Top
Image Alt

الإحالة، والتقليد، والولع بالأعراض دون الجواهر

  /  الإحالة، والتقليد، والولع بالأعراض دون الجواهر

الإحالة، والتقليد، والولع بالأعراض دون الجواهر

العيب الثاني: الإحالة:

وعرف الإحالة بأنها فساد المعنى، وهي ضروب؛ فمنها الاعتساف والشطط، ومنها المبالغة ومخالفة الحقائق، ومنها الخروج بالفكر عن المعقول أو قلة جدواه وخلو مغزاه، وشواهدها كثيرة في هذه القصيدة؛ فمن ذلك قول شوقي:

السكة الكبرى حيال رباهما

* منكوسة الأعلام والقضبان

يقول العقاد: وقضبان السكك الحديدية لا تنكس؛ لأنها لا تقام على أرجل؛ وإنما تطرح على الأرض كما يعلم شوقي؛ اللهم إلا إذا ظن أنها أعمدة تلغراف على أنها لو كانت مما يقف أو ينكس لما كان في المعنى طائل؛ إذ ما غَناء قول القائل في رثاء العظماء إلا الجدران أو العمد مثلًا نكست رءوسها لأجله؟!.

ومنها قوله:

إن كان للأخلاق ركن قائم

* في هذه الدنيا فأنت الباني

يقول العقاد: هذا بيت لو جرى المدح والرثاء كله على سننه وانتظم النطق والأداء أجمعه على طريقته ونمطه لما فهم الناس من الكلام شيئًا، ولما كان على من يؤتى هذه المقدرة من المنطق ضير ولا خسارة من قطع لسانه، وتتبع العقاد الأبيات التي رأى فيها إحالة أو فسادًا في المعنى أو مبالغة لا تصح؛ حتى وصل إلى قول شوقي:

مصر الأسيفة ريفها وصعيدها

* قبر أبر على عظامك حاني

فقال: مصر أيها القارئ ولا تخطئ؛ فتحسبها القاهرة المعزية فإنها مصر بريفها وصعيدها مصر؛ كلها ما هي إلا قبر واحد؟! فلله در شاعرها يرثي رجل أحيى نهضة بلاده فيجعلها قبر -ولا ضرورة- وليدل على ماذا؟ لا شيء.

والحقيقة أنه لو سار نقد الشعر على هذا النحو الذي ينقد به العقاد شعر شوقي في مثل هذه الأبيات ويراها فاسدة المعنى لما وجدنا شعرًا يقبل من شاعر؛ لأن البيت الذي يقول فيه:

السكة الكبرى حيال رباهما

* منكوسة الأعلام والقضبان

والعقاد يستغرب ويستعجب ويقول: إنه لا يتصور أن تكون السكة الكبرى منكوسة الأعلام والقضبان، وكأنه ليس في لغة العرب شيء اسمه الخيال والاستعارة وإظهار الشيء الجامد كأنه يحس وكأنه يتفاعل؛ فشوقي يريد أن يقول: إن الدنيا كلها حزنت على مصطفى كامل ومن علامات الحزن الذي يعرفه الناس أن الأعلام تنكس؛ فشوقي جعل الأعلام والقضبان كأنها نكست حزنًا على وفاة مصطفى كامل.

والأمر كذلك في قوله:

إن كان للأخلاق ركن قائم

* في هذه الدنيا فأنت الباني

فإنه من التعسف أن ينقد هذا القول وأن يرمى بالإحالة.

وكذلك قوله:

مصر الأسيفة ريفها وصعيدها

* قبر أبر على عظامك حانِي

ففيه مبالغة أن مصر كلها حزنت من أجل مصطفى كامل، وأن ذكرى هذا المناضل العظيم ستكون موجودة في كل مكان في مصر.

وبهذا المعنى رد محمد مندور أيضًا على العقاد بأنه قال: أي تعسف بعد هذا -عن نقد العقاد لهذا البيت؟ وماذا كان ممكن أن يقول الأستاذ العقاد لو سمع خطيب اليونان الأكبر بركليس وهو يقول: إن الأرض كلها مقبرة للعظماء -بمعنى: أن الرجل العظيم لا يرقد في بقعة من الأرض؛ بل تستقر ذكراه في نفوس جميع البشر بشتى بقاع العالم، وهل تراه يتهمه بالسخف والإحالة؟!

أما العيب الثالث: فهو التقليد:

وقال العقاد عنه: أما التقليد فأظهره تكرار المؤلف من القوالب اللفظية والمعاني وأيسره على المقلِّد لاقتباس المقلَّد والسرقة، وأعز أبيات هذه المرثاة على المعجبين بها مسروقة مطروقة؛ فهذا البيت:

فارفع لنفسك بعد موتك ذكرها

* فالذكر للإنسان عمر ثاني

مقتضب من بيت المتنبي:

ذكر الفتى عمره الثاني وحاجته

* ما فاته وفضول العيش أشغال

وهذا البيت:

والخلق حولك خاشعون كعهدهم

* إذ ينصتون لخطبة وبيان

شوه فيه معنى أبي الحسن الأنباري فوق تشويهه، وذاك حين يقول في رثاء الوزير أبي طاهر الذي صلبه عضد الدولة:

كأنك قائم فيهم خطيبًا

* وكلهم قيام للصلاة

يقول العقاد: ونقول شوهه؛ لأن الخطيب لا يخطب الناس وهم سائرون به؛ وإنما يفعل ذلك اللاعبون في المعارض المتنقلة.

وقوله:

أو كان يُحمل في الجوارح ميت

* حملوك في الأسماع والأجفان

مأخوذ من بيت ابن النبيه في قصيدته التي لم تبقَ صحيفة لم تستشهد بمطلعها:

الناس للموت كخيل اطراد

* فالسابق السابق منها الجواد

والبيت هو:

دفنت في التراب ولو أنصفوا

* ما كنت إلا في صميم الفؤاد

ثم يقول: على أن المعنى مرذول، بلغ من ابتذاله وسخفه أن تنظمه عوالم الأفراح في أغانيها، وحسب الشاعر ألا يكون أبلغ ولا أرفع من القائلات: “أحطك في عيني يا سيدي وأتكحَّل عليك” وأنه لا يقول كما قلت:

لو أن لي علمَ ما في غدِ

خبأتك في مقلتي من حذر

ومضى العقاد في تتبعه لشوقي ورد معانيه إلى الشعراء السابقين.

والحق أن ذلك أيضًا لا يخلو من تعسف؛ لأن المعاني في أغلب الأحيان يأخذ الشعراء بعضها من سابقيهم ويحسب للشاعر أنه يعيد عرض المعنى في معرض جديد أو في تعبير أخاذ، والمعاني المبتكرة التي لم يُسبق فيها الشاعر في كل العصور قليلة ونادرة، ولا يمكن أن يجرد الشاعر من الفضيلة؛ لأنه استفاد من معنى شاعر سابق عليه؛ فالشعراء السابقين في كل العصور يرددون معاني سُبقوا إليها.

الولع بالأعراض دون الجواهر:

أما العيب الرابع الذي أخذه العقاد على شوقي في هذه القصيدة -قصيدته في رثاء مصطفى كامل- ويبدو أنه يريد أن هذا العيب عنه في كل شعره وعند نظرائه من المحافظين أو الذين يسميهم العقاد بالمقلدين، يقول العقاد: ويشبه الإحالة من عيوب المقلدين ولعهم بالأعراض دون الجواهر، وهو العيب الرابع الذي اخترنا الكلام عليه من عيوب هذه القصيدة الدالة على أنماط التقليد ومذاهبه، بيد أن الفرق بينهما -أي بين الولوع بالأعراض دون الجواهر والإحالة- كالفرق بين الخطأ واللعب والسخف والعبث، ولكل منهما سبب يبت به إلى الآخر إذا تشابه في الصدور عن طبع أعوج وعقل فارغ.

ثم يقول: وقد يسهل التفطن إلى الإحالة؛ ولكن التفطن إلى هذا الضرب من العبث عسير على من لا يدركه بالبداهة كما يعسر على الأطفال إدراك رزانة الرجال؛ انظر أيها القارئ إلى هذا البيت:

دقات قلب المرء قائلة له

* إن الحياة دقائق وثواني

فإنه بيت القصيد في رأي عشاق شوقي؛ فعلى أيِّ معنًى تراه يشتمل؟! معناه: أن السنة أو مائة السنة التي قد يعيشها الإنسان مؤلفة من دقائق وثوانٍ، وهذا هو جوهر البيت؛ فهل إذا قال قائل: إن اليوم أربع وعشرون ساعة والساعة ستون دقيقة يكون في عرف قراء شوقي قد أتى بالحكمة الرائعة؟! ولكنهم يقولون لك: إنه قرن بين دقات القلب ودقات الساعة، وهذه هي البراعة التي تعجبنا وبها هدانا إلى واجب الضن بالحياة، وهنا يبدو للنظر في قصر المسافة التي يذهبون إليها في إعجابهم، وأن بلاغتهم المزورة لا تتعلق بالحقائق الجوهرية والمعاني النفسية؛ بل بمشابهات الحس العارضة؛ وإلا فلو قورن بين الساعة والقلب أيام كان يقاس الوقت بالساعات المائية أو الرملية؛ فهل يفهم لهذه المقارنة معنى؟! وهل لدقات القلب الخالدة علاقة حقيقية بدقات الدقائق والثواني يستنبط منها الإنسان سر الحياة؟!…

ثم يقول: أبهذه العوارض يقدر الأحياء نفاسة حياتهم؟! وهل يتوقف المعنى الذي ينظم في الحياة الإنسانية على علاقة سطحية باختراع طارئ؟! ولقد قلنا في نقدنا للرثاء الفريد: إن الحقائق الخالدة لا تتعلق بلفظ أو لغة؛ لأنها حقائق إنسانية بأسرها قديمها وحديثها عربيها وأعجميها، ونعيد هذه الكلمة هنا ونزيد عليها أن الحقائق الخالدة لا تتعلق بفترة محدودة ولا تقوم على مشابهة زائلة؛ فليذكر ذلك قراء الجيل الغابر وليتدبروه، ويقولون: إن أحدهم لو سمع ناصحًا يعظه في موقف جد -وأي موقف جد أجد من رثاء النابغين؟!- فيناديه: يا أخي، صن وقتك؛ لأن قلبك ينبض كما تنبض الساعة؛ لأغرق في الضحك ولخطر له أن صاحبه يخامره الشك في عقله؛ ولكنه حين يسمع هذا الكلام شعرًا ويكبر قائله؛ وما ذاك إلا لحسبانه أن الهزل جائز في الشعر فكاهة وحكمة، ولو علم أن الشعر جد كجد الحياة لما تمثل بما حقه أن يضحك منه ويلهو به.

error: النص محمي !!