الاتجاهات التي سلكها النقد في العصر الأموي
أما الاتجاهات التي سلكها النقد في هذا العصر فتتمثل فيما يلي: نقد أُولي الذوق من الأدباء والخلفاء والرواة، الموازنة الدقيقة بين نصين اتحدا في الموضوع، أو بين شاعرين يجمعهما مذهب شعري واحد، النقد العلمي من علماء النحو واللغة. هذه إذًا الاتجاهات العامة للنقد الأدبي في العصر الأموي.
الاتجاه الأول: هو نقد الذّوّاقين من الأدباء والخلفاء والرواة، أولئك الذين كانت لهم سليقتهم العربية وذوقهم الفطري السليم، وعلى ذلك كانوا يستجيدون الكلام أو يستهجنونه.
الاتجاه الثاني: هو الاتجاه إلى الموازنة بين نصي بيتين أو أكثر في موضوع واحد أو في معنى واحد، أو الموازنة بين شاعرين يجمعهما مذهب شعري واحد، كما كانت تتم الموازنة مثلًا بين جرير والفرزدق.
الاتجاه الثالث: هو النقد العلمي الذي كان يقوم به علماء اللغة والنحو على أساس ما توصلوا إليه، واستنبطوه من قواعد النحو ومعاني ألفاظ اللغة، والقياس الصرفي والقياس النحوي، الذي لم يكونوا يقبلون من الشعراء أن يحيدوا عنه.
ولكن من المهم أن نقول: إن هذه الاتجاهات أيضًا يمكن أن نجدها موجودة جميعًا في موقف واحد، فقد يجتمع الذوق لعلماء اللغة، وقد تكون في الموازنة نظرة مبنية على الذوق، ونظرة مبنية على قواعد اللغة كذلك.
إذًا هذه اتجاهات عامة لكنها يمكن أن تتداخل أيضًا، ونستطيع أن نقول مطمئنين: إن الذين مارسوا النقد الأدبي في العصر الأموي من خلال هذه الاتجاهات الثلاثة -التي ذكرناها- كانوا جميعًا أصحاب فضل كبير على مسيرة هذا النقد.
فهُم -كما يقول الأستاذ طه أحمد إبراهيم- تعمقوا في فهْم الشعر وتذوقه، وفي معرفة مميزات الشعراء تعمقًا لم يهتدِ إليه أحد من قبل، فعرفوا أن جريرًا قوي الطبع صادق الشعور، وأن الأعشى يستعمل أنواعًا كثيرة من الأوزان في شعره، وأن شعر النابغة الذبياني قوي الصياغة شديد الأسر متماسك، وشعر امرئ القيس مليء بالمعاني التي لم يسبقه بها أحد.
عرفوا هذا وكثيرًا مثله، وعرفوا ضروب الصياغة وأن منها ما هو سهل رقيق عند جرير، صعب مُلْتَوٍ عند الفرزدق، جزْل عند الأخطل، وعرفوا ضروب المعاني، وأن منها هو فاسد، وما هو فَظّ، وما هو صائب حكيم لا لغو فيه، ثم هم إلى هذا وقفوا على ما لكل شاعر من خصائص ومميزات، ولا سيما كبار الشعراء، فعرفوا طبقة ملكته الشعرية، وما يحسن من القول وما يطرق من أغراض، وما ينظم فيه من أعاريض، وما يستعين به من ألفاظ، وما يجنح إليه من رقة أو جزالة أو حوشية.
وعرفوا أهمية الإيجاز في المعاني الجزلة وفي البيت الواحد، وعرفوا مزايا طول النفس في القصائد، وأثر ذلك في غزارة المعاني واستيفاء الكلام، والأمثلة على ذلك هي كل ما يورده اللغويون حين يختصرون في مكانة الشعراء.
يضيف: ولكننا نستأنس الآن برأي لشيخ اللغويين وأسبقهم عهدًا أبي عمرو بن العلاء، وهو يقول في ذي الرمة: “إنما شعره نُقَط عروس تضمحل عما قليل، وأبعار ظباء لها مشم في أول شمها، ثم تعود إلى أرواح الأبعار”.
والنص مختلف، وهو على كل حال يشبّه شعر ذي الرمة بنقط العروس التي تذهب بالغُسل، وتفنى في أول ظهور، وبأبعار الظباء التي لها رائحة مقبولة من أثر النبت الطيب الذي تأكله، ثم لا تلبث أن تزول، يريد أن يقول: إن شعره حلو أول ما نسمعه، فإذا كررت إنشاده ضعُف، يريد أن هذا الشعر غير خصب ولا قوي ولا عميق الأثر في النفس، وإنما هو كالشيء البراق يعطي دفعة واحدة كل ما له رواء.
وهذا التحليل الدقيق للصياغة والأعاريض والشعور والمعاني، وملاءمتها للحياة الاجتماعية، وإفصاحها عن حاجات العصر، كل أولئك كان الأصول التي قامت عليها الخصومات في التفاضل بين الشعراء.
ثم ينبه الأستاذ طه أحمد إبراهيم إلى أن اختلاف الأذواق واختلاف الثقافات كان عاملًا رئيسًا في اختلاف الأحكام النقدية؛ إذ يذكر أن النقد العربي في جملته ذاتي، يختلف باختلاف الأذواق والأمزجة والثقافة، بل يختلف باختلاف البلدان.
فالناقد فيه ينبئ عن مزاجه وذوقه وثقافته ومبلغ تأثره، ونوع هذا التأثر، ولكل ناقد شاعر يؤثره، ولكل بلدة شاعر تؤثره دون عصبية ولا انحراف، كان الناقد يذكر في الشعر ما طرب له وانفعل به من شعور أو تشبيه أو فكرة أو صياغة أو عروض يؤثره، كان يعجب بالشعر الذي يرى نفسه مصورة فيه.
فقد كان يونس بن حبيب فرزدقيًّا يؤثر الفرزدق على جرير، وكان المفضل الضبي يقدم الفرزدق على جرير تقدمة شديدة، وكان أهل الكوفة يؤثرون الأعشى على من في طبقته، وأهل الحجاز والبادية يقدِّمون زهيرًا والنابغة، وكان علماء البصرة يقدمون امرأ القيس بن حُجْر، وكان أهل المدينة يفضِّلون النسيب من بين الأغراض، وليس لهذا التفضيل من سر نعرفه إلا الميل وتوافق الطبع، فيونس كان نحويًّا يحرص على التراكيب ونظم الكلام، وشعر الفرزدق يُرضي النحاة بما فيه من تقديم وتأخير ومداخلة، ويمدّهم بكثير من الأمثلة والشواهد.
وكان المفضل الضبي يميل إلى الشعر الجزل، وإلى الغريب من الألفاظ والمتماسك القوي من التراكيب، كما تدل عليه المفضليات، والمفضليات هي القصائد التي اختارها المفضل الضبي من الشعر الجاهلي والشعر الإسلامي، ثم يقول: وليس من شك في أن هذا يتحقق في شعر الفرزدق بالإضافة إلى جرير.
أما تفضيل أهل الكوفة الأعشى؛ فلأن شعره يلائم أهواءهم ومزاجهم الرقيق، فالتحضر في شعر الأعشى أكثر منه في شعر أصحابه، والأغراض التي خاض فيها تتصل كثيرًا باللهو، وعبارته لينة وبحوره موسيقية، وكل هذا كان من طبع الكوفيين، فقد كانوا على كثب من مواطن حضارات قديمة، وكثير منهم كان عابثًا ماجنًا يرى في شعر الأعشى لذته ومتعته.
وليس من الصعب أن نعلل تفضيل أهل البادية زهيرًا أو ذا الرمة، فزهير لم يرَ غير البادية، ولم يتقلب في البلاد تقلب الأعشى، فأصبح في الصياغة وفي المعاني وفي الأغراض الشعرية وفي الحركة الذهنية شاعرًا بدويًّا محضًا، يرضي أهل البادية، والأمر كذلك في ذي الرمة فهو من الإسلاميين المحافظين، مِن الذين احتذوا النهج الجاهلي في أخص صفاته؛ في الديباجة وفي الأغراض وفي الألفاظ وفي المعاني، بل ليس له باع في الأغراض التي قويت في الإسلام كالهجاء، وأكبر الظن أن الذي حمل علماء البصرة على تفضيل امرئ القيس معانيه التي انفرد بها، وأن الذي حمل أهل المدينة على إيثار النسيب ظهور الغناء بها، وحاجة المغنين إلى الأصوات.
من هذا التحليل الدقيق لنزعات النقد عند النقاد الذين مارسوا النقد في العصر الجاهلي، يظهر أن العصبية القبلية أو العصبية الشخصية لم يكن لها دور كبير في هذا النقد، وإنما كان الذوق وكان العلم هما الأساس الذي بني عليه أكثر النقد، الذي مُورِس في هذا العصر.