الأكفان، المشي مع الجنازة، والقيام لها
الباب الثالث: الأكفان:
أما الباب الثالث من أبواب أحكام الميت، فقد جعله ابن رشد -رحمه الله- للكلام عن الأكفان.
والمراد بالأكفان: الثياب، الأقمشة التي يُلفّ فيها جثمان الميت قبل الدّفن. كيف يكون هذا الكفَن؟ ما عدد الأقمشة التي يُلفّ بها الميت؟ هل يستوي الرجال والنساء في ذلك؟ أم أنّ للرجال أكفانًا خاصة، وللنساء أكفانًا خاصة؟ هذا ما نتناوله في هذا الباب.
الأصل في الأكفان: ((أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كُفِّن في ثلاثة أثواب بيض سَحوليّة)) -نسبة إلى: سَحول، والسّحول هو: الرجل الذي يغسل الثياب ويُنظّفها. وإذا ضُمّت “سُحول”، نسبة إلى قرية باليمن. ((النبي صلى الله عليه وسلم كُفِّن بثلاثة أثواب بيض سَحولية، ليس فيها قميص ولا عمامة))، رواه الجماعة. أي: أثواب ساترة واسعة عامّة؛ لأن القميص يكون له نظام خاص وهيئة خاصة، والعمامة هي التي تُلفّ بها الرأس.
وخرج أبو داود عن ليلى بنت قائف الثقفية، قالت: ((كنتُ فيمن غسل أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل: زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان أوّل ما أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم الحِقْو -والحقو هو: الإزار، أي: الجزء الذي يُلبس من أسفل الجسم- ثمّ الدّرع -والدّرع هو: القميص، أو الجزء الذي يلبس في أعلى الجسم- ثم الخمار -وهو ما يغطِّي الرأس- ثم المِلحفة -وهي اللباس الساتر الذي يلفّ جميع الألبسة، والثياب تحته. ثم أُدرِجتْ بعد في الثوب الآخَر. قالت: ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس عند الباب، معه أكفانها يناولناها ثوبًا ثوبًا)). الحقو، ثم الدّرع، ثم الخمار، ثم الملحفة، ثم ثوب آخَر.
فمن العلماء من أخذ بظاهر هذيْن الحديثيْن، بمعنى أنّ الرجال يكفَّنون في ثلاثة أثواب كما كُفِّن رسول الله صلى الله عليه وسلم . أمّا النساء فيُكَفَّنّ في خمسة أثواب كما كُفِّنت بنات رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الذي كان يُناول النساء اللاتي غسّلْنها تلك الثياب.
- من العلماء من أخذ بظاهر هذيْن الأثريْن فقال: يُكفَّن الرجل في ثلاثة أثواب، والمرأة في خمسة أثواب؛ وبه قال الشافعي، وأحمد، وجماعة.
- أمّا أبو حنيفة فقال: أقلّ ما تُكفّن فيه المرأة ثلاثة أثواب -لم يقُل خمسة، أجاز الثلاثة، والسُّنّة خمسة أثواب. وأقلّ ما يُكفّن فيه الرجل ثوبان، والسُّنّة فيه ثلاثة أثواب.
إذًا هناك فرْق بين الواجب والسُّنّة. الشافعي، وأحمد، وغيرهما، أوجبوا للرجال ثلاثة أثواب، وللنساء خمسة أثواب؛ فلا يجوز أقل من ذلك.
أبو حنيفة أجاز للرجل ثوبيْن وإن كانت السُّنة ثلاثة، وأجاز أن تُكفّن المرأة في ثلاثة أثواب، والسُّنّة خمسة.
الإمام مالك -رحمه الله- يقول: لا حدّ في ذلك؛ فيُجزئ ثوب واحد للرجل أو للمرأة، إلّا أنه يُستحبّ الوتر، أي: كما قال الأئمة السابقون. ولذلك قال الخرقي -رحمه الله: “ويُكفَّن بثلاثة أثواب بيض يُدرَج فيها -أي: يُدخل فيها إدراجًا. ويُجعل الحنوط فيما بينها -الحنوط: أي الموادّ الحافظة، أو التي تدفع الروائح الخبيثة.
وبيّن ابن قدامة ذلك بأن الأفضل عند الإمام أحمد أن يُكفّن الرجل في ثلاث لفائف بيض ليس فيها قميص ولا عمامة، ولا يزيد عليها ولا ينقص منها؛ حيث قال الترمذي: والعمل عليه -أي: على هذا عند أكثر أهل العلْم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم؛ وهو مذهب الشافعي.
ويستحبّ كون الكفن أبيض تأسِّيًا بالنّبي صلى الله عليه وسلم الذي كُفِّن في ثلاثة أثواب بيض، ولقوله أيضًا صلى الله عليه وسلم: ((البَسوا من ثيابكم البِيض؛ فإنه أطهر وأطيب. وكفِّنوا فيه موتاكم)).
أمّا أبو حنيفة، فقد حكي عنه -كما قلنا أنّ المستحبّ أنْ يُكفّن فيه: إزار، ورداء، وقميص -أي: ثلاثة أثواب. لِما روى ابن المغفل: ((أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كُفِّن في قميصه))، ولأنّ ((النبي صلى الله عليه وسلم ألبَس عبد الله بن أُبيّ قميصه، وكفّنه به))، رواه النسائي.
والمستحبّ أن يُؤخذ أحسن اللفائف وأوسعها، فيبسط أوّلًا ليكون الظاهر للناس حُسنها؛ فإن هذا عادة الحيّ، يجعل الظاهر أفخر ثيابه، ويجعل عليها حنوطًا، ثم يبسط الثانية التي تليها في الحُسن والسّعة عليها، ويجعل فوقها حنوطًا وكافورًا، ثم يبسط فوقها الثالثة، ويجعل فوقها حنوطًا وكافورًا. ولا يُجعل على وجه العُليا ولا على النعش شيء من حنوط.
وإن كُفِّن في قميص، ومئزر، ولفافة، جعل المئزر ممّا يلي جِلده، ولم يزرّ عليه القميص.
ويجوز التكفين في ثوبيْن -كما قال أبو حنيفة- لقول النبي صلى الله عليه وسلم في المُحرم الذي وقَصَتْه دابّته: ((اغسلوه بماء وسدر، وكفِّنوه في ثوْبيْن))، رواه البخاري.
الباب الرابع: صِفة المشْي مع الجنازة:
نأتي إلى الباب الرابع من أحكام الميّت، وهو الذي يُبيِّن لنا صفة المشي مع الجنازة.
اختلف الفقهاء في السُّنّة في المشي مع الجنازة. ما هي السُّنّة؟
- ذهب أهل المدينة إلى أنّ السُّنّة أن يكون المشي أمامها؛ وهذا هو رأي الجمهور: مالك، والشافعي، وأحمد. المشي أمام الجنازة؛ لأن الحي أفضل من الميت، والحيّ أبقى من الميت، كما نقول.
- أمّا أبو حنيفة والكوفيّون فقد قالوا: إنّ المشي خلْفها أفضل، أي: أخذًا بالعبرة، أو عملًا بالذِّكرى.
ولذلك قال الخرقي: “والمشي بالجنازة: الإسراع. واتِّباع الجنائز سُنّة”. كما يقول ابن قدامة: قال البراء: ((أمَرَنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم باتِّباع الجنائز)) ثم قال الخرقي: “والمشي أمامها أفضل”، وهو -كما يقول ابن قدامة- قول أكثر أهل العلْم أنّ الفضيلة للماشي أن يكون أمام الجنازة.
كما يُكره الركوب في اتّباع الجنائز؛ حيث قال ثوبان: ((خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة، فرأى ناسًا رُكبانًا، فقال: ألا تستحون؟! إنّ ملائكة الله على أقدامهم، وأنتم على ظهور الدّواب؟!)) رواه الترمذي.
ما حُكم القيام للجنازة عند مرورها؟
أكثر العلماء على أنّ القيام إلى الجنازة والوقوف عند مرورها منسوخ؛ وعلى ذلك الأئمة الأربعة. أمّا الناسخ فهو ما رواه مالك من حديث علي بن أبي طالب: ((أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقوم في الجنائز، ثم جلس))؛ فالجلوس هو الأمر المتأخِّر مِن فعْل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وذهب قوم إلى: وجوب القيام، وتمسّكوا في ذلك بما روي من أمْره صلى الله عليه وسلم بالقيام لها، كحديث عامر بن ربيعة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا رأيتم الجنائز، فقوموا إليها حتى تخلُفكم أو توضَع)).
والصحيح: الأوّل؛ وهو الذي عليه الأئمة الأربعة.