البخاري ومسلم لم يستوعبا كلّ الأحاديث الصحيحة في كتابيْهما ولم يلتزماه
أمّا عن استيعاب “الصحيحيْن” بكلِّ الأحاديث الصحيحة، فلم يستوعبا الصحيح في كتابيْهما ولا التزاماه؛ فقد قال الإمام البخاري: “ما أدخلت في كتاب (الجامع) إلاّ ما صحّ، وتركتُ من الصِّحاح مخافة الطّول”.
وقال الإمام مسلم: “ليس كلّ شيء عندي صحيح وضعتُه هاهنا، إنما وضعتُ ما أجمعوا عليه”، يريد: ما وجد عنده فيه شرائط الصحيح المجمَع عليه، وإن لم يظهر اجتماعها في بعضها عند بعضهم؛ قاله الحافظ بن الصلاح.
ورجّح الإمام النووي في (شرح مسلم): أنّ المراد: ما لم تختلف الثقات فيه في نفس الحديث متنًا وإسنادًا، لا ما لم يُختلفْ في توثيق رواته”. قال: “ودليل ذلك: أنه سئل عن حديث أبي هريرة-ر ضي الله عنه- : ((فإذا قرأ، فأنْصِتُوا))، هل هو صحيح؟ فقال: “عندي هو صحيح”. فقيل: “لِمَ لَمْ تضعْه ها هنا؟ فأجاب بذلك”. قال: “ومع هذا، فقد اشتمل كتابُه على أحاديث اختلفوا في متْنها أو إسنادها؛ وفي ذلك ذهول منه عن هذا الشرط، أو سبب آخَر”. وقال العلامة البلقيني: “أراد مسلم إجماع أربعة: أحمد بن حنبل، وابن مَعين، وعثمان بن أبي شيبة، وسعيد بن منصور الخراساني”.
وقال النووي في (شرح مسلم): “وقد ألزمهما الدارقطني وغيرُه إخراجَ أحاديث على شرطهما لم يُخرجاها؛ وليس بلازم لهما، لعدم التزامهما ذلك”. قال: “وكذلك قال البيهقي. وقد اتفقا على أحاديث من صحيفة همّام، وانفرد كلّ واحد منهما بأحاديث منها، مع أن الإسناد واحد”.
قال النووي: “لكن إذا كان الحديث الذي تركاه أو تركه أحدُهما -مع صحة إسناده في الظاهر- أصلًا في بابه، ولم يُخرجا له نظيرًا ولا ما يقوم مقامه، فالظاهر أنهما ما اطّلعا فيه على علّة. ويحتمل أنهما نسياه، أو تركاه خشية الإطالة، أو رأيا أنّ غيره يسدّ مسدّه. ولم يفُت البخاري ومسلم إلاّ القليلُ من الأحاديث. وأُنكِر هذا القول؛ والصواب: أنه لم يَفُت الأصول الخمسة إلا اليسير”.
قال الحافظ ابن الصلاح: “و(المستدرك) للحاكم كتاب كبير يشتمل ممّا فاتهما على شيء كثير، وإن يكن عليه في بعضه مقال، فإنه يصفو له منه صحيح كثير”.
لكن تعقبّه الحافظ ابن حجر بقوله: “إن هذا غير جيّد، بل هو قليل بالنسبة إلى أحاديث الكتابيْن”. قال النووي، زيادة على ما قاله ابن الصلاح: “والصواب: أنه لم يفت الأصول الخمسة إلاّ اليسير، أعني: الصحيحيْن وسُنن أبي داود، والترمذي، والنسائي”.
قال الحافظ العراقي: “وفي هذا الكلام نظر، لِقول البخاري: “أحفظ مائة ألْف حديث صحيح، ومائتَيْ ألْف حديث غير صحيح”. قال: “ولعلّ البخاريّ أراد بالأحاديث المكرّرة الأسانيد والموقوفات؛ فربّما عدّ الحديث الواحد المرويّ بإسناديْن حديثيْن”. وزاد ابن جماعة، أو أراد المبالغة في الكثرة، قال: “والأوّل أوْلى”. قيل: ويؤيّد أنّ هذا هو المراد: أنّ الأحاديث الصّحاح التي بين أظهرنا، بل وغير الصحاح، لو تُتُبِّعتْ من “المسانيد” و”الجوامع” و”السُّنن” و”الأجزاء” وغيرها، لَما بلغت مائة ألْف بلا تكرار، بل ولا خمسين ألْفًا. ويبعد كلّ البعد أن يكون رجلٌ واحد حفظ ما فات الأمّة جميعه، إنما حفظه من أصول مشايخه، وهي موجودة”.
وقال ابن الجوزي: “حصر الأحاديث يبعد إمكانه، غير أنّ جماعة بالغوا في تتبّعها وحصْرها”.
وقال الإمام أحمد: “صحّ سبعمائة ألْف وكسر”. وقال: “جمعت في “المسند” أحاديث أخذتُها من أكثر من سبعمائة ألْف وخمسين ألْفًا”.
قال الحافظ بن حجر: “ولقد كان استيعاب الأحاديث سهلًا، لو أراد الله تعالى ذلك، بأن يجمع الأوّل منهم ما وصلوا إليه، ثم يذكر مَن بَعْده ما اطّلع عليه ممّا فاته من حديث مستقل، أو زيادة في الأحاديث التي ذكَرها، فيكون كالدليل عليه، وكذا مَن بَعْده؛ فلا يمضي كثير من الزمان إلاّ وقد استوعبت، وصارت كالمصنّف الواحد. ولعمري لقد كان هذا في غاية الحسن!”.
قال السيوطي: “قد صنَع المتأخِّرون ما يقرب من ذلك، فجمَع بعض المحدِّثين عمّن كان في عصر شيخ الإسلام ابن حجر زوائد (سُنن ابن ماجه) على الأصول الخمسة، وجمع الحافظ الهيثمي زوائد (مسند أحمد) على “الكتب السّتّة” المذكورة في مجلديْن، وزوائد (مسند البزار) في مجلد ضخم، وزوائد (معجم الطبراني الكبير) في ثلاثة، وزوائد المعجميْن الأوسط والصغير في مجلديْن، وزوائد أبي يعلى في مجلد.
ثم جمَع هذه الزوائد كلها في كتاب محذوف الأسانيد، وتكلّم على الأحاديث، ويوجد فيها صحيح كثير. وجمع زوائد (الحلية) لأبي نعيم في مجلد ضخم، وزوائد فوائد تمام، وغير ذلك… وجمع شيخ الإسلام زوائد “مسانيد” إسحاق، وابن أبي عمر، ومسدّد، وابن أبي شيبة، والحميدي، وعبد بن حميد، وأحمد بن منيع، والطيالسي، في مجلديْن، وزوائد (مسند الفردوس) في مجلد. وجمع الشيخ زين الدين قاسم الحنفي زوائد (سنن الدارقطني) في مجلد. وجمع السيوطي زوائد (شُعب الإيمان) للبيهقي في مجلد. وكُتب الحديث الموجودة سواها كثيرة جدًّا، وفيها الزوائد بكثرة؛ فبُلوغها العدد السابق لا يَبْعُد.
تقسيم الحاكم الصحيح إلى عشرة أقسام:
قد ذكر الحاكم أبو عبد الله النيسابوري في (المدخل): أنّ الصحيح عشرة أقسام، وذكَر منها في القسم الأوّل الذي هو الدرجة الأولى، واختيار الشيخيْن: أن يرويه الصحابي المشهور بالرواية، وله راويان ثِقتان… إلى آخِر ما قال.
ثم قال: “والأحاديث المروية بهذه الشريطة لا يبلغ عددُها عشرة آلاف حديث، وحينئذ يُعرف من هذا الجواب عن قول ابن الأخرم”. فكأنه أراد: لم يَفُتهما من أصحّ الصحيح الذي هو الدرجة الأولى وبهذا الشرط إلاّ القليل”.