Top
Image Alt

الأقوال المنحرفة في العلو

  /  الأقوال المنحرفة في العلو

الأقوال المنحرفة في العلو

قد جاء في المنهج أن الحلولية الجهمية، وطوائف من أهل الكلام والتصوف قالوا: إن الله بذاته في كل مكان، وذهب معطِّلة ال6جهمية أيضًا ونفاتهم إلى أنه لا داخل العالم، ولا خارجه، ولا مباينًا له، وما إلى ذلك، وبعض أهل الكلام والتصوف قالوا: إن الله سبحانه وتعالى بذاته فوق العالم، وهو بذاته في كل مكان.

وفي الحقيقة الناظر يجد أن هذه الأقوال باطلة، تخالف ما سبق تقريره، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- هذه الأقوال، وبيّن بطلانها، فقال: قد افترق الناس في هذا المقام أربع فرق:

الفرقة الأولى: الجهمية النفاة، الذين يقولون بأن الله سبحانه وتعالى ليس داخل العالم ولا خارج العالم، ولا فوق ولا تحت، لا يقولون بعلوه ولا بفوقيته، بل جميع ذلك عندهم متأول أو مفوض، وهؤلاء الجهمية النفاة ليس معهم من الحق شيء، وكما ذكر أن جميع أهل البدع قد يتمسكون بنصوص، كالخوارج، والشيعة، والقدرية، والرافضة، والمرجئة، وغيرهم -قد يذكرون بعض النصوص ويتأولونها ويتمسكون بها- إلا الجهمية؛ فإنهم ليس معهم عن الأنبياء شيء واحد يوافق ما يقولونه من النفي، هذا هو القول الأول لهذه الطائفة.

القسم الثاني: يقولون: إن الله سبحانه وتعالى بذاته في كل مكان كما يقوله النجارية -وهي فرقة من فرق المرجئة، ينتسبون إلى الحسين بن محمد النجار، ولهم أقوال فاسدة في مسائل الإيمان، وكذلك أيضًا في هذه المسألة، وهذا يدل عمومًا على فساد أقوال المبتدعة, فهذا الرجل له أقوال فاسدة في الإيمان، وكذلك في مسائل الأسماء والصفات، فأمهات مسائل العقيدة عندهم فيها فساد. وقد تكلم عنهم الإمام أبو الحسن الأشعري -رحمه الله- في كتابه (المقالات) أي: (مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين)-وكثير من الجهمية من عُبّادهم وصوفيتهم وعوامهم يقولون: إن الله عز وجل عين وجود المخلوقات, كما يقول ذلك أهل الوحدة القائلون بأن الوجود واحد، ومن يكون قوله مركبًا من الحلول والاتحاد يكون معتقِدًا الباطل.

وهؤلاء يحتجون بنصوص المعية والقرب، ويتأولون نصوص العلو والاستواء، وكل نص يحتجون به هو في الحقيقة حجة عليهم؛ فإن المعية أكثرها خاصة بأنبياء الله ورسله وأوليائه، وهؤلاء يقولون بأن الله سبحانه وتعالى في كل مكان، وقد حل في جميع المخلوقات -واستدلالهم بآيات المعية، والقرب سيأتي إن شاء الله تعالى فيه الرد عليهم بتفصيل.

وفي النصوص ما يبيّن نقيض قولهم، فنفس النصوص القرآنية تبيّن فساد قولهم وأنهم متناقضون؛ فإن الله عز وجل قال كما في أول سورة الحديد: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم} [الحديد: 1] فكل من في السموات والأرض يسبح، ولا شك أن المسبِّح غير المسبَّح، فالمسبِّح العبد، والمسبَّح هو رب العزة والجلال سبحانه وتعالى الذي له الملك؛ ولذلك عقب على هذه الآية بقوله: {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}  [الحديد: 2] فبين أن الملك له، وقال أيضًا بعد ذلك: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم} [الحديد: 3].

وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال معظمًا مثنيًا, ممجدًا ربه سبحانه وتعالى: ((اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء)) فإذا كان هو الأول كان هناك ما يكون بعده، وإذا كان آخرًا كان هناك من ربٍّ بعده، وإذا كان ظاهرًا ليس فوقه شيء كان هناك ما الربُّ ظاهر عليه، وإذا كان باطنًا ليس دونه شيء كان هناك أشياء نفى عنها أن تكون دونه.

أما ابن عربي ومن تبعه فيقولون بأن الله سبحانه وتعالى هو عين الموجودات، وأنه في كل مكان؛ ولهذا قال ابن عربي بأن من أسماء الله الحسنى العلي، ثم قال: على من يكون عليًّا وما ثمَّة إله؟ وعلى ماذا يكون عليًّا وما يكون إله؟ فعلوُّه لنفسه، وهو من حيث الوجود عين الموجودات.

وهذا في الحقيقة كلام باطل؛ لأن المعية التي استندوا أو استدلوا بها لا تدل على الممازجة والمخالطة، وكذلك لفظ القرب؛ فإن عند الحلولية أنه في حبل الوريد كما هو عندهم في سائر الأعيان، وكل هذا -والعياذ بالله تعالى- كفر وجهل بالقرآن الكريم.

القول الثالث: مَن يقول: هو فوق العرش، وهو في كل مكان. وهذا في الحقيقة تناقض، ويزعم أصحاب هذا القول أنهم بهذا أقروا بجميع النصوص، وقالوا بأننا لا نصرف واحدًا منها على ظاهره، فهم يقولون بأن الله قال بأنه فوق العرش، وأخبر أيضًا بأنه في كل مكان، ويستدلون على ذلك ببعض الآيات الواردة في القرآن الكريم كآيات المعية أيضًا، أو كقول الله سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزُّخرُف: 84] وهذا كله باطل، وقد ذهب إلى هذا القول بعض طوائف من المسلمين، ذكرهم أيضًا الإمام الأشعري -رحمه الله- وقال بأن هذا معروف عن الصوفية وغيرهم.

ويشبه هذا ما في كلام أبي طالب المكي، وابن برجان، وغيرهما، مع ما في كلام أكثرهما من التناقض؛ ولهذا لما كان أبو علي الأهوازي الذي صنف (مثالب ابن أبي بشر) وردّ على أبي القاسم بن عساكر، وهو من طائفة السالمية، أنكروا على أبي طالب كلامه في الصفات.

وهذا الصنف وإن كان ظاهره التمسك بالنصوص، ويظهر منه أنه يبتعد عن مخالفتها فإنه أيضًا وقع في شيء من الباطل، وتناقض تناقضًا عجيبًا؛ لأنه قال: أنا أتبع النصوص كلها, لكنه غالط، فمن قال منهم بأن الله بذاته في كل مكان فهو مخالف للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، مع مخالفته لما فطر الله سبحانه وتعالى عليه عباده، ولصريح المعقول، وللأدلة الكثيرة، وهم يقولون في الحقيقة أقوالًا متناقضة، فحينما يقولون بأنه فوق العرش، ثم يقولون بأنه أيضًا بذاته في كل مكان، هذا كلام متناقض، كما أن بعضهم يقول بأن نصيب العرش منه كنصيب قلب العارف، كما يذكر مثل ذلك أبو طالب وغيره.

وقد وقع في ذلك طائفة من الصوفية، حتى صاحب (منازل السائرين) في توحيده المذكور في آخر المنازل، فيه مثل هذا النوع أو الإشارة إلى شيء من الحلول؛ ولهذا كان أئمة القوم يُحذّرون من مثل هذا، أي: من مثل الوقوع في هذا الباطل، وهو القول بأن الله فوق العرش وأنه أيضًا في كل مكان؛ لأن هذا فيه رجوع إلى قول أهل الوحدة والاتحاد والحلول.

ونجد أن شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- يبيّن ويصور مذهب هؤلاء، ويحلل السبب الذي دعاهم إلى الاختلاف في العبارات؛ لأن هذا القول الأخير الذي يقول بأن الله فوق العرش, وأنه في كل مكان يلتقي في الحقيقة مع أهل الوحدة والحلول؛ ولذلك نجد أن طوائف منهم قالوا بأنه ليس فوق العالم، ولا فوق العالم شيء أصلًا، أي: قالوا أيضًا هذه الأقوال الباطلة، ووقعوا فيما وقع فيه الحلولية الذين ما أثبتوا وجودًا لرب العزة والجلال سبحانه وتعالى فوق عرشه، وهؤلاء الجهمية والمعتزلة، والقرامطة الباطنية بعضهم يذكر بأن الله سبحانه وتعالى أيضًا في كل مكان بذاته، أي: يلتقون أيضًا مع هذه الأقوال المنحرفة، وسبب ذلك بُعد هؤلاء الناس عن التمسك بكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم.

ولذلك أيضًا نجد أن الأمر كما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- بأن أمرهم غريب ومتناقض؛ الذين يقولون بأن الله عز وجل فوق العرش وأنه في كل مكان، أو الذين يقولون لا هو داخل العالم ولا هو خارج العالم، هؤلاء الناس في الحقيقة جمعوا بين المتناقضات، وليس هناك دليل يؤدي إلى صحة هذا المذهب الذي ذهبوا إليه؛ بل إن بعضهم أحيانًا يصرح بأن الله سبحانه وتعالى حَلّ في كل الموجودات، ويرجع إلى قول ابن عربي الفاسد في هذه المسألة.

وتحذيرًا من هؤلاء الناس, ولفساد معتقدهم الذي ذكروه فيما يتعلق برب العزة والجلال سبحانه وتعالى, نود هنا أن نذكر ونخص بالذكر ما قاله ابن عربي الضال المضل في رب العزة والجلال سبحانه وتعالى؛ لأنه لا يثبت وجودًا لله سبحانه وتعالى واستواءً له كما يليق بجلاله وكماله على عرشه، بل يقول بأن الله سبحانه وتعالى في كل مكان، وأنه حل في جميع المخلوقات، وهذا من أفسد الأقوال وأخبثها، فالأقوال الأخرى فاسدة، أي: قول معطلة الجهمية بأن الله لا هو داخل العالم، ولا خارج العالم، ولا مباينًا للعالم، هذه كلها أقوال باطلة، وأشدها بطلانًا قول حلولية الجهمية ومعهم ابن عربي الذي يقول مثلًا: “سبحان من أظهر الأشياء, وهو عينها” فلنتأمل هذا القول الباطل, حينما يقوله هذا المنحرف الضال في رب العزة والجلال سبحانه وتعالى.

ويقول أيضًا: “إن العارف من يرى الحق -ويعني بكلمة: “الحق” الله- في كل شيء، بل يراه عين كل شيء” وكلمة “شيء” في دين هؤلاء تطلق حتى على الصور الذهنية والوهمية وعلى الشيء المعدوم، فوق إطلاقها على كل موجود له كيانه؛ وعليه يصبح ابن عربي أصرح الدعاة إلى وحدة الوجود، بل هو كاهنها الأكبر.

ومن فساده أنه يصف ربه بأنه إنسان كبير، ولنسمع إليه يحكم على ربه بأنه يحب أن يوصف بما يوصف به الخلق؛ حتى بما فيهم من نقص وعجز وحمق وجهالة: “ويحد بما يحد به كل كائن على حدة” وهذا باطل.

ويذكر بأن الله تعالى يحب أن يوصف بما يوصف به الخلق، فيقول مثلًا -وهذه الأقوال في الحقيقة موجودة في كتابه (فصوص الحكم) وهي أقوال فاسدة باطلة-: “فهو الساري في مسمى المخلوقات والمبدعات، فهو الشاهد من الشاهد، والمشهود من المشهود، فالعالم صورته، وهو روح العالم المدبر له، فهو الإنسان الكبير” وهذا في الحقيقة لولا أن هذه كلمات قد قيلت, ما جاز للإنسان أن يتفوه بها، وأن يذكرها، وأن يقولها, فهذا فساد كبير وعريض حينما يذكره هذا الرجل الضال المضل في صفات الله سبحانه وتعالى.

وهو يؤكد أن ربه هو كل ما نرى من صور هذا العالم, فهو يزعم أن كل ما نشاهده في هذا العالم إنما هو رب العزة والجلال سبحانه وتعالى, فهو يقول مثلًا بأن الله سبحانه وتعالى هو صور العالم، ويعبر عن ذلك فيقول: “هي ظاهر الحق، إذ هو الظاهر، وهو باطنها، إذ هو الباطن، وهو الأول، إذ كان ولا هي، وهو الآخر، إذ كان عينها عند ظهورها”.

ولنتدبر تعريف ابن عربي لربه بقوله: “هو عين ما ظهر، وهو عين ما بطن في حال ظهوره، وما ثَم من يراه غيره، وما ثم من يبطن عنه, فهو ظاهر لنفسه باطن عنه، وهو المسمى أبا سعيد الخراز، وغير ذلك من أسماء المحدثات”.

وأبو سعيد الخراز هذا رجل أيضًا من المنحرفين في مسائل الصفات، وهو ضال مضل، وهذا الرجل يذكر عنه بأن رب العزة والجلال سبحانه وتعالى هو أبو سعيد الخراز، وهذا في الحقيقة لون من ألوان الباطل الذي عليه هؤلاء الناس، وما كان يليق بهم أن يذكروا ذلك عن رب العزة والجلال سبحانه وتعالى, بل إن ابن عربي في الحقيقة يذكر أن صفات الرب هي صفات الخلق، ويحكم على ربه ويصفه بالعجز والنقص المشين، بل بالسفه والحماقة، فيقول: “ألا ترى الحق يظهر بصفات المحدثات؟”, والمحدثات فيها من العجز، وفيها من القصور، وعندها من الضعف ما يعرفه كل من يعرف ذلك، كل مخلوق يعرف ذلك، فكيف نعبر ونذكر في صفات رب العزة والجلال سبحانه وتعالى هذه الأقوال الباطلة؟

يقول: “ألا ترى الحق يظهر بصفات المحدثات وأخبر بذلك عن نفسه، وبصفات النقص، وبصفات الذم؟” ثم يقول: “ألا ترى المخلوق يظهر بصفات الحق من أولها إلى آخرها، وكلها حق له، كما هي صفات المحدثات حق للحق؟” وقد ذكر ذلك أيضًا هذا الرجل في (فصوص الحكم) وهو يؤكد، بل ربما نقول بأنه يخشى أن يتوهم إنسان أن الخالق غير المخلوق، فيذكر مثل ذلك حتى يبرهن ويثبت أن الخالق هو المخلوق، وأن المخلوق هو الخالق، وأن كليهما اتحد في وحدة واحدة.

ولذلك نقول: لقد كفرت الصابئة لأنهم عبدوا الكواكب، وكفرت اليهود لأنهم عبدوا العجل، وكفرت النصارى لأنهم عبدوا ثلاثة أقانيم، وكفرت الجاهلية لأنهم عبدوا أصنامًا أقاموها لمن مات من أوليائهم؛ لتكون مقصد الرجاء ومطاف الآمال كما كان أصحابها وهم ناعمون بالحياة، فماذا نقول في أصحاب هذه المعتقدات الباطلة، وهي تدعو إلى عبادة كل شيء، فالصابئة كفروا بعبادتهم الكواكب، واليهود كفروا لأنهم انصرفوا وعبدوا العجل في عهد موسى وانحرفوا عن نبيهم.

والنصارى كفروا لأنهم قالوا بأن ربهم ثلاثة أقانيم، فماذا يكون حال من قال بأن الله سبحانه وتعالى هو كل هذا الوجود، وهو عين هذه الموجودات؟

وفي ذلك يقول الجيلي، وهو من أقطابهم وأئمتهم في الضلال، تابعَ ابن عربي على ما هو عليه: “إن الحق تعالى من حيث ذاته يقتضي ألا يظهر في شيء إلا ويعبد ذلك الشيء.

وقد ظهر في ذرات الوجود” هكذا يقول عن رب العزة والجلال سبحانه وتعالى, ويزيد ابن عربي هذه الفرية جلاء ووضوحًا بقوله: والعارف المكمّل من رأى كل معبود مظهرًا للحق يعبد فيه. ولذلك سموه كلهم إلهًا مع اسمه الخاص بحجر، أو شجر، أو حيوان، أو إنسان، أو كوكب، أو ما إلى ذلك.

فهؤلاء الضلال انحرفوا انحرافًا خطيرًا في هذه المسألة الجليلة، حينما لم يثبتوا علوّ الله سبحانه وتعالى على خلقه، ولم يلتزموا بالنصوص الواردة في مثل ذلك، فذهبوا إلى مثل هذه الأقوال الباطلة؛ وعليه يتبيّن لنا فساد هذه الأقوال المنحرفة، خاصة بعد أن ذكرنا فيما مضى الأدلة الثابتة في كتاب الله، والسنة الصحيحة، وأقوال أهل العلم, في علوّ الله سبحانه وتعالى على خلقه.

القول الرابع: قول أهل السنة والجماعة وهو القول الصحيح، وهو القول المؤيد بالدليل الذي يجب على طلاب العلم أن يعرفوه، وأن يعتقدوه، وأن يعلموه، وأن يتمسكوا به، بل عليهم أن يردوا على المنحرفين أقوالهم ويبطلوها.

error: النص محمي !!