(البيان والتبيين) للجاحظ
ننتقل إلى كتاب (البيان والتبيين) للجاحظ، والمؤلف هو عمرو بن بحر بن محبوب، وكنيته أبو عثمان، وشهرته الجاحظ لجحوظ عينيه.
ولد الجاحظ بالبصرة عام مائة وخمسة وخمسين من الهجرة، وتوفي والده وهو لا يزال صغيرًا، فعانى في طفولته كثيرًا من الفقر واليُتْم، وعمل مبكرًا ليحصل رزقه ورزق والدته، ولكن ذلك لم يشغله عن طلب العلم وتحصيله، فكان يذهب إلى المساجد يحضر فيها حلقات العلم، ويلتقي بالعلماء والأدباء ويستمع منهم، ويتردد على سوق المربد بالبصرة، ويناقش في الكثير من قضايا الأدب والعلم، وكان عنده شغف كبير بالعلم، ونهم شديد إلى القراءة، لم يقع في يده كتاب إلا قرأه، وكان يستأجر دكاكين الكتب، وخزانات الكتب ليبيت فيها قارئًا ومطالعًا، وكانت له قدرة عجيبة على الحفظ والرواية مما جعله صاحب ثقافة موسوعية.
ذاع صِيت الجاحظ، وعُرف بثقافته وأدبه، فاستدعاه الخليفة العباسي المأمون وأسند إليه ديوان الرسائل، ولكنه لم يستمر في ذلك المنصب طويلًا؛ لأنه وجد فيه قيدًا على حريته، وهو يريد أن يتفرغ للدرس والتحصيل والكتاب والتأليف، فطلب من المأمون إعفاءه منه، وقد طالت حياة الجاحظ حتى شارف على المائة، وظل طول حياته مهتمًّا بالقراءة، والبحث، والتأليف حتى إنه مات بسبب الكتب، فقد انهالت عليه كومة من الكتب وهو يقرأ فمات بسبب ذلك، وكان وفاته عام مائتين وخمسة وخمسين.
وقد ترك الجاحظ عددًا كبيرًا من الكتب والمؤلفات في شتى الموضوعات، وشتى أنواع المعرفة.
أما كتابه (البيان والتبيين) فهو من أشهر الكتب التي تتصل بالأدب، والنقد، والبلاغة، واللغة، وقد جمع هذا الكتاب بين دفتيه كثيرًا من المعارف، والأخبار، والنصوص النثرية والشعرية.
واستهل الجاحظ الجزء الأول من الكتاب بمقدمة، حاول من خلالها أن يحدد مفهوم كلٍّ من (البيان والتبيين)، ومكانة كل منهما، ثم واصل حديثه في الجزء الأول عن البلاغة ومذاهب رجال البيان، والصلة بين البليغ ومظهره، متحدثًا عن بلاغة الخطيب وما يجب أن يتوافر فيها -أي: في الخطبة- من قوة الطبع، وشرف المعنى، وجمال اللفظ، ومراعاة المقامات والأحوال.
وتحدث الأصمعي عن الصمت وعمن مدحه وأشاد به، وعمن ذمه، كما طالب الأدباء الناشئين بأن يعرضوا أدبهم على أصحاب الذوق والأدباء المتميزين، حتى يعرفوا أقدارهم ومنازلهم، وحتى يستفيد هؤلاء الناشئون من توجيهات الأدباء المجرِّبين.
وتحدث الجاحظ عن الأساليب وما فيها، وتحدث عن السجع المطبوع منه والمتكلف، وتحدث عن طبقات الشعراء، وأورد بعض أخبار الحمقى وبعض نوادر المغفلين، كل هذا في الجزء الأول من كتابه.
أما الجزء الثاني فقد تحدث فيه عن الخطابة وأقسامها، وأثرها في المتلقين، وعرض لبلاغة الرسول صلى الله عليه وسلموخطب كثير من الصحابة والسلف الصالح، كما تكلم عن مذاهب المطبوعين، وأصحاب الصنعة من الشعراء.
وفي الجزء الثالث من الكتاب ردّ الجاحظ على مطاعن الشعوبية، التي تعصبت على العرب، وحاولت النيل منهم، وطعنت في آدابهم، وسخرت من عاداتهم وتقاليدهم.
أما أهم القضايا النقدية التي وردت في الكتاب، فمنها: قضية اللفظ والمعنى، وهذه قضية مطروقة في أكثر الكتب التي تعرضت لنقد الشعر، والأدب في العصور القديمة، والعصر الحديث.
وقد ورد في هذا الكتاب حديث للجاحظ، فيه تركيز على الاهتمام بالصياغة والألفاظ، فقد رأى الجاحظ أن للألفاظ والتأنق في صياغتها الأهمية الكبرى في تقدير القيمة الفنية للعمل الأدبي، فالشعر في نظره صناعة وضرب من الصبغ وجنس من التصوير، وإلى حسن اللفظ وجودة السبك وبراعة الصياغة يرجع فضل شعر على شعر، ومما قاله في ذلك: “متى كان اللفظ كريمًا في نفسه، متخيرًا في جنسه، وكان سليمًا من الفضول، بريئًا من التعقيد؛ حُبِّب إلى النفوس، واتصل بالأذهان، والتحم بالعقول، وهشَّت إليه الأسماع، وارتاحت له العقول، وخفَّ على ألسن الرواة، وشاع في الآفاق ذكره، وعظم في الناس خطره”.
ومن كلامه أيضًا: “وأحسن الكلام ما كان قليله يغنيك عن كثيره، ومعناه في ظاهر لفظه، فإذا كان المعنى شريفًا واللفظ بليغًا، وكان صحيح الطبع، بعيدًا عن الاستكراه، منزهًا عن الاختلال، مصونًا عن التكلف؛ صنع في القلب صنيع الغيث في التربة الكريمة”، وقد وجدناه ههنا يذكر المعنى، فيجمع في هذا القول بين الأمرين اللفظ والمعنى؛ إذ إن كثيرًا من الدارسين يذهبون إلى أن الجاحظ لم يكن يهتمُّ بالمعنى؛ لأنه قال: “والمعاني مطروحة في الطريق”، لكنه يهتم بالمعنى؛ لأنه ذكره فقال: “فإذا كان المعنى شريفًا”.
وفي موضع آخر يقول: “فمن حق المعنى أن يكون الاسم له طبقًا، ويكون الاسم له لا فاضلًا ولا مفضولًا، ولا مقصرًا ولا مشتركًا، ولا مضمنًا”، فهنا تبدو الموازنة الضرورية بين مناسبة الألفاظ للمعاني، فاللفظ والمعنى إذًا ركنان للعمل الأدبي، لا يقوم العمل الأدبي بواحد منهما دون الآخر، ولكن لا بد من الأمرين معًا، وبهما يؤثّر في النفس، وبالتوفيق والجودة فيهما -في المعنى واللفظ- يكتسب الأدب قيمته.
ومن القضايا المهمة أيضًا التي تحدث عنها الجاحظ في كتابه (البيان والتبيين): مطابقة الكلام لمقتضى الحال، فالكلام طبقات، تختلف هذه الطبقات باختلاف طبقات المخاطبين، فلكل مقام من المقامات مقال يناسبه.
ومن القضايا التي اهتم بها الجاحظ أيضًا في كتابه (البيان والتبيين): الوضوح والغموض، وضرورة البعد عن التكلف والتعقيد، ولعل عنوان الكتاب (البيان والتبيين) يدلُّ دلالة غير خفية على هذا المبدأ الذي دعا إليه الجاحظ، فوضوح المعاني من مقاييس جودة الأدب؛ أما الغموض فإنه يعيب الكلام وينزل بقيمته.
وكتاب (البيان والتبيين) في الحقيقة ليس في نقد الشعر أو الكلام عن الشعر، وإنما هو في الكلام عن الأدب بصفة عامة شعره ونثره.