Top
Image Alt

الاتجاه الثالث: نقد العلماء

  /  الاتجاه الثالث: نقد العلماء

الاتجاه الثالث: نقد العلماء

العلماء النقاد هم علماء اللغة وعلماء النحو، والنظر في الشعر كان من صميم صناعتهم، حيث كانوا يلتمسون في الشعر الشواهد التي يدللون بها على القواعد؛ وقد استتبع ذلك أنهم نقدوا ما لم يجرِ على المذهب أو ما شذّ عن القاعدة، ومن اللغويين والنحاة بصريون وكوفيون وبغداديون، وهذه مذاهب معروفة للنحو والنحاة.

وهؤلاء العلماء قد نقدوا الشعر على هدي من ثقافتهم ومن أثر البيئة الاجتماعية، وعلى هدي من نصيبهم من الذوق أيضًا، وكانوا في هذا الذوق متفاوتين، شأنهم شأن غيرهم من النقاد حيث التفاوت في الذوق والتفاوت في الثقافة أيضًا، ومن هنا يأتي الاختلاف في الحكم على القول الواحد بين ناقد وناقد أحيانًا.

ومن هؤلاء العلماء الكبار والرواة الثقات: الأصمعي، وهو أول من عقد الصلة بين الشعر وبيئته الاجتماعية، وذلك حينما نظر في شعر حسان بن ثابت في الجاهلية، ووازن بينه وبين شعره في الإسلام.

ومع أن الأصمعي كان عالمًا لغويًّا وكان راوية، فإننا نجد كلامه في مثل هذا الموطن يدل على بصر عالٍ بالشعر وثقافة واسعة، ومثل هذه اللفتات البارعة تعتبر تجديدًا في المجال النقدي، واتجاهًا به إلى آفاق لم تكن معهودة من قبل.

ومن النماذج التي رويت لتدل على نقد العلماء: أن الأصمعي قال: “قرأت على أبي مِحْرِز خلف بن حيان الأحمر شعر جرير، فلما بلغت إلى قوله:

فيا لك يومًا خيره قبل شره

*  تغيب واشيه، وأقصر عاذله

قال خلف: ويحه! ما ينفعه خير يئول إلى شر، فقلت: هكذا قرأته على أبي عمرو بن العلاء، قال: صدقت، وكذا قال جرير، وكان قليل التنقيح لألفاظه، وما كان أبو عمرو ليقرئك إلا كما سمع، قلت: فكيف يجب أن يكون؟ قال: الأجود أن يكون “خيره دون شره” فاروه كذلك، وقد كانت الرواة قديمًا تصلح أشعار الأوائل، فقلت: والله لا أرويه إلا كذا”. فهنا قد تدخل عالم في اللغة؛ ليبدل لفظًا بلفظ رآه أنسب للمعنى.

ومن ذلك أيضًا أنهم قالوا: حدث عنبسة الفيل قال: “قدم ذو الرمة الكوفة، فوقف ينشد الناس بالكناسة قصيدته التي منها:

هي البرء والأسقام والهم والمنى
 
* وموت الهوى في القلب مني المبرح

وكان الهوى بالنأي يمحى فيمحي
 
* وحبك عندي يستمد ويربح

إذا غيّر النأي المحبين لم يكد
 
* رسيس الهوى من حب ميّة يبرح

قال: فلما انتهى إلى هذا البيت ناداه ابن شبرمة أراه قد برح، قال: فشنق ناقته وجعل يتأخر بها ويفكر، ثم قال:

إذا غير النأي المحبين لم أجد
 
* رسيس الهوى من حب مية يبرح

قال: فلما انصرف الناس، حدثت أبي قال: أخطأ ابن شبرمة حين أنكر على ذي الرمة، وأخطأ ذو الرمة حين غيّر شعره لقول ابن شبرمة؛ إنما هذا كقول الله تعالى: {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور: 40]، وإنما هو لم يرها ولم يكد”.

فالشاهد في هذا النقد أن أحد العلماء عاب على ذي الرمة قوله:

إذا غير النأي المحبين لم يكد
 
* رسيس الهوى من حب مية يبرح
 

فاستجاب ذو الرمة لهذا النقد وغيّر لفظ البيت، وجعله: لم أجد، بدل: لم يكد. وعلق عالم آخر على هذا النقد فخطّأه وخطّأ ذا الرمة عندما غيره؛ لأن قوله: لم يكد، أبلغ وأصح من قوله: لم أجد، وذلك كقول الله عز وجل: {إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا }.

ومِن نقد العلماء أيضًا ما رووه من أن عبد الله الحضرمي النحوي كان شديد التعقب لشعر الفرزدق، فنقده في قوله:

إليك أمير المؤمنين رمت بنا

* هموم المنى والهَوْجَل المتعسف

وعَضُّ زمان يا بن مروان لم يدع
 
* من المال إلا مسحتًا أو مُجَلَّفُ

فقال له: “على أي شيء ترفع “مجلف”؟ فقال: على ما يسوءك وينوءك”.

وذكروا أن الفرزدق ضاق ذرعًا من ملاحقة علماء اللغة له وتشددهم معه، فقال لهم مقولته المشهورة: “عليّ أن أقول، وعليكم أن تُعربوا”.

ومن هذا النقد اللغوي أيضًا: أن الفرزدق لما أكثر الحضرمي عليه في النقد، هجاه بقوله:

ولو كان عبد الله مولى هجوته

* ولكن عبد الله مولى مواليا

فقال له الحضرمي: “وأنت في هذا مخطئ أيضًا!”، يريد أن يقول: إن الصواب هو مولى موالٍ، لا: مولى مواليا.

ومن هذا النقد اللغوي كذلك: أن أبا العباس محمد بن يزيد النحوي علق على قول الفرزدق:

وإذا الرجال رأوا يزيد رأيتهم

* خُضُع الرقاب، نَوَاكِس الأبصار

قال: “في هذا البيت شيء مستظرف عند أهل النحو، وذلك أنه جمع فاعلا على فواعل -يريد نواكس- وإذا كان هكذا لم يكن بين المذكر والمؤنث فرق؛ لأنك تقول: ضاربة وضوارب، ولا يقال في المذكر فواعل إلا في موضعين، وذلك قولهم: فوارس وهوالك، ولكنه اضطر في الشعر فأخرجه عن الأصل، ولولا الضرورة ما جاز له”.

فكل هذه الشواهد تسير في اتجاه هذا النقد اللغوي الذي ينصرف إلى موقع الكلمة من الإعراب، وهذا النقد هو الذي مارسه علماء النحو، أو إلى دلالة الكلمة وأن غيرها في الدلالة عند العرب أفضل منها وأنسب، وهذا ما مارسه علماء اللغة.

error: النص محمي !!