التثبت من الرواية
حفظت السنة في عهد الرسول بعناية الله وتوفيقه، وبرعاية الوحي الذي يتنزل كاشفًا كل لبس مزيلًا كل معضلة، فلما تُوفي الرسول e انقطع الوحي من السماء وبدأ استعمال المناهج المقررة لحفظ الحديث من كل محاولة للتغيير، قال عمر >: “إن أناسًا كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله e وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم؛ فمن أظهر لنا خيرًا أمناه وقربناه، ومن أظهر لنا سوءًا لم نأمنه ولم نصدقه، وإن كانت سريرته فيما يقول سليمة”.
وبدأ الخلفاء الراشدون وكبار الصحابة منهج التعامل مع السنة بحيث لا يستدرك أحد عليهم، ولا يقع منهم خطأ أو وهم أو خروج بالحديث عما هو عليه، وقد حدث أبو بكر رجلًا حديثًا فاستفهمه الرجل إياه، فقال له أبو بكر: “هو كما حدثتك، أي أرض تقلني إذا أنا قلت ما لم أعلم!”.
وقال ابن عباس: “شهد عندي رجال مرضيّون, فيهم عمر بن الخطاب وأرضاهم عندي عمر؛ أن نبي الله e قال: ((لا صلاة بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس…)) الحديث”، وقضى علي بقضاء رسول الله e: ((الولد للفراش، وللعاهر الحجر)) في أمة متزوجة زنت برجل من الخمس، وجلدهما خمسين خمسين، وكان عثمان قد رفعهما إلى علي >, وسألت فاطمةُ بنت رسول الله e أبا بكر الصديق بعد وفاة رسول الله e أن يقسم لها ميراثها، مما ترك رسول الله e مما أفاء الله عليه، فقال لها أبو بكر: إن رسول الله e قال: ((لا نورث؛ ما تركنا صدقة)) وقال أبو بكر: “لستُ تاركًا شيئًا كان رسول الله e يعمل به إلا عملتُ به، فإني أخشى إن تركت شيئًا من أمره أزيغ” أي: أنحرف عن الجادة، وجلس عثمان على الباب الثاني من مسجد رسول الله e فدعا بكتفٍ فتعرقها؛ أي: أخذ ما عليها من اللحم وتناوله، ثم قام فصلى ولم يتوضأ، ثم قال: “جلستُ مجلس النبي e وأكلت ما أكل النبي e وصنعت ما صنع النبي e”.
وعن أبي هريرة > أنه قال: “لما توفي رسول الله e واستُخلف أبو بكر بعده وكفر من كفر من العرب، قال عمر بن الخطاب لأبي بكر: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله e: ((أُمرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله U))؟ فقال أبو بكر: والله لأقاتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عَنَاقًا كانوا يؤدونه إلى رسول الله e لقاتلتهم على منعه، قال عمر: فوالله ما هو إلا أن رأيت الله U قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفتُ أنه الحق”، وفي رواية يونس عن الزهري أنه قال: “قال أبو بكر: إن حقه -أي: المال- أداء الزكاة”، فاعتمد أبو بكر رواية عمر، لكنه لم يعتمد فهمه للرواية، ورجع عمر إلى فهم أبي بكر لأنه الصواب، ودل على أن سبب القتال الإصرار على العناد والجحود، وقال عليٌّ >: “ما كنتُ أقيم على أحدٍ حدًّا فيموت فيه, فأجد منه في نفسي إلا صاحب الخمر؛ لأنه إن مات وديتُه -أي: دفعت ديته- لأن رسول الله e لم يسنه”، وقصد بذلك إذا جلده ثمانين، فقد جلد عبد الله بن جعفر من ثبت عليه شرب الخمر، وعليّ يعد حتى بلغ أربعين، فقال له: “أمسك؛ جلد النبي e أربعين وجلد أبو بكر أربعين وجلد عمر ثمانين، وكلٌّ سنة، وهذا أحب إلي” فعلي > حين يطبق سنة الرسول e لا يهمه ما يترتب على تطبيقها؛ لأنه مطمئن يقينًا إلى أنه يفعل الشرع الذي لا تردد فيه، وإذا طبق سنة الخلفاء الراشدين بعد رسول الله e فإن أي ضرر يترتب على التطبيق يرى في نفسه أنه متحمل له؛ لأن رسول الله e وإن فتح المجال لمثله لكنه لم يسنه نصًّا.
ولما قتل أهل النهروان من الخوارج فكأن الناس وجدوا في أنفسهم من قتلهم، فقال علي >: “يا أيها الناس، إن رسول الله e قد حدثنا بأقوام يمرُقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، ثم لا يرجعون فيه أبدًا حتى يرجع السهم على فُوقه -أي: المكان الذي خرج منه ما يُضرب به السهام- وإن آية ذلك أن فيهم رجلًا أسود مُخْدَج اليد، إحدى يديه كثدي المرأة, له حلمة كحلمة ثدي المرأة، حوله سبع هُلْبَات -أي: شعيرات- فالتمِسوه فإني أراه فيهم -أي: أظنه فيهم- فالتمَسوه فوجدوه إلى شَفِير النهر -أي: حرف النهر- تحت القتلى، فأخرجوه، فكبّر عليٌّ فقال: الله أكبر، صدق الله ورسوله، وكبر الناس حين رأوه، واستبشروا وذهب عنهم ما كانوا يجدون” فحرص علي > على أن يقيم الدليل على صواب فعله، وأنه لم يخالف سنة الرسول e.
وصحّح أبو بكر مفهومًا خاطئًا بالسنة التي عنده؛ فعن قيس بن أبي حازم أنه قال: قرأ أبو بكر الصديق هذه الآية: {يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرّكُمْ مّن ضَلّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } [المائدة: 105] ثم قال: إن الناس يضعون هذه الآية على غير موضعها، ألا وإني سمعت رسول الله e يقول: ((إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه؛ عمّهم الله بعقابه))، وفي رواية: ((إذا رأوا المنكر فلم يغيروه)) فصحح المفهوم الخاطئ بمفهوم صحيح, مستند إلى سنة الرسول e.
وعن أبي برزة الأسلمي > أنه قال: “كنا عند أبي بكر الصديق > في عمله -أي: في مكان عمله- فغضب على رجل من المسلمين، فاشتد غضبه عليه جدًّا، فلما رأيتُ ذلك قلتُ: يا خليفة رسول الله، أضرب عنقه؟ فلما ذكرتُ القتل صَرف عن ذلك الحديث أجمع إلى غير ذلك من النحو، فلما تفرقنا أرسل إليّ بعد ذلك أبو بكر الصديق > فقال: يا أبا برزة, ما قلت؟ قال: ونسيت الذي قلتُ، قلت: ذكِّرنيه، قال: أما تذكر ما قلت؟ قال: قلت: لا والله، قال: أرأيتَ حين رأيتني غضبتُ على الرجل فقلتَ: أضرب عنقه يا خليفة رسول الله؟ أما تذكر ذاك؟ أَوَكنت فاعلًا ذاك؟ قال: قلت: نعم والله، والآن إن أمرتني فعلتُ, قال: ويحك أو ويلك! إن تلك والله ما هي لأحد بعد محمد e” فبين أن العصمة لرسول الله e وحده, وأن غيره لا يقتل أحدًا إلا في إطار ما يحكم به القضاء.
وذُكر أهل الشام عند علي > وهو بالعراق، فقالوا: العنهم يا أمير المؤمنين، قال: لا، ثم ذكر حديثًا عن رسول الله e فيه: أن منهم أناسًا ((يسقى بهم الغيث، وينتصر بهم على الأعداء، ويُصرف عن أهل الشام بهم العذاب))، وكان أهل الشام يلعنون عليًّا ومن معه، وكان هذا اللعن لعنًا سياسيًّا وليس لعنًا حقيقيًّا دينيًّا، اعتمادًا على منزلة علي > ومنزلة كبار الصحابة معه، ورفض عليٌّ > أن يسمح بمثل ذلك؛ لشدة احترازه في مثل هذا المجال.