التجديد في الأغراض المتوارثة
من مظاهر الإبداع والتجديد الشعري في العصر العباسي:
أ. استخدام الشعر في نظم العلوم:
أنهم استخدموا الشعر في نظم العلوم، واتخذوه وسيلة في التأديب، وجعلوه إطارًا لبعض القصص والحكايات، من ذلك مثلًا: ما فعله أبَّانَ بن عبد الحميد اللاحقي الذي نظم كتاب (كليلة ودمنة) وما فيه من قصص، فقال مثلًا في باب الأسد والثور:
وإنَّ مَنْ كَانَ دَنِيَء النفْسِ | * | يَرْضَى من الأرفعِ بالأخْسِ |
كمثْلِ الكلب الشقي البائس | * | يفرح بالعظمِ العتيقِ اليابسِ |
وإنَّ أهلَ الفضلِ لَا يرضيهمُ | * | شيءٌ إذا ما كان لَا يعنيهم |
كالأسد الذي يصيد الأرنب | * | ثم إلى العَيْرِ المُجِدِّ هِرِبِا |
فَيُرْسِلُ الأرنبَ من أظفَارِهِ | * | ويتْبَعُ العَيْرَ عَلَى أَدْبَارِهِ |
ومن نظم العلوم ما قاله بعضهم في نظمٍ يسلك فيه الحديث عن الصوم وعن الزكاة والحج، فيقول:
هذا كتابُ الصومِ وهو جامعٌ | * | لكل ما قامت به الشرائعُ |
مِن ذَلِك المُنَزِّلِ في القرآنِ | * | فضلًا على ما كان ذا بيانِ |
ومنه ما جاء عن النبي | * | من عهده المتبع المرضي |
صلى الإله عليه وسلم | * | كما هدى الله به وعلم |
وإن كنا نتوقف في عد هذا النظم في باب الشعر؛ لأن الشعر لا بد أن يكون مدفوعًا بعاطفة، وأن يتخذ أسلوب التصوير الخيالي؛ لكي يؤثر في النفوس والأفكار، أما هذا النظم البارد فليس فيه من الشعر إلا الوزن والقافية، والأحرى به ألا يدخل في باب الشعر.
ب. الغزل بالمذكر:
الغزل -كما هو معروف- غرض من أغراض الشعر المعروفة، وكان الجاهليون والإسلاميون والأمويون يسيرون في الغزل على نهجٍ متوازنٍ، كان الذي يشتَطُّ منهم يسرف في الحديث عن مفاتن المرأة، ويصف جمالَهَا كما فعل امرؤ القيس مثلًا، أو كان يذكر وَلَعَهُ بها ومغامراته في تتبعها كما فعل عمر بن أبي ربيعة من الأمويين مثلًا، وكان كثير منهم يعفُّ في حديثه عن المرأة، ويكون غزله فيها غزلًا نفسيًّا روحيًّا شفافًا كما هو الشأن عند العذريين كجميل بثنة وغيره من الشعراء الذين عرفوا بهذا المنهج، وكـ: ذي الرمة أيضًا.
لكن الجديد في هذا العصر الذي كثر فيه المجون، وكثرت فيه ألوان من المفاسد؛ تبعًا لكثرة المال واللهو والفراغ، ظهر اتجاه في الغزل لم يكن للعرب عهدٌ به، ويمكن أن يكون للموالي والشعوب غير العربية التي دخلت في الإسلام واختلطت بالعرب -يمكن أن يكون لها- أثر في هذا الاتجاه، وهو الغزل بالمذكر.
وقد اختلط هذا الغزل الماجن بالحديث عن الخمر ووصف ساقي الشراب، ومن
ذلك مثلًا قول ابن المعتز:
ومُهفهفٍ تَمت محاسنُه | * | حَتَّى تَجاوز منيةَ النفسِ |
تَصْبُو الكئوسُ إلى مَرَاشِفِه | * | وَتَهِشُّ فِي يَدِهِ إِلَى الحَبْسِ |
أبصرْتُه والكأسُ بين فمٍ | * | منه وبين أنامِلٍ خَمْسِ |
فكأنَّهُ وكأن شَارِبَهَا | * | قمرٌ يُقَبِّلُ عَارِضَ الشمسِ |
واشتُهر في ذلك الباب أبو نواس وبشار.
ج. شعر الزهد التصوف:
إن الله سبحانه وتعالى يُحدث توازنًا في الحياة؛ فإذا ظهر المجون والفساد نجد اتجاهًا آخر ينمو في مقابله، فظهر شعر الزهد وشعر التصوف، وكثُر الوعَّاظ، وحاول الشعر أن يكون وسيلة لتذكير الناس بالآخرة، وصرفهم عن ملاذِّ الدنيا، وكأنه اتجاه معاكس لاتجاه المجون والغزل الفاحش.
وأشهر الشعراء الذين سلكوا هذا الدرب أبو العتاهية، ومن شعره مثلًا يقول:
رغيفُ خبزٍ يابسٍ | * | تأكلُهُ فِي زاويِهْ |
وكوزُ ماءٍ باردٍ | * | تشْرَبُهُ مِن صافيهْ |
وغرفةٌ ضيقةٌ | * | نفسُكَ فِيْهَا خالية |
أو مسجدٌ بمعزل | * | عن الورى في ناحيةْ |
تدرس فيه دفترًا | * | مستندًا بساريةْ |
مُعَتِبرًا بِمَن مَضَى | * | من القرونِ الخَالِية |
خيرٌ من الساعَاتِ | * | في فيء القصور العاليةْ |
يَعْقُبُهَا عقوبةٌ | * | تَصْلَى بِنَار حَامِيَهْ |
د. الشعوبية والشعر السياسي:
اتُّخِذَ الشعرُ سلاحًا ضد العروبة؛ إذ أعلن كثير من الشعراء حقدهُم على العرب وتطاولهم عليهم، وقد مَكَّنَ لهم من ذلك قربهم من الخلفاء العباسيين، وإحساسهم بأنهم كانوا أصحاب فضلٍ في تقويضِ ملكِ الأمويين، فظهر ما يمكن أن نسميه بـ”الشعوبية”.
وإمام الشعوبيين هو بشار بن برد حيث يقول:
ونُبِّئتُ قومًا بهم جِنَّةٌ | * | يقولونَ: مَنْ ذا وكنتُ العَلْم |
ألا أَيُّها السائِل جاهدًا | * | لِيَعْرِفَنِي أَنَا أَنْفُ الكَرَمْ |
نَمَتْ فِي الكرامِ بَنِي عَامرٍ | * | فُروعِي وَأَصْلِي قريشُ العَجَمْ |
ومن ذلك أيضًا قول المتوكلي، وكان من نُدَامى المتوكل -يعني: من الذين يجالسونه ويسامرونه- يقول مفتخرًا بأصله الأعجمي:
أنا ابن الأكارمِ من نسلِ جَمْ | * | وحائزُ إرْثِ ملوكِ العَجَمْ |
ومُحيي الذي بَادَ مِن عِزِّهِم | * | وَعَفَّ عَلَيه طولُ القِدَمْ |
وَطَالِبُ أوتارِهِم جهرةً | * | فَمَن نَامَ عَن حَقَّهِم لم أَنَمْ |
فَقُل لبني هاشِمٍ أجمعين | * | هَلُّمُّوا إلى الخلعِ قبل النَّدَمْ |
ملكناكمُ عنوةً بالرماحِ | * | طَعْنًا وضَرْبًا بسيفٍ خَذِمْ |
وأوْلَاكُم المُلْكَ آباؤُنَا | * | فَمَا إِن وَفَيْتُم بشكرِ النِّعَمْ |
فعودُوا لأَرْضِكمُ بالحجازِ | * | لأكلِ الضِّبَابِ ورَعْي الغَنَمْ |
فإنِّي سأعلو سريرَ الملوك | * | بحد الحسام وحرفِ القَلَمْ |
هذه جرأة عجيبة، بل هي وقاحة عجيبة، وإعلان لشعوبيةٍ مدمرة، ولم يكن ليجرأ هذا الشاعر وأمثاله على إعلان هذه الشعوبية، وهذا التفاخر في دولةٍ عربيةٍ كالدولةِ الأموية، وذلك لمساعدتهم العباسيين وقربهم منهم جاهروا بذلك كله.
ولا نمضي طويلًا حتى يشعر الخلفاء العباسيون بخطر هؤلاء الشعوبيين، وسنجد في التاريخ أن النوازل نزلت بهؤلاء الفرس خاصة في عهد هارون الرشيد، وما أحدثه بأسرة البرامكة، وكان الشعر السياسي في العصر العباسي مَجْلًا من مجالي التجديد فيه، والتجديد في معانيه، والشعر السياسي معروف بالطبع، وكان قد نشط نشاطًا كبيرًا، وازدهر في عهد الأمويين؛ إذ كان لكل حزبٍ من الأحزاب المناوئة للأمويين شعراؤه الذين يذيعون مبادئه، وكان لدعاة العباسيين شعراء يحتجون لأحقيتهم بالخلافة.
وعن هذا الشعر السياسي -الذي ازدهر في العصر الأموي، وتطور تطورًا كبيرًا في العصر العباسي- يقول الدكتور/ إبراهيم أبو الخشب -عليه رحمة الله:
“وقد جاء العصر العباسي ولهذا الشعر -يعني: الشعر السياسي- عشاقه الذين يلهجون بذكره، ويشتغلون بقوله، ويميلون إلى أن يرفعوا رايته، ويقيموا حجته، ويسلكوا سبيله، ويدافعوا عن وجهة نظرهم به، وكان للعباسيين شعراء يحملون شعَارَهُم، ويتكلمون باسمهم، يحملون على بني أمية، أو يظهرونهم للناس بمظهر المعتدي الأثيم؛ لأنهم اغتصبوا الخلافة، وظلموا الرعية، وعاثوا في الأرض بالفساد، وكان أبناء عليٍّ، وهم بنو عمومة العباسيين لهم كذلك شعراء يؤمنون بهم، ويعطفون بقلوبهم عليهم ويعتقدون أنهم أصحاب هذا الحق.
كل هؤلاء كانوا يعبرون عن أحاسيسهم المكبوتة، وهواجسهم السجينة، وأنفاسهم المحترقة، وشعورهم الفياض؛ فكان هذا امتدادًا للشعر السياسي الذي ظهر في العصر الأموي إلا أن الفارق كان واضحًا والبون كان بعيدًا.
وأيًّا كان الحال؛ فإن الشعر السياسي هنا –أي: في العصر العباسي- قد وجد عقولًا كبيرةً، وأفكارًا ناضجة، وأذواقًا سليمة، وخيالًا خصبًا، وبيانًا رائعًا، وبلاغة عظمى وفصاحة نادرة، ترعرع في جوارها، ونما في حجْرِها، وأينع في رياضها، وكانت صوره آية في البيان وفريدة في الإحسان”.
ويستشهد الدكتور/ إبراهيم أبو الخشب بأبيات لمروان بن أبي حفصة يخاطب بها العلويين، وكان شديد الخصومة لهم، فيقول:
خلو الطريق لمعشرٍ عاداتُهُم | * | حَطْمُ المناكب يومَ كل زحامِ |
وارضوا بِمَا قَسَمَ الإلهُ لَكُم | * | ودعوا وِرَاثةَ كُلِّ أصْيَدَ سامِي |
أَنَّى يكون وَلَيْسَ ذَاكَ بكائنٍ | * | لبني البناتِ وراثةَ الأعْمَامِ |
ومن هذا أيضًا: قول دعبل الخزاعي، يندد بظلم العباسيين للعلويين، فيقول:
أَرَى أُمَيَّةَ معذورين إن قَتَلُوا | * | وَلَا أَرَى لبَنِي العبَّاسِ من عُذْرِ |
اِرْبَعْ بِطَوسٍ على قَبْر الزكِّي بها | * | بها إن كنت تُرْبِعُ مِن دِينٍ عَلَى وَطر |
قبران في طُوْسٍ: خَيْرُ الناس كلهِمُ | * | وقبرُ شرّهمُ، هذا من العِبرِ |
ما ينفع الرِّجس من قُرْب الزكِّي | * | ولَا عَلَى الزكيِّ بقربِ الرجْسِ من ضَرَرِ |
هيهاتَ كل امرئ رَهْنٌ بما كسبت | * | لَهُ يَدَاهُ فَخُذْ ما شئت أَوْ فَذَرِ |
وهو يقصد بالرجس قبر الرشيد، وبالزكي أو بقبر الزكي قبر موسى الكاظم من بيت العلويين، وهكذا كانت الخلافات في وجهةِ النظر على الخلافة موضوعًا للشعر.
وكان الشعر السياسي ميدانًا لتباري العقول، وتنافسها في الاحتجاج بالحجج الدينية والعقلية في أحقية كلِّ فريقٍ بالخلافة على حسب ما يراه الشاعر المناصر لهذا الفريق أو ذاك.
هـ. اتجاه الشعر إلى الفلسفة:
كثُر الشعراء الفلاسفة في العصر العباسي، في كل البيئات التي خضعت لسلطانِ الدولةِ العباسيةِ، ومن هؤلاءِ الشعراء الفلاسفة عَلَمُهُمُ ابن سينا الذي كان له اهتمام بالنفس الإنسانية، واهتمام بالطبيعة، والفلك والطب، وكان مع هذا كله ذا ذائقة أدبية، وموهبةٍ شعريةٍ ناضجةٍ، وقصيدته في النفس من القصائد المشهورة، وقد بناها على فكرة أن الروح محبوسةٌ في الجسد، وأنها تتطلع إلى الخلاص من هذا السجن، وأن الروح دائمًا تشتاق إلى الانطلاق في عالمها العلوي. يقول ابن سينا في قصيدة النفس:
هَبَطتْ إِليكَ مِنَ المَحَلِّ الأَرفَعِ | * | وَرقاءُ ذاتُ تَعَزُزٍ وَتَمَنُّعِ |
وقد بثَّ ابن سينا في هذه القصيدة رؤيته أو رأيه في النفس، وتحدث عن مبدئها ومعادها، وتعجب من أحوالها وأطوارها، واستطاع الفيلسوف الشاعر أن يختار لأفكاره الألفاظ الدالة الموحية، وأن يصوغ قصيدته صياغةً رقيقةً محكمةً، وأن يرسم صورًا معبرةً تبعث في الأفكار الفلسفية الحركةَ والحياةَ؛ فجاءت قصيدته لوحةً تصور هذه النفس الإنسانيةَ العجيبةَ المعقدةَ التي تمثل لغزًا محيرًا وسرًّا مُسْتَغْلَقًا، شغل طلاب المعرفة في كل زمانٍ ومكانٍ؛ فالنفس الإنسانية مجمعٌ لكثير من الأمور المتناقضة التي يصعب معها إدراك حقيقة هذِهِ النفس، فهي محجبة سافرة، آنفة آلفة ناسية ذاكرة، عالمة جاهلة… إلى آخر ما تتصف به النفس الإنسانية من تركيبٍ معقدٍ؛ فسبحان من سواها فألهمها فجورها وتقواها.
يقول ابن سينا:
هَبَطت إِليكَ مِنَ المَحَلِّ الأَرفَعِ | * | وَرقاءُ ذاتُ تَعَزُزٍ وَتَمَنُّعِ |
مَحجوبَةٌ عَن كُلِ مُقلَة عارِفِ | * | وَهيَ الَّتي سَفَرَت وَلَم تَتَبَرَقعِ |
وَصَلَت عَلَى كُرهٍ إِليكَ وَرُبَما | * | كَرِهتُ فِرَاقَكَ وَهِيَ ذاتُ تَفَجُعِ |
أَنِفَت وَمَا أَنِسَت فَلَمَّا وَاصَلَت | * | أَلِفَتْ مُجَاوَرَةَ الخَرَابِ البلقَعِ |
وأظُنُّهَا نَسِيَت عُهُودًا بالحِمَى | * | وَمَنَازِلًا بَفَراقِهَا لم تَقْنَعِ |
فالنفس تحن إلى عالمها الأعلى، وهي دائمة الشوق إليه، ولا يحول بينها وبين الذهاب إلى ذلك العالم غير الجسد الذي حبست فيه إلى أجَل، وكلما ذكرت عالمها العلوي بكت؛ فإذا ما إذًا لقفص الطين -وهو الجسد- أن يتحطم بالموت فارقته هذه الروح فَرِحَةً بالرجوع إلى عالمها الأول، ويقول ابن سينا مصورًا هذه الحال:
تبكي إذا ذكَرَت ديارًا بالحِمَى | * | بمدامعٍ تَهْمِي ولمَّا تُقْطَعِ |
وتظل ساجعةً على الدِّمَنِ التي | * | دَرَست بتكرارِ الرياحِ الأرْبَعِ |
إذ عَاقَهَا الشَّركُ الكثيفُ وصدَّهَا | * | قفصٌ عَن الأوْجِ الفسيحِ المربعِ |
حتى إذا قَرُبَ المسيرُ إلى الحِمى | * | ودنا الرحيلُ إلى الفضاءِ الأوسعِ |
سَجَعت وقد كُشِفَ الغطاءُ فأبصَرَتْ | * | ما ليس يُدْرَكُ بالعيونِ الهُجَّعِ |
وغَدَت مُفَارقَةً لكلِّ مُخَلَّفٍ عنها | * | حليفَ التُّرْبِ غيرَ مُشَيَّعِ |
وغدت تغرد فوقَ ذروةِ شاهقٍ | * | والعلمُ يرفعُ كلَّ مَن لَم يُرْفَعِ |
لكن ما السر في هبوط النفس من عالمها العلوي إلى الأرض لتقترن بالجسد، إن كان الله سبحانه وتعالى أرسلها لحكمة المعرفة التي تكتسبها من الحياة بعد التلبس بالجسد، فلماذا يُقضى على هذا الجسد بالموت سريعًا، وتعود إلى عالمها مرة أخرى بعد وقتٍ في الأرض يسير وعمر في الدنيا قصير، حتى كأنها برقٌ أومضَ ثم انطفى.
هكذا يتساءل ابن سينا متعجبًا عاجزًا عن إدراك السر؛ سر النفس الإنسانية، أو سر الحياة والموت والمبدأ والمعاد؛ فيقول:
فلأي شيء أهبطت من شاهق | * | سامٍ إلى قفر الحضيض الأوضعِ |
إن كان أرسلها الإلهُ لحكمةٍ | * | طويَتْ عن الفَطِنِ اللبيبِ الأرْوَعِ |
فهبوطُهَا إن كان ضربةَ لازِبٍ | * | لتكونَ سامعةَ بِمَا لَم تسمَعِ |
وتعود عالمةً بكل خفيةٍ | * | في العالمين فخرْقُهَا لَم يرقعِ |
وهي التي قطع الزمان طريقها | * | حتى لقد غربت بغير المطلعِ |
فكأنها برقٌ تألَّق بالحِمَى | * | ثُمَّ انطَفَى فكأنه لم يلمعِ |
وقد تأثر كثير بالفلاسفة المعاصرين أو الذين جاءوا بعد ابن سينا بهذه القصيدة وبآرائه في النفس التي بثَّها فيها، وقد امتد هذا الأثر حتى وصل إلى عصرنا الحديث، فكتب شوقي قصيدة عارض بها هذه القصيدة لابن سينا.
ومن الشعراء الفلاسفة العباسيين الذين تأثروا بهذه القصيدة، وقالوا في النفس: السهرورديُّ. يقول السهرورديُّ عن النفس:
خَلَعَتْ هيَاكِلهَا بِجَرْعَاءِ الحِمَى | * | وصَبَتْ لِمَغنَاهَا القَدِيمِ تشوقَا |
وتلفتت نحوَ الديارِ فَشَاقَهَا | * | رَبْعٌ عَفَتْ أطلالُهُ فتمزَّقَا |
وَقَفَتْ تُسَائِلُهُ فَرَدَّ جَوَابَهَا | * | رَجْعُ الصَّدَى أَنْ لَا سبيلَ إِلَى اللِّقَا |
فكأنَّما بَرْقٌ تألَّقَ بالحِمَى | * | ثم انطَوى فكأنَّهُ مَا أَبْرَقَا |
وهذا البيت الذي يشبِّه فيه السهروردي النفسَ أو الروح وفراقها بعد حياة قصيرة للجسد -يشبه هذه الحياة القصيرة- بتألق برق وانطفائه، هذه الصورة وردت في قول ابن سينا:
فَكَأنَّها بَرْقٌٌ تألَّقَ بالحِمَى | * | ثُمَّ انطَفَى فكأنَّهُ لَم يَلْمَعِِ |
البيت بمعناه وبألفاظه جاء في قصيدة السهروردي:
فكأنما برق تألق بالحمى | * | ثم انطوى فكأنه ما أبرقا |
وقد اهتَمَّ الشعراء الفلاسفة في العصر العباسي بقضايا فلسفيةٍ أخرى كثيرة غير قضية النفس، وظهر في أشعارهم ما يتوافق مع الدين، وما يمكن أن يعترض عليه بالدين.