الاتجاه الثاني: الموازنات الشعرية
الاتجاه الثاني الذي سار فيه النقد الأدبي في العصر الأموي هو اتجاه الموازنات، وإن كنا وجدنا بعض الموازنات في الاتجاه الأول؛ لأن الاتجاهات أحيانًا تتداخل.
لقد اتجه النقاد في الفترة الأموية إلى معالجة الموازنات بين النصوص الشعرية التي ترد في معنى واحد، أو في معانٍ متقاربة، وقد كان لظهور النقائض في شعر جرير والفرزدق من الأسباب التي اتجهت بالنقد إلى هذا الاتجاه الجديد، بالإضافة إلى أسباب أخرى.
ولم يقف الأمر في الموازنة عند نص ونص آخر، وإنما تعداه إلى الحديث عن مذاهب الشعراء في القول واتجاهاتهم في تصريف معانيه؛ فقد جمعوا بين شعراء المذهب الواحد، ولاحظوا ما عسى أن يكون بينهم من صلة وتناسب، فالشاعر العَرْجِي مثلًا يسلك عندهم مسالك عمر بن أبي ربيعة ويترسم خطاه، والشاعر ذو الرمة يسير على النهج الجاهلي في الوصف.
واعتماد النقاد حينئذ في باب الموازنات على ملاحظة المذهب الشعري، واتحاد المعنى أو تقاربه فيما تجري فيه الموازنة، حدد لها الإطار الذي ينبغي ألا تتخطاه، وقد سبق ذكر أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان أول من اشترط للموازنة أن يكون الشاعران متعاصرين، وأن يكون مذهبهما في الشعر واحدًا، فهذا يدل على أن العصور لا تتقاطع وإنما تتواصل.
ومن الموازنات الشعرية التي يستشهد بها مؤرخو النقد في هذا الاتجاه، أن السيدة سكينة بنت الحسين وازنت بين شعر كثير عزة وبين شعر امرئ القيس، والشاعران على مذهب شعري واحد، والمعنى الذي تضمنه شعرهما غير مختلف أحيانًا وإن كانا مختلفين في العصر، والمذهب الشعري الواحد المراد به هنا هو الغزل، حيث قالت سكينة لكثير: “أخبرني عن قولك:
وما روضة بالحَزْن طيبة الثَّرى | * | يمُجّ الندى جَثْجاثُها وعَرَارها |
بأطيب من أردان عزة موهما | * | وقد أوقدت بالمندل الرطب نارها |
ويحك! وهل على الأرض زنجية منتنة الإبطين، توقد بالمندل الرطب نارها إلا طاب ريحها؟ ألا قلت كما قال عمك امرؤ القيس:
ألم ترياني كلما جئت طارقًا | * | وجدت بها طيبًا، وإن لم تطيب” |
وهذه موازنة دقيقة وذكية، والحق معها في تفضيل قول امرئ القيس على قول كثير.
ومن الموازنة كذلك ما رووه من أن كثير عزة اجتمع في مجلس مع ابن أبي عتيق، وكان عنده ابن معاذ المغني، فلما رأى كثيرًا قال لابن أبي عتيق: “ألا أغنيك شعر كثير عزة؟ قال: نعم، فغناه:
أبائنة سعدى؟ نعم ستبين | * | كما انبَتَّ من حبل القرين قرين |
أَإِنْ زُمّ أجْمالٌ وفارقَ جيرةٌ | * | وصاح غراب البين أنت حزين؟ |
كأنك لم تسمع، ولم ترَ قبلها | * | تفرُّق أُلّاف لهن حنين |
فأخلفْنَ ميعادي وخُنَّ أمانتي | * | وليس من خان الأمانة دين |
فالتفت ابن أبي عتيق إلى كثير، فقال: وللدين صحبتهن يا بن أبي جمعة! ذلك والله أشبه بهن وأدعى للقلوب إليهن، وإنما يوصفن بالبخل والامتناع -أي: النساء- وليس بالوفاء والأمانة -يريد في مقام الغزل- ذو الرقيات أشعر منك حيث يقول:
حبذا الإدلال والغَنَج | * | والتي في طرفها دعج |
والتي إن حدثت كذبت | * | والتي في ثغرها فلج” |
ومن الموازنات كذلك: أن كثيرًا الشاعر وازن بين عمر بن أبي ربيعة والأحوص ونصيب، موازنة اعتمدت على ما ينبغي أن يقال وما لا يقال في شأن الغزل بالمرأة، وهذا ما فعله ابن أبي عتيق أيضًا.
وهذه الموازنات تحمل إلينا صدق النظرة ودقة الإحساس ورقة الشوق، وتحمل أيضًا ما يدل على العلم بعواطف النساء وطبيعة المرأة، وما يحسن أن يقال في صفتها وما لا يحسن أن يقال.
ومن هذا القبيل أنهم أخذوا على عمر بن أبي ربيعة تشبيبه بنفسه، وذكره في شعره أن النساء يطلبنه، والمفترض والطبعي أن الرجل هو الذي يطلب المرأة، وأن المرأة لا تجدّ في طلبه؛ ولهذا عابوا قوله:
ثم اسبطرت تشتد في أثري | * | تسأل أهل الطواف عن عمر |
وقيل له: والله لو وَصفتَ بهذا هِرّة أهلك لكان كَثِيرًا! ألا قلت كما قال الأحوص:
أدور ولولا أن أرى أم جعفر | * | بأبياتكم، ما درت حيث أدور |
وما كنت زوارًا، ولكن ذا الهوى | * | إن لم يزر، لا بد أن سيزور |
ومن هذا الباب أيضًا فيما يقال عن النساء، وما لا يقال أن كثيرًا التفت إلى الأحوص وقال له: “أخبرني عن قولك:
فإن تَصِلي أصلك، وإن تبيني | * | بهجرك بعد وصلك ما أبالي |
أما والله لو كنتَ حرًّا لباليت ولو كسر أنفك، أما قلت كما قال هذا الأسود -وأشار إلى نصيب:
بزينب المم قبل أن يرحل الركب | * | وقل: إن تملين فما ملَّكِ القلب؟”. |
وتذكر رواية أخرى أن كثير عزة التفت إلى نصيب، فقال له: “أخبرني عن قولك:
أهيم بدعد ما حييت فإن أمت | * | فواكبدي من ذا يهيم بها بعدي |
أهمّك، ويحك من يهيم بها بعدك!”.
فكل هذا يدل على أن هؤلاء الشعراء كانوا يمارسون النقد، وكانوا يوازنون بين قول وآخر، وكانوا يفضّلون شاعرًا على آخر من هؤلاء الذين اتحد مذهبهم في القول.
ومن ذلك أيضًا: أن بشار بن برد أنشد قول كثير عزة:
إلا أنما ليلى عصا خيزرانة | * | إذا غمزوها بالأكف تلين |
فقال: لله أبو صخر! جعلها عصا خيزرانة، فوالله لو جعلها عصا زبد لهجنها بالعصا، ألا قال كما قلت:
ودعجاء المحاجر من معدّ | * | كأن حديثها قطع الجُمّان |
إذا قامت لحاجتها تثنت | * | كأن عظامها من خيزران؟” |
والمعروف أن بشارًا كان شاعرًا ذكيًّا، ونقْدُه هذا يدل على ذوقٍ عالٍ وفطنة ثاقبة.