الإيمان بالقضاء والقدر
هو الرُّكن الأخيرُ من أركان الإيمان, والإيمان بالقدر من أصول الإيمان التي لا يَتِمُّ إيمانُ العبد إلا بها، كما ورد في قوله تعالى أدلة كثيرة من القرآن الكريم، ونصوص وردت؛ منها ما يُخبر عن قدر الله، ومنها ما يخبر بنصوص تأمر بالإيمان بالقدر. قال تعالى: {إِنّا كُلّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49]، وقال تعالى: {وَكَانَ أَمْرُ اللّهِ قَدَراً مّقْدُوراً} [الأحزاب: 38]،وقال تعالى: وَلَـَكِن لّيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً} [الأنفال: 42]، وقال تعالى: {وَخَلَقَ كُلّ شَيْءٍ فَقَدّرَهُ تَقْدِيراً} [الفرقان: 2]، كما ورد في (صحيح مسلم) فيما روي عن عمر بن الخطاب, في سؤال جبريل عليه السلام الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((أن تؤمن بالله وملائكته، وكتبه ورسله، وتؤمن بالقدر خيرِهِ وشرِّهِ)).
والأدلة من السُّنة كثيرة كذلك؛ فمنها ما رواه مسلم عن طاوس، قال: “أدركتُ ناسًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون: كل شيء بقدر”، قال: وسمعت عبد الله بن عمر يقول: “كل شيء بقدرٍ، حتى العجز والكَيْس” والكيسُ ضد العجز. وفي روايةٍ أخرى تقديم الكيس على العجز: “كل شيء بقدر, حتى الكيس والعجز”.
وما روي عن علي أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يُؤمنُ عبدٌ حتى يؤمن بأربع: يشهد أن لا إله إلا الله وأني محمد رسولُ الله, بعثني بالحق، ويؤمن بالموت, وبالبعث بعد الموت، ويؤمن بالقدر)).
تعريف القضاء والقدر من حيث المعنى اللغوي أولًا، والمعنى الاصطلاحي ثانيًا:
القدر معناه لغة: تقول: قدرت الشيء بتخفيف الدال وفتحها, والقدر لغة: القضاء والحكم، ومبلغ الشيء، والتقدير: التروية والتفكر في تسوية الأمر.
أما القَدَر في الاصطلاح: فهو ما سبق به العلم، وجرى به القلم مما هو كائن إلى الأبد، وأنه عز وجل قدّر مقادير الخلائق، وما يكون من الأشياء قبل أن تكون في الأزل، وعلم سُبحانه أنها ستقع في أوقات معلومة عنده تعالى وعلى صفات مخصوصة, فهي تقع على حسب ما قدرها.
ويُضيف ابن حجر توضيحًا لهذا التعريف للقدر, بقوله: “المُراد أنّ الله تعالى علم مقادير الأشياء وأزمانها قبل إيجادها، ثم أوجد ما سبق في علمه أنه يوجد, فكل محدث صادر عن علمه وقدرته وإرادته”. والمقصود بقوله: محدث هو كل ما سبقه عدم، وهو ليس بقديم، ونستطيع أن نعبر عنه بأنه كل مخلوق لله تعالى.
وأما القضاء: فهو مختلف عن القدر، فالقضاء معناه: الفصل والحكم، والقضاء أصله: القطع والفصل، وقضاء الشيء: إحكامه وإمضاؤه والفراغ منه؛ فيكون بمعنى الخلق، والقضاء في اللغة يُطلق على عدة وجوه؛ منها: ما أحكم عمله، أو أتم عمله أو نفذ، وكلها ترجع إلى انقضاء الشيء وتمامه.
وأما القضاء اصطلاحًا: فهو الشيء المقضي، والمراد بالمقضي: المخلوق، والقضاء من الله تعالى أخص من القدر؛ فالقدر هو التقدير، والقضاء هو الفصل والقطع، وهذا القول هو أصح الأقوال كما ورد في قوله تعالى: {فَقَضَاهُنّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت: 12]، أي: خلقهن.
فقد وردت كلمة “قضاهن” في قوله تعالى: {فَقَضَاهُنّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} بمعنى: خلقهن؛ فهنا القضاء بمعنى الخلق, وقد وردت نصوص كثيرة في كتاب الله العزيز تؤيد ذلك كما في قوله تعالى: {وَكَانَ أَمْراً مّقْضِيّاً} [مريم: 21], وقوله تعالى: {كَانَ عَلَىَ رَبّكَ حَتْماً مّقْضِيّاً} [مريم: 71], وقوله تعالى: {وَإِذَا قَضَىَ أَمْراً فَإِنّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة: 117].
ومن الأدلة التي تُرجح هذا الرأي في القضاء والقدر: أنّ القَضَاء في اللغة له نحو معانٍ سبعة؛ أشهرها: الحكم، وهو يرجع للفعل؛ فناسب أن يفسر في الاصطلاح بالفعل، وأما القدر فلم يرد أن معنَاهُ في اللغةِ الفعل؛ فناسب ألا يفسر في الاصطلاح بالفعل، بل يُفسر بالعِلْمِ. وهذا التفسير لمعنى القضاء والقدر قد خالف فيه الأشاعرة؛ فقد نقل صاحب كتاب (جوامع الأنوار البهية) أن القدر عندهم هو إيجاد الله تعالى الأشياء على قدر مخصوص، وتقدير معين في ذواتها وأحوالها طبق ما سبق به العلم، وجرى به القلم، وأنّ القضاء هو العلم في السابق, وإرادة الله الأشياء في الأزل على ما هي عليه فيما لا يزال, فهو من صفات الذات عندهم.
والرأي الأول هو الرأي المشهور، وله أدلة على صحته من القرآن الكريم والسنة النبوية؛ فالقضاء والقدر بناء على الرأي الأول أمران متلازمان، لا ينفك أحدهما عن الآخر؛ لأن أحدهما بمنزلَةِ الأساس وهو القدر، والآخر بمنزلة البناء وهو القضاء.
ثم إن الإسلام وضع معالم الإيمان بالقدر؛ فالإيمان بالقدر يقوم على أن الله علم كل ما هو كائن وكتبه، وشاءه وخلقه، واستيعاب العقل الإنساني لهذه الحقائق سهل ميسورٌ, ليس فيه صعوبة ولا غموض ولا تعقيد.
أما البَحثُ في سِرّ القَدَر والغوصُ في أعماقه؛ فإنه يبدد الطاقة العقلية ويهدرها, وإن البحث في كيفية العلم والكتابة والمشيئة والخلق بحثٌ في كيفية صفات الله، وكيف تعمل هذه الصفات، وهذا أمر محجوب علمه عن البشر، وهو غيب يجب الإيمان به، ولا يجوز السؤال عن كُنْهِهِ، والباحث فيه كالباحث عن كيفية استواء الله على عرشه. ولذا فقد نصّ جَمْعٌ من أهل العلم على المساحة المحظورة, التي لا يجوز دخولها في باب القدر، كما قال الإمام أحمد: من السنة اللازمة الإيمان بالقدر خيره وشرِّهِ، والتصديق بالأحاديث فيه والإيمان بها؛ لا يقال: لم ولا كيف؟