Top
Image Alt

الإشهاد على الالتقاط

  /  الإشهاد على الالتقاط

الإشهاد على الالتقاط

قال المالكية: ينبغي للملتقط أن يشهد عند الالتقاط على أنه التقط هذا اللقيط؛ لأنه يخاف أن يدَّعي إذا لم يشهد لطول الزمان أنه ولده؛ أي: بعد ذلك ربما وجده طفلًا بارًّا وولدًا فيه صفات طيبة فقال: إنه ولدي، أو الأسوأ من ذلك إذا لم يقل ولدي يدعي أنه رقيق، وربما كان هذا الولد من أبوين حرين، فيشهد خوفًا من ذلك.

أما إذا تحقق أو غلب على ظنه ذلك وجب الإشهاد؛ أي: قالوا: ينبغي -أي: يستحب- لكن إذا غلب على ظنه؛ أي: من النوع الذي لا يضمن مستقبل الحياة، ويغلب على ظنه أنه لو وجد فيه صفات طيبة يقول: إنه رقيقه، فيجب عليه الإشهاد فيقول: اشهدوا أنني وجدت طفلًا, أو لقيطًا في هذا المكان. هذا رأي المالكية.

والأصح عند الشافعية: وجوب الإشهاد حتى ولو كان الملتقط مشهورًا بالعدالة؛ حفاظًا على عدم ضياع نسب اللقيط أو استرقاقه، ومقابل الأصح عند الشافعية: لا يجب الإشهاد؛ اعتمادًا على الأمانة.

والحنابلة يقولون باستحباب الإشهاد حتى لا تدفعه نفسه إلى استرقاقه, والآن لا يوجد استرقاق؛ أي: حتى يمكن أن يعمل, أو الأصح هنا: لو حدث هذا, أنه يعمل بما ذهب إليه الشافعية أو في الأصح عندهم، وهو وجوب الإشهاد، حتى وإن كان الملتقط مشهورًا بالعدالة حفاظًا على عدم ضياع نسب اللقيط؛ لأنهم يوجبون عليه الإشهاد محافظة له على نسبه، ونستبعد الاسترقاق ونقول: محافظة له على النسب, حتى لو جاء بعد ذلك من يدعيه يبقى الولد وصل إلى نسبه، وحوفظ له على نسبه.

ما الشروط التي اعتبرها الفقهاء في الملتقط؟

إذا تحققت في الملتقط كل الشروط التي اعتبرها كل مذهب؛ كان هذا الملتقط هو الأحق بإمساك اللقيط، الأحق بالتقاطه وإمساكه من غيره، وإذا التقطه وأمسكه وكان أحق به من غيره لم يكن لغيره أن يأخذه منه؛ لأنه هو الذي أحياه بالتقاطه، فأحياه إحياءً معنويًّا من الهلاك والضياع، ولأنه مباح سبقت يد الملتقط إليه لقوله صلى الله عليه وسلم: ((ومن سبق إلى ما لم يسبق إليه, فهو أحق به)) هذا الأصل، وهو أنه أحق بإمساكه، وليس لغيره أن يأخذه منه, وهو متفق عليه بين جميع المذاهب.

كما أن الأمر المتفق عليه بين المذاهب أنه ليس بشرط أن يكون الملتقط رجلًا ذكرًا، فيصح التقاط المرأة، ولا ينتزع من يدها إذا تحققت كل الشروط في المذاهب.

لكن المالكية لهم قيدٌ في التقاط المرأة؛ فإذا التقطت لقيطًا فالمالكية قيدوا صحة التقاطها بما إذا كانت المرأة حرة خالية من الأزواج, أو كانت ذات زوج وأذن لها زوجها.

وقيد المالكية صحة التقاط المرأة بهذا؛ لأن المرأة إذا كانت حرة خالية من الأزواج، فلا سلطان عليها؛ لأن لها مالًا وتنفق على هذا اللقيط, أو كانت ذات زوج وأذن لها زوجها؛ وتحتاج إلى إذن الزوج لأن الزوج هو الذي ينفق، وربما تضرّر من إدخال هذا الشخص الثالث على بيته، فلا بد أن تأذن منه في الالتقاط، فإذا لم يأذن فلا يجوز لها، وكان هذا الرأي وجيهًا من المالكية.

وخلاصة ما ذكره الفقهاء: أن هناك شروطًا تشترط في الملتقط، فإذا تخلفت هذه الشروط كان للحاكم أن ينتزع -يأخذ- اللقيط من يد ملتقطه، وذلك إذا كان الملتقط على حالة من الأحوال الآتية -أي: إن الشروط قد تخلفت في الأحوال الآتية:

الحالة الأولى: إذا كان الملتقط صبيًّا أو مجنونًا، فكأننا اشترطنا أن يكون الملتقط غير صبي، وغير مجنون؛ لعدم أهليتهما، فإذا كان الملتقط صبيًّا أو مجنونًا كان للحاكم أن ينتزع اللقيط من يدهما لعدم أهليتهما، وهذا عند جميع الفقهاء.

الحالة الثانية: إذا كان الملتقط محجورًا عليه للسفه، والسفيه محجور عليه لأنه يبذر المال، فإذا كان الملتقط محجورًا عليه للسفه فإنه ينتزع منه؛ لأنه لا ولاية له على نفسه, أي: هو محجور عليه لأنه يبذر المال، فلا ولاية له على نفسه, إذًا لا ولاية له على غيره، فمن أين ينفق على هذا اللقيط ما دامت يده محجورة -أي ممنوعة من التصرف؟

فيكون هذا الشرط غير جائز، ولكن هذا الشرط عند الجمهور -غير الحنفية- لأن الحنفية يجوزون للسفيه أن يلتقط، ولا ينتزع من يده؛ لأن العبد المحجور عليه يصح التقاطه عندهم, فيصح للعبد المحجور عليه لحق سيده أن يلتقط اللقيط, فقالوا: من باب أولى السفيه يجوز له أن يلتقط.

الحالة الثالثة التي يجوز انتزاع اللقيط من يد ملتقطه: إذا كان الملتقط من أهل الفسق، فالفاسق هو الذي يفعل المعاصي، ويشتهر بين الناس كشاهد الزور, أو الذي يشتهر بين الناس بالفواحش التي ليست كبائر، إذا اشتهر هذا الرجل بالفسق كان للحاكم أن ينتزع اللقيط من بين يديه عند الجمهور؛ لأن العدالة شرطٌ في إقراره في يد الملتقط، وما دام اختلّ شرط العدالة لكونه فاسقًا ينزع منه اللقيط؛ لأنه هو الذي سوف يربيه، فيربيه على الفسق، فينتزع منه لأنه لا يتوفر فيه شرط العدالة. هذا عند الجمهور أيضًا.

لكن إذا كان ظاهر حاله الأمانة، فالظاهر من حاله أنه أمين أو مستور الحال، أي: إنه لم يعرف منه لا عدالة ولا خيانة، فهذا يقر -يترك- في يده؛ لأن الأصل في المسلم العدالة، فيكون حكمه حكم العدل في لقطة المال، وإن كان الشافعية يرون أن القاضي يوكل من يراقبه دون أن يعلم ذلك.

فالشافعية لما رأوا أن غير معروف حاله، مستور الحال أو ظاهر حاله الأمانة؛ فكثير من الناس يكون ظاهر حالهم هكذا، لكن باطن حالهم يختلف -قالوا: إن القاضي يوكل من يراقب هذا الرجل مستور الحال في معرفة عدالته, بالنسبة للقيط.

أما الحنفية فقالوا: إن التقاط الكافر صحيح، وكذا الفاسق أيضًا، لكن ينتزع اللقيط منه إن خِيفَ عليه الفجور باللقيط قبل حدّ الاشتهاء؛ أي: قالوا: إن التقاط الكافر صحيح، والفاسق التقاطه صحيح؛ لكن ينتزع اللقيط من تحت أيديهما إذا حدث خوف منهما على اللقيط بالفجور به قبل حد الاشتهاء؛ أي: قبل حد الرغبة أو البلوغ؛ فإذا خيف من أن يفعل به ملتقطه مثل ذلك -والعياذ بالله- قالوا: ينتزع منه، لكن إذا لم يخف عليه يترك تحت يده.

الحالة الرابعة: إذا كان الملتقط عبدًا والتقط دون إذن سيده، فإنه ينتزع منه اللقيط، فإذا كان سيده قد أذن له بالالتقاط أو علم السيد بالتقاط عبده لهذا اللقيط, وأقر هذا اللقيط في يده؛ فلا ينتزع منه، ويكون السيد كأنه هو الملتقط ما دام قد وافق عبده على الالتقاط.

أما الحنفية فلم يشترطوا الحرية في الملتقط، حيث قالوا: يصح التقاط العبد المحجور عليه لحق سيده.

الحالة الخامسة: إذا كان الملتقط غير مسلم، وكان اللقيط محكومًا بإسلامه، وهناك أمارات تدل على أن اللقيط مسلم، وسنشير بعد ذلك إلى أنه يحكم بإسلام اللقيط إذا وجد في دار قوم كلهم مسلمون وهكذا، فإذا كان اللقيط محكومًا بإسلامه والتقطه غير مسلم، فإنه ينتزع منه عند غير الحنفية.

والحنفية يقولون أيضًا: يجوز التقاط غير المسلم؛ لأنه يشترط الإسلام في التقاط المسلم؛ لأن التقاطه وبقاءه تحت يد ملتقطه من باب الكفالة، والكفالة رعاية وولاية، ولا تكون ولاية لغير المسلم على المسلم.

ولأنه لا يؤمن أيضًا أن يفتنه بدينه، أما إذا كان اللقيط محكومًا بكفره، فإنه يقر في يد ملتقطه غير المسلم؛ لأنه على دينه، وهذه لا خلاف فيها، ولأن الذين كفروا بعضهم أولياء بعض.

حكم ما إذا كان الملتقط مستور الحال، ولم تعرف منه عدالة ولا خيانة:

يقر اللقيط في يديه، ولا ينزع من يده؛ لأن الأصل في المسلم العدالة، ولذلك قال عمر رضي الله عنه: المسلمون عدول على بعضهم. لكنا أشرنا منذ قليل إلى أن الشافعية قالوا: إن القاضي يوكل من يراقبه دون أن يعلم ذلك؛ أي: لا يدع فرصة للملتقط أن يعرف أن هناك شخصًا ما يراقبه, وهذا أمر طيب حتى إذا وجد أن هذا الرجل المستور الحال فيه شيء، هذا الذي يراقبه يبلغ القاضي فينزعه من تحت يده.

هناك أمر يتصل بأحكام اللقيط، وهو عن حكم سفر الملتقط مستور الحال باللقيط, فمستور الحال تحدثنا عن حكم التقاطه وبقاء اللقيط تحت يده، لكن إذا أراد هذا الملتقط أن يسافر باللقيط؛ أي: يأخذه إلى مكان آخر في سفر, فقد قال الشافعية في ذلك وفي وجه عند الحنابلة: لا يترك في يديه؛ لأنه لم يتحقق من أمانته، فلا تؤمن الخيانة منه؛ أي: يؤخذ منه.

والوجه الثاني عندهم: أنه يترك في يديه؛ لأنه يترك في يديه في الحضر من غير مشرف يضم إليه، فأشبه العدل، وخاصة إذا كان الظاهر من حاله هو الستر والصيانة.

كأنه إذا أراد أن يسافر به, فهناك رأيان متعارضان: لا يترك في يديه؛ لأننا لم نتحقق من حالته. ورأي آخر قال: نراه يتركه في الحضر من غير مشرف، فأشبه العدل، وخاصة أن هذا الرجل مستور الحال لم نعلم عليه شيئًا، فيترك في يديه.

هذا بالنسبة لمستور الحال، لكن من عُرفت عدالته وظهرت أمانته، يترك اللقيط في يديه في سفره وفي حضره؛ لأنه مأمون عليه إذا كان في سفره، وهذا ليس سفر انتقال؛ أي: انتقال كامل من بلد إلى بلد.

فإذا كان الانتقال من بلده الذي التقطه فيه إلى بلد آخر, أراد أن ينتقل إليه من أجل الإقامة فيه دائمًا، فإن كان السفر إلى بلد والإقامة به بصفة دائمة, نقول: إن كان التقطه من الحضر، وأراد الانتقال به إلى المكان الآخر، وهو أقل منه شأنًا كالبادية -كما يقول العلماء- لا يترك في يده؛ لأن إقامته في الحضر أصلح له في الدين والدنيا.

والمبرر الثاني لعدم تركه في يده يسافر وينتقل به: أنه ما دام وجده في الحضر الظاهر أنه ولد في هذا الحضر، وبقاؤه فيه وعدم الموافقة على أخذه معه لمكان آخر، وهو البدو مثلًا أو البادية, بوجوده في الحضر أصلح له؛ لأن بقاءه فيه يساعد على كشف نسبه وظهور أهله ربما في المستقبل، ويعترفون به.

أما إذا أراد الانتقال به إلى بلد آخر من الحضر؛ أي: ينتقل من حضر إلى حضر، ففيه الوجهان، كأنه حل من حضر إلى حضر, فبعضهم قال: إقامته في الحضر الثاني مثل الإقامة في الحضر الأول يجوز. الوجه الثاني: تركه في الحضر الأول الذي انتقل منه أفضل لبقاء الأمل في كشف نسبه، فلا يترك في يده قياسًا على المنتقل به إلى البادية.

أما إذا كان الالتقاط من البادية إلى الحضر، فقالوا: هذا جائز؛ لأنه ينقله بنفس تعبيراتهم من أرض البؤس والشقاء إلى الرفاهية والدعة في الدين، كأنهم رأوا أن أهل البادية أهل بؤس وشقاء، وانتقاله إلى الحضر فيه رفاهية له، وانتقال إلى هذا المكان، وكذلك لو أراد أن يقيم به في محلة أخرى -في مكان آخر- يستوطنها، فيجوز ذلك لأنها محلة خاصة به، وأراد أن يستوطنها فله ذلك.

هل هناك شرط لعدم ترك اللقيط في يد الملتقط, في الصور التي قلناها؟

ذكرنا عدة صور أو عدة حالات ينتزع فيها اللقيط من يد هؤلاء؛ إذا كان غير حر، وإذا كان غير أمين، وإذا كان غير عدل، وإذا كان صبيًّا …إلخ، فما شرط ذلك؟

نقول: كل موضع ذكرنا فيه أن اللقيط ينتزع، ولا يترك في يد ملتقطه، يكون ذلك بشرط, وهو أن يوجد من يعطى له اللقيط، ويكون أولى به من تركه في يد ملتقطه؛ أي: عندما نجد من نعطيه له، فإذا لم يوجد من يقوم به على وجه العناية والرعاية به, فتركه في يد ملتقطه أولى من تركه للهلاك.

وإذا لم يوجد إلا مثل ملتقطه, ففي جميع الأحوال هذا مثل هذا يكون ملتقطه أولى؛ لأنه لا فائدة من نزعه من يد إلى يد مثلها، فيكون تركه في يد ملتقطه أولى.

error: النص محمي !!