الاختلاف في حكم الحادثة ثم الاتفاق عليها
. حالات الاختلاف:
حصول الاتفاق بعد الخلاف إنما يكون في نفس العصر، ومن نفس العلماء المجتهدين؛ فكأن المسألة في حصول الاتفاق بعد الخلاف في نفس العصر، فإذا اختلف علماء العصر في مسألة على رأيين، فهل يجوز لهم أن يتفقوا على أحد الرأيين بعد الخلاف، أم لا؟ اختلف العلماء في ذلك، ولهذا الخلاف حالتان:
الحالة الأولى: أن تعرض المسألة ويظهر كل واحد من المجتهدين رأيه في المسألة، ولم يستقر الخلاف بعد، بل لا زالوا في مهلة النظر والتأمل والبحثف؛ يتفقوا بعد اختلافهم.
المثال الأول: أن الصحابة رضي الله عنهم اختلفوا في قتال مانعي الزكاة، بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وفي خلافة أبي بكر رضي الله عنه فكان رأي الصديق أبي بكر رضي الله عنه أن يحاربهم، وأن يقاتلهم، وكان رأي بعض الصحابة في أول الأمر وفي مهلة النظر ألا يحاربهم، وألا يقاتلهم، ثم أجمعوا بعد ذلك على قتالهم.
المثال الثاني: اختلاف الصحابة في بيعة أبي بكر الصديق رضي الله عنه ثم أجمعوا بعد ذلك على خلافة أبي بكر رضي الله عنه قال أهل العلم: فكان ذلك إجماعًا صحيحًا.
الحالة الثانية: أن يستقر الخلاف، أي: يختلف المجتهدون وعلماء العصر، وتمر مدة كافية، ويستقر الخلاف؛ بحيث يُعلم أن رأي فلان المجتهد كذا في المسألة، ورأي فلان المجتهد كذا في المسألة، وتمر مدة طويلة؛ فيكون الخلاف قد استقر، وفي هذه الحالة -حالة استقرار الخلاف- اختلف العلماء في الاتفاق الحاصل بعد الخلاف في حكم حادثة من الحوادث: فذهب كل من اشترط في الإجماع انقراض المجمعين إلى الجواز، وذلك لأنه لم يثبت عنده إجماع؛ لأن شرط الإجماع لم يتحقق؛ فلم يتحقق المشروط، وأما من لم يشترط انقراض المجمعين؛ فقد اختلفوا على مذاهب.
2. عرض المذاهب في المسألة:
المذهب الأول: وهو مذهب جمهور العلماء، وحاصله: أن حصول الاتفاق بعد الخلاف في نفس العصر يجوز.
المذهب الثاني: أن الاتفاق بعد الاختلاف في نفس العصر لا يكون إجماعًا، وهذا المذهب مال إليه الغزالي.
3. الأدلة، والمناقشة، والترجيح:
أولًا: أدلة الجمهور:
الدليل الأول: إنَّ الوقوع أدل دليل على الجواز، وقد وقع الاتفاق بعد الاختلاف في نفس العصر، والوقوع أكبر دليل على الجواز.
الدليل الثاني: إجماع الصحابة رضي الله عنهم على قتال مانعي الزكاة بعد اختلافهم فيه، وهذا المثال إنما يذكر في حالة عدم استقرار الخلاف، وقد قررنا أن في حالة عدم استقرار الخلاف؛ فالاتفاق الناشئ بعد الاختلاف يكون إجماعًا.
الدليل الثالث: الأولى أن يستدل على أن الاتفاق بعد الاختلاف في نفس العصر يكون إجماعًا بما رواه الإمام البخاري في (صحيحه): أن عليًّا رضي الله عنه قال لابن عباس رضي الله عنهما: إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن نكاح المتعة، وعن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر، فقد خالف ابن عباس بقية الصحابة في حكم نكاح المتعة، واستمر على ذلك مدة؛ حتى راجعه الإمام علي رضي الله عنه.
فهذا من أوضح الأمثلة التي يستدل بها الجمهور على أن الاتفاق بعد الاختلاف في نفس العصر يكون إجماعًا.
وللجمهور دليل ثانٍ على ما ذهبوا إليه، قالوا: إن الإجماع بعد الاختلاف أقوى من الإجماع الذي لم يتقدمه خلاف، قالوا: لأنه يدل على ظهور الحق بعد التباسه.
الدليل الرابع: قال ابن قدامة -رحمه الله- في (الروضة) بعد أن ذكر مذهب الجمهور: لقوله صلى الله عليه وسلم : ((لا تزال طائفة من أمتي على الحق)) وغيره من النصوص، فقوله صلى الله عليه وسلم : ((لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين)) وغير هذا الحديث من النصوص الدالة على حجية إجماع أهل كل عصر، مثل قول الله تعالى: {وَيَتّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلّهِ مَا تَوَلّىَ} [النساء: 115] الآية، وقد بينا وجه الاستدلال منها قبل ذلك، وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمّةً وَسَطاً} [البقرة: 143] وقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تجتمع أمتي على الخطأ)) فإذا أجمع التابعون على أحد قولي الصحابة في مسألة معينة فإنه يكون إجماعًا، ومن خالفه فقد خالف الحق الذي أظهرته الأمة، ومن خالفه فقد اتبع غير سبيل المؤمنين، وزعم أن إجماعهم خطأ.
الدليل الخامس: قال ابن قدامة -رحمه الله- في (الروضة): ولأنه اتفاق من أهل عصر، فهو كما لو اختلف الصحابة على قولين، ثم اتفقوا على أحدهما، وأنت ترى أن هذا الدليل قياس، وحاصله: أن الصحابة رضي الله عنهم لو اختلفوا على قولين في مسألة حادثة، ثم اتفق الصحابة على أحد القولين فإنه يكون إجماعًا تحرم مخالفته، ولا يجوز الأخذ بالقول الآخر، فكذلك يقاس على ذلك ما لو اختلف الصحابة على قولين، ثم اتفق التابعون على أحدهما، والجامع أنه اتفاق من أهل عصر، سواء كان عصر الصحابة أو التابعين، لا فرق؛ فهم كل الأمة.
ثانيًا: أدلة المذهب الثاني:
مذهب القاضي أبي يعلى وبعض الشافعية، الذين يرون أن الاتفاق بعد الاختلاف في نفس العصر لا يكون إجماعًا.
الدليل الأول: إن اختلافهم في الحكم على قولين إجماع على جواز الأخذ بأيهما كان، فلو جاز الاتفاق بعد هذا الاختلاف على قولين؛ لم يجز الأخذ بالقول الآخر، ويلزم من ذلك نقض الإجماع الأول؛ وعلى ذلك فليس للإنسان أن يأخذ بواحد من الرأيين المختلف فيهما.
وقد أجاب الجمهور على ذلك: بـ: أن الإجماع الأول على أن في المسألة رأيين، هذا الإجماع إنما يكون إجماعًا بشرط عدم الاتفاق فيما بعد، فلو اتفقوا فيما بعد -فحينئذ- يكون الشرط قد زال؛ وعليه فلا يكون إجماعًا.
وقد استدل ابن قدامة -رحمه الله- في (الروضة) لمذهب القاضي، وبعض الشافعية، ومن قال: إن الاتفاق بعد الاختلاف من نفس العصر لا يكون إجماعًا – بقوله: لأنه فتيا بعض الأمة، يعني: الاتفاق الحاصل بعد الاختلاف فتيا بعض الأمة؛ لأن الذين ماتوا على القول الآخر -الذي لم يتم الاتفاق عليه ثانيًا- من الأمة لا يبطل مذهبهم بموتهم؛ ولذلك يقال: خالف أحمد، أو وافقه، بعد موته؛ فكأن المذاهب لا تموت بموت أصحابها.
الدليل الثاني: أورده ابن قدامة -رحمه الله- حاصله: أنه إذا اختلف الصحابة في مسألة فقهية معينة على قولين، فانقرض ومات أصحاب القول الأول مثلًا كلهم، وبقي أصحاب القول الثاني فإنه لا يجوز أن يكون القول الثاني هو المجمع عليه، ويحرم الأخذ بالقول الأول، لأن القول الأول لم ينقرض بانقراض أصحابه وموتهم، ويكون الخلاف باقيًا، فكذلك الكلام في مسألتنا هذه، فإنه يشبه ذلك، فإن موت أصحاب أحد القولين لا يبطل العمل به، وفي هذا يقول ابن قدامة -رحمه الله: فأشبه ما إذا اختلفوا على قولين فانقرض القائل بأحدهما.
الدليل الثالث: أورده ابن قدامة، قال: ومن وجه آخر أن اختلاف الصحابة على قولين اتفاق منهم على تسويغ الأخذ بكل واحد منهم؛ فلا يبطل إجماعهم بقول من سواهم.
فالصحابة رضي الله عنهم إذا اختلفوا في مسألة معينة على قولين؛ فإن هذا الاختلاف قد تضمن إجماعًا منهم على تسويغ الخلاف في المسألة، والأخذ بكل واحد من القولين؛ فإذا أجمع التابعون على أحد القولين لم يجز رفع إجماع الصحابة على قول واحد، ثم أجمع التابعون على خلافه في نفس المسألة؛ فإن المعتمد إجماع الصحابة بلا شك. هذا ما أورده ابن قدامة -رحمه الله- من أدلة لهذه المسألة.
الترجيح:
بعد عرض المذاهب في المسألة نرى أن الراجح -والله أعلم- هو القول القائل بالجواز، ومعنى الجواز يعني: الاتفاق بعد الاختلاف يكون إجماعًا؛ لأن المجتهدين قبل الاستقرار في مهلة النظر، وبعد الاستقرار، فرجوع من رجع يدل على ظهور الحق له بعد التباسه أو اطلاعه على دليل لم يكن قد اطلع عليه، كما حدث لابن عباس رضي الله عنهما في زواج المتعة، فكان يرى جواز نكاح المتعة؛ لأنه لم يطلع على حديث النهي عن نكاح المتعة، فلما اطلع عليه ما وسعه إلا الرجوع عن رأيه، والنزول على حديث النبي صلى الله عليه وسلم.
وعلى هذا: فيكون الاتفاق بعد الاختلاف إجماعًا.
4. مسألة: إذا اختلف أهل العصر على قولين؛ فهل يجوز لمن بعدهم إحداث قول ثالث؟
أ. عرض مذاهب العلماء في المسألة:
اختلف العلماء في ذلك على مذهبين:
المذهب الأول: قال ابن قدامة -رحمه الله: إذا اختلف الصحابة -والكلام يجرى على الصحابة وعلى غيرهم- على قولين، لم يجز إحداث قول ثالث في قول الجمهور. وهذا هو المذهب الأول في المسألة، وعليه: لا يجوز لأحد من المجتهدين أن يفتي بأن: الجد ليس له في الميراث شيء مع الإخوة؛ لأنه يكون قد أحدث قولًا ثالثًا لم يقل به العلماء قبله، وهذا مذهب جماهير العلماء من الفقهاء والأصوليين، وهو الصحيح، وعليه العمل، وبه الفتوى.
المذهب الثاني: قال ابن قدامة -رحمه الله: وقال بعض الحنفية، وبعض أهل الظاهر: يجوز إحداث قول ثالث مطلقًا، وهذا مذهب بعض الحنفية، وبعض الظاهرية وبعض الشيعة أيضًا.
ب. أدلة كل مذهب:
أدلة المذهب الأول: الذين يرون أنه لا يجوز إحداث قول ثالث في العصر التالي:
الدليل الأول: إن أهل العصر الأول إذا اختلفوا على قولين؛ فهذا إجماع منهم على أنه يجوز للمجتهد أن يأخذ بأحد القولين إذا أداه إليه اجتهاده، كما يجوز للمقلد أن يقلد أي فريق من الفريقين المختلفين، وهذا الإجماع لا يمكن أن يكون على خطأ؛ لما ذكرناه قبل ذلك من الأدلة على حجية الإجماع، فلو جاء أهل العصر الثاني وأجمعوا على أحد القولين، وقالوا: هذا الإجماع يمنع العمل بقول الآخر -مثلًا- فقد حكموا بتخطئة الأمة في إجماعها السابق في العصر الأول؛ حيث إن الأمة قالت بالجواز، وتخطئة الأمة فيما أجمعت عليه باطل؛ فبطل ما أدى إليه، وهو القول بجواز الإجماع على أحد القولين.
الدليل الثاني: إن أهل العصر الأول الذين اختلفوا كالأحياء، والدليل على ذلك: أنه تحفظ أقوالهم في هذه المسألة الخلافية، ويحتج بها، بل إن المذاهب التي انتحلها الأولون جرت بها أقضية وأحكام ارتبط بها تحليل فروج، وسفك دماء، وغير ذلك، وهذا تم من غير إنكار فريق على فريق، فإذا لم ينعقد الإجماع على هذه المسألة في حياتهم؛ فالواجب ألا ينعقد بعد وفاتهم؛ ولذلك يقول إمام الحرمين -رحمه الله: ومن العبارات الرشيقة للشافعي: أنه قال: المذاهب لا تموت بموت أصحابها.
الدليل الثالث: قول الله تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرّسُولِ} [النساء: 59].
وجه الدلالة: أنه قد سبق أن أهل العصر الأول اختلفوا، فالاختلاف حاصل، والنزاع واقع، فحينئذٍ يجب الرجوع إلى الكتاب والسنة؛ ليعمل كل واحد بما أداه إليه اجتهاده، سواء وافق القول الأول أو الثاني، أما إذا قلتم بمذهبكم -أي: أصحاب المذهب الثاني- فقد قلتم عند الاختلاف: نرجع إلى إجماع أهل العصر الثاني لا إلى الكتاب والسنة، والآية القرآنية تدل على أن الرجوع عند التنازع يكون إلى الكتاب أو إلى السنة، وليس إلى إجماع العصر الثاني.
الدليل الرابع: قول الرسول صلى الله عليه وسلم: “أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم”.
وجه الدلالة: أنه يجوز الأخذ بقول أي واحد من الصحابة؛ لأنهم محل القدوة، ولا فرق في ذلك بين ما يكون بعده إجماع وما لا يكون بعده إجماع، ولكن مذهب المجيز يقول: إذا اتفق التابعون على رأي لا يجوز الأخذ برأي الآخر من الصحابة، وذلك خلاف ما يقتضيه العموم في قوله صلى الله عليه وسلم: “بأيهم”؛ فهي من صيغ العموم.
الدليل الخامس: أن إجماع أهل العصر الثاني لو كان حجة لا يجوز مخالفتها لوجب ترك القول الثاني الذي تركوه، وإذا حكم به حاكم قبل هذا الإجماع وجب نقضه؛ لأنه وقع على خلاف دليل قاطع وهو الإجماع، لكن هذا باطل؛ لأن أهل العصر الأول اتفقوا على نفوذه عندما اتفقوا على جواز العمل بأي رأي من الرأيين، فنقضه يكون على خلاف الإجماع.
أدلة ابن قدامة على مذهب الجمهور:
استدل -رحمه الله- على مذهب الجمهور بأدلة -أوردنا بعضها عند شرحنا للمسألة- منها قوله: أنَّ اختلاف الصحابة على قولين اتفاق منهم على تسويغ الأخذ بكل واحد منهما؛ فلا يبطل إجماعهم بقول من سواهم.
وقوله أيضًا -رحمه الله: إذا اختلف الصحابة على قولين لم يجز إحداث قول ثالث في قول الجمهور.
فجمهور أهل العلم إلى أنه لا يجوز إحداث قول ثالث؛ لأنه يوجب نسبة الأمة إلى تضييع الحق؛ إذ لو كان الحق في القول الجديد لكان أهل العصر السابق قد ضيعوه، وخلا العصر عن قائم لله بحجته.
5. بعض الفروع التي يمكن أن تخرج على الخلاف:
بناء على خلاف العلماء في هذه المسألة فرعوا بعض الفروع الفقهية:
أ. لو تزوج رجل امرأة لمدة معينة، وهو المسمى بنكاح المتعة، فهل يقام عليه الحد إذا وطئها؟:
في هذا الفرع وجهان:
الوجه الأول: أنه لا حد، وهذا ما قاله الرافعي، والنووي، وكذلك السيوطي في كتاب (الأشباه والنظائر) لأن ذلك فيه شبهة في الطريق.
الوجه الثاني: أن عليه الحد، كما قال الشافعي في (الأم)، ولعل حجتهم في ذلك أن الإجماع قائم على تحريم نكاح المتعة، ومن قال بجوازه من الصحابة نقل عنه الرجوع عنه، وما أخرجه ابن ماجة عن عمر بإسناد صحيح: أنَّه خطب فقال: ((إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لنا في المتعة ثلاثًا، ثم حرمها، والله لا أعلم أحدا تمتع وهو محصن إلا رجمته بالحجارة)).
ب. إذا حكم الحاكم بصحة بيع أم الولد، فهل ينقض حكمه؟ لأنه خالف الإجماع القائل بعدم الجواز؛ فيكون قضاءً باطلًا، أم لا ينقض؛ لأن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد والمسألة اجتهادية؟:
في المسألة وجهان:
الوجه الأول: عدم النقض، وهو ما ذهب إليه الأصحاب من الشافعية، ونسب إلى أبي حنيفة، وحجتهم: أن المسألة اجتهادية.
الوجه الثاني: النقض، وهو الأصح عند الروياني، وقال به محمد من الحنفية.