Top
Image Alt

الإجماع السكوتي

  /  الإجماع السكوتي

الإجماع السكوتي

مفهوم الإجماع السكوتي:

الإجماع السكوتي هو: أن يقول بعض المجتهدين قولًا، أو يفعل فعلاً ويسكت الباقون، وقد أشرت قبل إلى: أن الإجماع قد يكون إجماعًا صريحًا، وقد يكون إجماعًا سكوتيًّا.

2. شروط الإجماع السكوتي:

الشرط الأول: أن يظهر القول أو الفعل وينتشر حتى يعلمه جميع المجتهدين ويسكت باقي المجتهدين.

الشرط الثاني: أن يسكت المجتهدون الباقون بعد علمهم.

الشرط الثالث: أن تمضي مدة كافية لبحث المسألة، وهذه المدة التي يسميها العلماء مدة التأمل والنظر، وهذه المدة تختلف باختلاف المسائل.

الشرط الرابع: أن يكون السكوت غير مقترن بقرينة تدل على الرضا أو السخط.

الشرط الخامس: أن تكون المسألة التي يبحثون فيها مسألة اجتهادية، فلا تكون مسألة قطعية، لأن القطعي لا يكون محل بحث.

الشرط السادس: أن يكون السكوت قبل استقرار مذاهب الفقه المعتمدة: مذهب أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد؛ لأنه بعد استقرار المذاهب يحتمل أنه قال الرأي تعلقًا بغيره، كالشافعي مثلًا يفتي بنقض الوضوء من مس الذكر، فلا يدل سكوت الحنفي عنه على موافقته؛ لأن عند الحنفية مس الذكر لا ينقض الوضوء.

الشرط السابع -زاده بعض الحنفية: ألا يكون السكوت في حالة التقية لخوف أو مهابة أو غيرهما.

3. مذاهب العلماء في حجية الإجماع السكوتي:

المذهب الأول: قال ابن قدامة -رحمه الله: إذا قال بعض الصحابة قولًا فانتشر في بقية الصحابة فسكتوا، فإن لم يكن قولًا في تكليف فليس بإجماع، وإن كان في تكليف فعن أحمد -رحمه الله- ما يدل على أنه إجماع، وبه قال أكثر الشافعية، وهذا هو المذهب الأول.

المذهب الثاني: قال ابن قدامة -رحمه الله- في (الروضة): وقال بعضهم: يكون حجة ولا يكون إجماعًا، أي: أنه حجة يحتج به في إثبات الأحكام، ولا يجوز أن يقال: إنه إجماع مطلقًا.

المذهب الثالث: قال ابن قدامة -رحمه الله- في (الروضة): وقال جماعة آخرون: لا يكون حجة ولا إجماعًا.

4. أدلة كل مذهب:

أدلة المذهب الثالث: (الإجماع السكوتي ليس حجة ولا إجماعًا):

قال ابن قدامة:وقد يسكت، يعني: الساكت، من غير إضمار الرضا لسبعة أسباب.

أحدها: أن يكون لمانعٍ في باطنه لا يطلع عليه -يعني: أن يكون في باطن ذلك المجتهد الساكت مانع من إظهار القول، ونحن لا نطلع عليه، وإذا كان الأمر كذلك فلا نقول: إن سكوته معناه الرضا.

السبب الثاني: قال: أن يعتقد -يعني: الساكت- أنَّ كل مجتهد مصيب. وقد انقسم العلماء فيما بينهم، في مسألة تصويب المجتهد وتخطيئه:

هناك مدرستان: مدرسة المصوبة، ومدرسة المخطئة، فمدرسة المصوبة: يرون أن كل مجتهد في المسائل الفرعية مصيب، ومدرسة المخطئة: يرون أن المصيب في المسائل الفرعية واحد، ومن عداه مخطئ.

السبب الثالث: فلأنَّه لا يرى الإنكار في المجتهدات، يعني: المسائل الاجتهادية، عملًا بقاعدة: “لا ينكر المختلف فيه، وإنما ينكر المجمع عليه”؛ فكل مسألة اجتهادية يرى هذا الساكت أنَّ الإنكار فيها ليس واجبًا، ويرى ذلك القول سائغًا لمن أداه اجتهاده إليه، وإن لم يكن موافقًا، فإذا كانت المسألة اجتهادية، فهو يرى عدم الإنكار؛ ولذلك سكت.

السبب الرابع: ألا يرى البِدَار في الإنكار مصلحة، يعني: إنما سكت لأن المصلحة تقتضي السكوت، وأن المبادرة بالإنكار لا مصلحة فيه؛ ولذلك سكت لعارض من العوارض ينتظر زواله، فيموت قبل زواله، أو يشتغل عنه، فإنَّما سكت لمصلحة يراها.

السبب الخامس: أن يعلم أنه لو أنكر لم يلتفت إليه، يعني: كأن رأيه غير معتبر، وناله ذل وهوان، فآثر السلامة، فسكت، وعلى هذا فلا يفهم من سكوته أبدًا أنه موافق أو راضٍٍ.

السبب السادس: أن يسكت لأنَّه متوقف في المسألة؛ لكونه في مهلة النظر، يعني: هو لم يصل بعد إلى حكم في المسألة؛ لذلك لم يصرح بقول، ولم ينكر على قول القائل.

السبب السابع: أن يسكت لظنه أن غيره قد كفاه الإنكار، فغلب على ظنه أن غيره أنكر فسكت، وأغناه عن هذا الإظهار؛ لأنه فرض كفاية، ويكون قد غلط فيه وأخطأ في وهمه.

أدلة المذهب الأول (الإجماع السكوتي حجة ودليل، وإجماع):

ثم شرع -رحمه الله- يتكلم في أدلة المذهب الأول، وهو مذهب الجمهور، وهو المذهب الراجح، الذي يرى أن الإجماع السكوتي حجة ودليل، ويراه في الوقت ذاته إجماعًا، واستدلوا على ذلك بأدلة، أوردها ابن قدامة أيضًا في (الروضة)، قال فيها:

فمجتهد سمع غيره يتكلم برأي في المسألة فسكت، قال: ولنا أن حال الساكت لا يخلو من ستة أقسام:

الحال الأولى: أن يكون لم ينظر في المسألة، يعني: المجتهد سكت ولم ينكر؛ لأنَّه لم ينظر في المسألة.

الحال الثانية: أن ينظر فيها فلا يتبين له الحكم.

ثم بيَّن ابن قدامة -رحمه الله- أن هذين الحالين خلاف الظاهر من عادة العلماء لأمرين:

أولهما: أن عدم الاجتهاد في الحادثة النازلة خلاف عادة العلماء عند النوازل والحوادث، فعادة العلماء أنه متى نزلت حادثة أو نازلة، بادر وسارع في الاجتهاد لمعرفة حكم الشرع فيه.

وثانيهما: أنَّ عدم اجتهاد المجتهد في النازلة، يؤدي إلى خلو العصر من حجة الله تعالى؛ لأنَّا إذا جوزنا أن يكون المجتهد المعلن لرأيه قد أخطأ، والساكت لم يجتهد، فقد خلا العصر من حجة، وقد قال صلى الله عليه  وسلم: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم)).

– وأما القسم الثاني وهو أن المجتهد نظر واجتهد في النازلة، ولكنه لم يتوصل إلى حكم فيها معين، فهذا بعيد من حيث العادة لأمرين أيضًا:

أولهما: أنَّ عدم وصول المجتهد إلى حكم معين في تلك الحادثة هذا بعيد؛ سيما مع توفر الدواعي للاجتهاد، وظهور الأدلة؛ لأنَّه ما من حكم إلا ولله تعالى عليه دلائل وأمارات تدل عليه، والظاهر ممن له أهلية الاجتهاد، إنما هو الاطلاع عليها، والحصول عليها.

وثانيهما: أنَّ عدم وصول المجتهد إلى حكم معين في تلك المسألة، يؤدي أيضًا إلى خلو العصر عن قائم لله تعالى بحجته، لأننا إذا فرضنا أن يكون المجتهد المعلن لمذهبه قد أخطأ فيه، والساكت اجتهد ولم يصل إلى حكم معين فيها، فقد خلا العصر عن قائم لله تعالى بحجته، وهذا مخالف للحديث: ((لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم)).

الحال الثالثة: فأن يسكتوا تقية، يعني: يسكت المجتهدون خوفًا، وهذا أيضًا بعيد لوجهين:

الأول: لأنه لا بد للمجتهد أن يظهر سبب فعله لهذه التقية، ولأن عادة المتقي أن يظهر قوله عند ثقاته وخاصته، يعني: الأقربين منه.

الثاني: ثم إنه إذا سكت حتى ينقرض العصر، فلا بد أن يموت من يتقيه قبله، وحينئذ يجب عليه أن يظهر قوله، كما مثلنا لكم بكلام ابن عباس رضي الله  عنهما حين توفي عمر، وكان يرى أن المال لا يعول، فقيل له: لما لم تقل ذلك في زمن عمر؟ فقال: هبته. أو يموت هو قبل من يتقيه، وحينئذ فينعقد الاجماع.

الحال الرابعة: فأن يكون سكوتهم لعارض لم يظهر، وهذا أيضًا خلاف الظاهر؛ بل إنه يفضي إلى خلو العصر عن قائم لله بحجته، وقد بيَّنَّا أن سكوت المجتهد بسبب عارض لم يظهر، خلاف الظاهر من أحوال العلماء وأهل الحق.

الحال الخامسة: أن يعتقد أن كل مجتهد مصيب، وقد بيَّنَّا هذا عند كلام أدلة أصحاب المذهب الثالث، فهو سكت؛ لأنَّه يرى أن كل مجتهد في المسائل الاجتهادية الفرعية مصيب.

الحال السادسة: ألَّا يرى الإنكار في المجتهدات، قال ابن قدامة -رحمه الله: فثبت أن سكوته كان لموافقته. فلما بيَّن ابن قدامة بطلان تلك الاحتمالات الستة، لم يبقَ إلا أن المجتهد سكت لأنه موافقٌ للقول المعلن.

أدلة المذهب الثاني (الإجماع السكوتي حجة وليس بإجماع):

فقال -رحمه الله: وقول من قال: هو حجة وليس بإجماع، غير صحيح، فإنا إن قدرنا رضا الباقين كان إجماعًا، وإلَّا -وإن لم نقدر رضاهم- فيكون قول بعض أهل العصر.

والحاصل: أنَّ أصحاب المذهب الثاني لما قالوا: إنَّ قول المجتهد المنتشر مع سكوت الباقين يعتبر حجة، ولا يكون إجماعًا، أجاب عنه ابن قدامة تبعًا للغزالي -رحمه الله: أن هذا المذهب غير صحيح، ولا يمكن أن يكون حجةً إن لم يكن إجماعًا، يعني: لا تفرقوا بين كونه حجة وإجماعًا، إن قلتم: هو حجة، فهو إجماع؛ لأنه لا يخرج عن أحد أمرين:

الأمر الأول: إما أن نقدر رضا المجتهدين الساكتين، فهذا يكون إجماعًا وحجة؛ لأن رضا الساكتين يجعل هذا القول كالإجماع الصريح القولي.

الأمر الثاني: أو نقدر عدم رضاهم، فهذا لا يكون إجماعًا ولا حجة، فإن قدرنا رضاهم فهو إجماع، وإن قدرنا عدم رضاهم فلا يكون لا إجماعًا ولا حجة؛ لأن قول ذلك المجتهد المعلن يعتبر قولا لبعض أهل العصر، ولم تثبت له العصمة، وإنما العصمة قد ثبتت لكل مجتهدي الأمة.

هذا جواب ابن قدامة -رحمه الله- عن أصحاب المذهب الثاني، الذي يرى أن الإجماع السكوتي يكون حجةً لا إجماعًا.

5. الترجيح:

القول المختار والراجح في هذه المسألة هو القول الأول -قول أكثر أهل العلم؛ لأنَّه يلزم على المذهب الثاني نسبة المجتهدين إلى تضييع الحق، ولأنَّ شرط التكلم من الكل متعسر، والمعتاد أن يقول البعض الفتوى ويسلم باقيهم، ولو كان الحكم عنده مخالفًا لكان السكوت محرمًا عليهم.

أما قول المخالف، أصحاب المذهب الثاني: لا ينسب إلى ساكت قول، فغير مسلم؛ فقد جعل رسول الله صلى الله عليه  وسلم إذن البكر سكوتها، البكر إذا استطلع رأيها في أمر الخاطب لها، فسكتت، فهذا السكوت قائمٌ مقام التصريح، فقولهم: لا ينسب إلى ساكت قول، كلامٌ غير مسلم.

وأما سكوت علي رضي الله  عنه في مسألة قسمة المال مع عمر رضي الله  عنه فلأنَّه يرى قول غيره حسنًا في ذاته، إلا أنَّه أشار على عمر بقسمة الفضل؛ صيانة عن القيل والقال.

وأما واقعة ابن عباس رضي الله  عنهما أنه قال: خفته، أو خفت درته، أو هبته، فقد نص على أنه لا يصح، وقد كان عمر رضي الله  عنه لينًا في جانب الحق.

error: النص محمي !!