الاختلاف في أصل الوديعة أو في صفة المقبوض
نتكلم هنا باختصار في حكمين من أحكام الوديعة، وهو الاختلاف في أصل الوديعة أو في صفة المقبوض.
فإذا اختلف المودِع مع المودَع في أصل الوديعة، كما لو أعطى شخص مالًا عند آخر ثم اختلفا، فقال الآخر -الذي أُعطي له المال: أمرتني أن أنفقه على أهلك، أو أدفعه إلى فلان, وأنكر المودِع ذلك -اختلف الفقهاء في ذلك على رأيين:
أحدهما للحنفية والمالكية والشافعية: أن القول يكون قول صاحب الوديعة مع يمينه؛ أي: يصدق فيه قوله أنه أعطاه له على سبيل الأمانة، وعلى المودَع -الوديع- البينة بما ادعى؛ لأن الأصل عدم الإذن بذلك؛ أي: يكون على من تحت يده المال أن يأتي ببينة على أن المال أعطي له على سبيل أن ينفقه على أهله.
الرأي الثاني للحنابلة: أن القول يكون للوديع -أي: لمن تحت يده المال- ولا ضمان عليه، بل عليه اليمين؛ لأنه ادعى.
فمن وُضع المال تحت يده، وحصل خلاف بينه وبين من أعطاه، فالقول السابق يرى أن القول قول صاحب الوديعة مع يمينه، وعلى الوديع البينة. أما القول الثاني فيقول: القول قول الوديع. هذا بالنسبة للاختلاف في أصل الوديعة, هل هي وديعة أو مال أعطي للإنفاق؟
إذًا: اختلفوا في أصل المقبوض، بمعنى أن شخصًا اختلف مع شخص أعطاه مالًا؛ كأن أعطاه مائة درهم وديعة، والذي أخذ للمائة الدرهم على سبيل الوديعة له على من أعطاه مائة، ثم اختلفا في صفة هذا المقبوض، فقال الوديع -من أعطي له المال-: هذه المائة التي سلمتها لي هي التي كانت لي عندك؛ أي: كانت دينًا أو قرضًا، وأما المائة الوديعة، فقد تلفت. وقال الثاني العكس؛ المودع قال: إن ما قبضته منك هو الوديعة, أما القرض فباق في ذمتك.
والحنفية والمالكية يقولون: القول قول المودع وهو من تحت يده المال، لكن بيمينه ويبرأ من المالين؛ فإذا حلف يبرأ من الناحيتين، يبرأ من كونه وديعة ومن كونه دينًا. والقول قوله على أية حالة كان الدفع, فإذا قال: إنه دفعها على جهة قضاء الدين، فإنه يبرأ منه وتبقى الوديعة، وإن أخبر بهلاكها فالقول قوله في ذلك، وقد برئ من الاثنين، فيقبل القول بقضاء الدين، ولما قال: إن الوديعة قد هلكت قبل قوله فصار بريئًا من الناحيتين.
انتهاء عقد الإيداع:
لما كان عقدُ الإيداع جائزًا من الجانبين؛ كان لكل واحد منهما فسخه كما هو الحال في العقود السابقة، والعقود الجائزة من الجانبين مثل الوكالة، فكان لكل واحد منهما أن يفسخ ذلك متى شاء، دون توقف على رأي الطرف الآخر.
فمتى أراد الوديع -من تحت يده الوديعة- أن يردّها إلى صاحبها, كان على صاحبها أن يلزم بالقبول؛ لأن الآخر متبرع بالحفظ لمالكها وما على المحسنين من سبيل، فهي عقد تبرع ومعونة، فإذا أراد أن يردّها لصحابها يجب على صاحبها أن يقبلها.
لكن الانفساخ بمعنى انحلال الرابطة -حيث يأتي أمر يدعونا إلى أن نقول: إن الوديعة قد انتهت- يكون لسبب من الأسباب التالية:
أولًا: موت أحد العاقدين؛ المودِع أو الوديع، أما موت المودع وهو صاحب المال؛ فلأن الذي أودعه انتقلت ملكيته إلى ورثته أو إلى الدائنين له. وأما من كان تحت يده المال وهو الوديع؛ فلأنه بموته زالت أهليته للحفظ، وإذا توفي لزم الوديع رد الوديعة إلى ورثة المودع، وهو قد مات؛ فيجب على ورثته أن يردوا المال إلى يد المودع صاحب المال. هذا سبب من أسباب انتهاء الوديعة.
ثانيًا: زوال أهلية واحد منهما للتصرف بالجنون والإغماء؛ فالمودع إذا حصل له فقد أهلية بجنون أو إغماء، تنتقل ولايته لغيره، فيكون كما يقول أهل العلم: فاقد الشيء لا يعطيه, فما دام قد فقد الأهلية في حفظ ماله لنفسه، فلا يحفظ مال غيره وهو الوديعة، فكلٌّ منهما ما دامت قد زالت أهليته لم يعد أهلًا للإيداع أو للاستيداع؛ أي: لا يصلح أن يكون مودعًا ولا وديعًا.
ثالثًا: إذا عزل الوديع نفسه، أو عزله المودع مع علمه بذلك؛ أي: قال الوديع: عزلت نفسي عن الوديعة؛ لأن هذا عقد جائز. فإذا أبلغه شخص أن صاحب المال، وهو المودع عزله وعلم بذلك، فهنا يصير معزولًا وتنتهي الوديعة.
لكن إذا لم يعلم فتلك الوديعة ما زالت أمانة في يده إلى أن يبلغه ذلك؛ لأنه لو كان صاحب الوديعة في مكان بعيد، وأرسل له بذلك خطابًا فلم يبلغه إلا بعد مدة من تاريخ علمه -يصير منتهيًا عقد الوديعة.
رابعًا: ومما تنتهي به الوديعة أن ينقل صاحب الوديعة ملكيتها لغير الوديع، فقد يبيع صاحب الوديعة المال الذي تحت يد الوديع إلى آخر، فيأتي المشتري ويقول له: إن فلانًا الذي له وديعة تحت يدك قد باعها لي، وهذا صَكّ الشراء. فهنا تعتبر الوديعة منتهية، ولا يعتبر المال الذي تحت يده وديعة، بل يجب عليه أن يسلك الطرق الأخرى مثل ردها لصاحبها أو بيعها أو إعطائها للمشتري الجديد, وذلك بالطريقة التي يراها.
خامسًا: من أسباب انتهاء الوديعة: إقرار الوديع بالوديعة لغير صاحبها؛ لأن هذا الإقرار يتعارض مع حفظها لمالكها، فينفسخ عقد الإيداع, فلو أن الشخص الذي تحت يده المال وديعة قال: الوديعة التي تحت يدي ليست لفلان، كأنه أقر بأن هذه الوديعة ليست لصاحبها، وهذا الإقرار يتعارض مع الحفظ، فهنا ينفسخ عقد الإيداع، ويكون المال الذي تحت يده مضمونًا عليه، ولكل من المتداعيين في هذا المال -الذي أعطاه المال، والذي أقر له بهذا المال- إثبات أنه هو صاحب المال.
سادسًا: كذلك تنتهي الوديعة بالتعدي أو التفريط الذي يؤدي إلى انتهاء عقد الوديعة؛ لأنه أوجب الضمان، فانقلبت الوديعة في يده إلى يد ضمان وليست يدًا أمينة، فليس الآن هو مؤتمن؛ فينفسخ عقد الإيداع على هذا.
سابعًا: وهو الأخير من أسباب انتهاء الوديعة: جحودها, وقد اتفق الفقهاء على أن عقد الإيداع ينفسخ بجحود الوديعة؛ فلو جاء له وقال: أريد وديعتي. فقال: ليس عندي وديعة. فعندما طلب منه ردها فكأنه عزله عن الحفظ وعن الوديعة، والوديع عندما جحدها وقال: ليس لك عندي, كأنه عزل نفسه عن الحفظ, وبهذا تصير الوديعة مالًا تحت يده مضمونًا عليه، وليست وديعة.