرز في هذه الخرائط الدرس الواسع للمفردات من حيث البنية والمترادفات المختلفة للمعنى الواحد، واختلاف الألفاظ باختلاف المناطق اللغوية، ومقدار انتشار الكلمات في الأقطار والأقاليم وغير ذلك.
مما يتيح لنا معرفة الواقع اللغوي للغة من اللغات، سواء أكانت لغات فصحى، أو مشتركة، أو خاصة، أو لهجات اجتماعية، أو إقليمية، أو عاميات خاصة.
هذه الدراسة الجغرافية اللغوية مهمة؛ لأنها تسجل الواقع اللغوي للغات أو اللهجات على خرائط، يجمعها آخر الأمر أطلس لغوي عام، وتختص كل خريطة بكلمة أو بظاهرة صوتية معينة. يبدو فيها الاتفاق أو الاختلاف بين المناطق اللغوية المتعددة، ومما لا شك فيه أن هناك تشابه بين لهجة إقليمية وأخرى، أو بين لهجتين اجتماعيتين، أو بين عاميات خاصة، ما دامت هذه جميعًا ترجع إلى أصل لغوي واحد. فالمسح الجغرافي للهجات العربية المختلفة في بلادنا العربية، له فوائد جليلة:
أولًا: دراسة هذه اللهجات لذاتها، دراسة علمية عميقة؛ لاكتشاف ما فيها من خصائص، الصوت والبنية والدلالة والتركيب، ولمعرفة التغيرات المختلفة، التي تطرأ عليها من وقت لآخر.
ثانيًا: إثراء الدراسات في العربية الفصحى نفسها، إذ يتيح لنا ذلك المسح الجغرافي، كتابة تاريخ هذه اللغة في عصورها المختلفة، ويمدنا بوسائل علمية؛ لمعرفة أقرب اللهجات العربية صلة باللغة الفصحى وأبعدها عنها.
ثالثًا: يمدنا هذا المسح الجغرافي بالمعلومات اللازمة، لمعرفة مدى امتداد اللهجات العربية القديمة في الوطن العربي، ويفسر لنا النصوص المبتورة عن هذه اللهجات في تراثنا العربية.
رابعًا: يتيح لنا هذا العمل، فرص الدراسة المقارنة بين اللهجات والفصحى؛ بل يتيح لنا فرص الدراسة المقارنة بين اللغات السامية المختلفة كذلك، ويوقفنا على مصادر الكلمات الأجنبية هنا وهناك.
ولا تنطوي دراسة اللهجات على فوائد لغوية فحسب، إنها تفيد المؤرخين، وعلماء النفس والاجتماع أيضًا، ويمكن بذلك أن يُستعان بالأطالس اللغوية على هذه الدراسات التاريخية والنفسية، والاجتماعية على أساس أمتن وأشمل.
وقد بدأت فكرة عمل الأطلس اللغوي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر على يد العالم الألماني “فنكر” والعالم الفرنسي “جيليرون”، هذا العالم الفرنسي الذي نشأت المدرسة الجغرافية، تأثرًا بجهوده في الأطالس التي صنعها.
وقد قام كلٌّ من هذين العالمين بعمل أطلس لبلاده، ثم انتقلت الفكرة إلى معظم بلاد أوربا، وأيضًا إلى أمريكا وبعض البلدان الشرقية.
ويتلخص المنهج الذي أعده فنكر للأطلس الألماني، في أنه ألف أربعين جملة تمثل أهم ما يجري على ألسنة الألمان في حياتهم اليومية، ثم طبعها على شكل استمارة بها بيانات عن الراوي الذي نقلت عنه اللهجة، والمسجل الذي سمع اللهجة من أفواه الرواة ودونها، والجهة التي سمعت فيها اللهجة وسجلت، ثم يأتي تسجيل الجملة في اللهجة المحلية، وتسجيلها في الألمانية الفصحى، وقد بلغت الجهات خمسين ألفًا، وكان المسجلون للهجات من معلمي المدارس الأولية؛ نظرًا لمعرفتهم بأحوال القرى بسبب إقامتهم بها، ثم لثقافتهم التي أهلتهم لتذليل النطق كتابيًّا.
وبعد أن جُمعت الإجابات في المركز الرئيس لعمل الأطلس، بدأ عمل خريطة لكل كلمة على حدة، وذلك بأن تفرغ أولًا صور اللفظ وصيغه ومترادفاته على خرائط تفصيلية تشتمل على بلاد الأقاليم جميعهم، ثم تحدد عليها المناطق اللغوية المختلفة، وبعد هذا ترسم الخريطة العامة، على ضوء الخرائط التفصيلية، وتبين على تلك الخريطة الحدود النهائية، للمناطق اللغوية على وجه الإجمال.
أما المنهج الفرنسي فيقوم على اختيار قرى وبلاد معينة للإقليم الذي يراد وضع أطلس لغوي له، وتأليف كتاب خاص للأسئلة اللغوية يحتوي على ألفي سؤال أو أكثر، تشتمل على أهم وأكثر الألفاظ شيوعًا في الحياة اليومية.
وترتب الأسئلة ترتيبًا موضوعيًّا؛ بحيث يختص كل جزء من الأطلس بموضوع أو بعدة موضوعات، كأسماء الأهل وذوي القربى والعم، والخال، والأخ، والأخت إلى غير ذلك.
كما يتناول أيضا جسم الإنسان وصفاته، وأطوار العمر والميلاد والزواج والموت، وأسماء الصناعات والصناع، والنقود، والتجارة، والأعداد، والملابس والأقمشة، والغزل والنسيج إلى غير ذلك، وبعد هذا تُعمل منه طائفة من النسخ، تعطى للمسجلين اللغويين المدربين صوتيًّا تدريبًا كاملًا، ثم يذهب المسجل إلى القرية أو المدينة، ويقضي بها أربعة أيام أو خمسة، يسأل في أثنائها عن بعض ثقاتها، من جميع ما ورد في كتاب الأسئلة، مدونًا الإجابات في الصفحات المقابلة للأسئلة، وهؤلاء الثقات هم الرواة اللغويون، يجب أن يكونوا من أبناء البلدة التي يعيشون فيها ولم يغادروها، حتى لا تختلط لهجاتهم بأخرى، كما يجب ألا يكونوا متأثرين بعوامل ثقافية تغير من لهجاتهم، وأن يكونوا فطناء غير مصابين بأمراض كلامية، كما يتمتعون بصفة الإخلاص.
وإذا تمَّ ارتياد المدن والقرى المعينة على الخريطة التي وضعت أساسًا للعمل؛ جمعت صيغ اللفظ ومرادفاته في البلاد المختلفة، تمهيدًا لدراستها وترتيبها، تمهيدًا لوضعها على الخريطة، ويكون ذلك بكتابة اللفظ مكان القرية أو المدينة، التي يجري اللفظ فيها على ألسنة أهله.
وتمتاز الطريقة الألمانية بالشمول، إلا أن الطريقة الفرنسية أدق؛ لوجود المسجلين المدربين تدريبًا كافيًا، وللمباشرة في الأسئلة، بخلاف الطريقة الألمانية، التي تعتمد على نموذج، يمكن أن يؤثر على انطلاق الراوي على سجيته، وعلى الرغم من تقدم هذا الفرع في الدراسات اللغوية في أوربا وفي أمريكا، فإنه لا يزال غض الإهاب في بلدنا.
وليس لدينا في لغتنا العربية إلا محاولة قام بها المستشرق الألماني درشترسر سنة (اثنتين وثلاثين وتسعمائة وألف) للميلاد؛ حيث صنع أطلسًا لغويًّا لبلاد سوريا وفلسطين، فيما بين العامين الرابع عشر والخامس عشر في مطلع القرن العشرين الميلادي.
وهو عبارة عن اثنين وأربعين خريطة تفصيلية وواحدة إجمالية، مع شرح لغوي في كتاب مستقل يوضح بعض الخصائص الصوتية والصرفية والدلالية للهجة هناك.
وهناك محاولة جادة قام بها الدكتور عبده الراجحي، حين صنع أطلسًا لغويًّا، جمع فيه العناصر اللهجية القديمة موزعة على أماكنها من شبه الجزيرة العربية، وهذه العناصر هي الهمز والتسهيل، وأصوات الحلق، وكسر حرف المضارع، والإمالة إلى الكسر والفتح، وإلى الضم والفتح، وإلى الضم والكسر، والإدغام والإظهار، والإمالة والفتح، والإشمام والجهر، والمخالفة، والإتباع، والحذف، وصورة ضميري المتكلم والغائب، والقصر والمد، وبعض الظواهر النحوية والصرفية.
وينبغي أن يتصف الباحث اللغوي الجغرافي بالموضوعية في عمله، فلا يتأثر بعوامل سياسية أو شخصية.
كما ينبغي ألا يعامل بعض أجزاء اللهجة في مناطق معينة على أنها لهجة لذاتها، غافلًا عن بقية المساحة التي تشغلها اللهجة في واقع الأمر، فيقع في أخطاء منهجية وعلمية تفسد عليه عمله.
ومما لا شك فيه أن إعداد الأطالس أمر صعب لا يقدر عليه الأفراد؛ لضعف إمكاناتهم المادية، فهو في حاجة إلى دعم مادي من الأجهزة الشعبية الرسمية، لتوفير ما يلزم لهذا العمل العلمي الكبير.
كما يحتاج إلى دعم إعلامي من وسائل الإعلام؛ لتوعية الجماهير بقيمة المسح الجغرافي اللغوي. وأثره في تأكيد مشاعر القربى بين العرب على تنامي أوطانهم.
وأملنا أن يأتي اليوم الذي تتحقق فيه الوحدة المنشودة بين أرجاء الوطن العربي، تلكم الوحدة التي تتحد فيها الألسنة، وتختفي الفروق اللهجية الموغلة، وتتقارب في ظلها المشاعر والقلوب.
ولا تنطوي دراسة اللهجات أو اللغات بصفة عامة على فوائد لغوية كما قلت؛ بل إنها تفيد المؤرخين وعلماء النفس والاجتماع على حد سواء. ولا يقتصر نفع الأطالس على الجوانب اللغوية والتاريخية والنفسية والاجتماعية، وإنما تفيد أيضًا رجال السياسة والمخابرات، والبوليس الدولي والدبلوماسية، إذ تضطر ظروف كل هؤلاء إلى معرفة اللغات الرئيسة في العالم، أو اللغات التي يخالطون أهلها، ومكانها على الخريطة، ومن المتكلمون بها، وما عددهم وما قيمتهم، من الناحية السياسية أو الاقتصادية أو الثقافية، إن الأطلس اللغوي ضرورة حضارية، كما هو ضرورة علمية.