Top
Image Alt

التجربة الشعرية

  /  التجربة الشعرية

التجربة الشعرية

التجربة الشعرية تعبير حديث، أو مصطلح جديد نجده في النقد الأدبي، وفي الدراسات النقدية الحديثة، ولا نجد هذا المصطلح بهذا التعبير في النقد الأدبي القديم، فلم يقولوا في النقد القديم التجربة الشعرية، ولم يرد في كلامهم إلا لفظ التجربة فقط؛ وقد عقد ابن الأثير موازنة بين بيت امرئ القيس الذي يقول فيه:

كأن قلوب الطير رطبًا ويابسًا

* لدى وكرها العناب، والحشف البالي

وبيت النابغة الذبياني:

ولست بمستبقٍ أخًا لا تلمه

* على شعث، أيُّ الرجال المهذب؟

في المعاني التي اشتمل عليها البيتان؛ فقال: “أما من جهة المعنى، فإن بيت النابغة أفضل؛ وذلك لأنه تضمّن حِكْمة تُعرب عن تجربة الإخوان، فيتأدب بها الغرُّ الجاهل، ويتنبه لها الفَطِن الأريب، والناس أحوج إلى معرفته من معرفة التشبيه الذي يتضمنه بيت امرئ القيس”.

فالتجربة في كلام ابن الأثير هي ما يُرادف الحكمة التي تُستخرج بالفكر الدقيق، أي: بشيء يرجع فيه إلى النفس، وإلى تأملها في الحياة، وكلمة تجربة أو تجارب أيضًا جاءت في كلام ابن طباطبا؛ إذ يقول: “واعلم أن العرب أودعت أشعارها من الأوصاف والتشبيهات والحكم ما أحاطت به معرفتها، وأدركه عيانها، ومرت به تجاربها”.

فالتجربة أو التجارب في هذين النصين من النقد القديم المراد بهما المعرفة أو الخبرة، لكن مدلول التجربة الشعرية كمصطلح في النقد الحديث هي عبارة عن الصورة الكاملة النفسية، أو الكونية التي يصوِّرها الشاعر حين يفكر في أمر من الأمور تفكيرًا ينمُّ عن عميق شعوره وإحساسه.

وفيها يرجع الشاعر إلى اقتناع ذاتي وإخلاص فني لا إلى مجرد مهارته في صياغة القول ليعبث بالحقائق، بل إنه ليغذِّي شاعريته، ويشفّ عن جمال الطبيعة والنفس.

فالمراد بالتجربة الشعرية في النقد الحديث: ما يعتمل في نفس المبدع من الخواطر، والانفعالات، والأفكار حتى تنصهر هذه الأفكار، والانفعالات، والمواقف، والعواطف، وتخرج في صورة لفظية على نمط خاص.

هذه هي التجربة الشعرية، فهي معاناة في الشعور، والإحساس، والفكر، وقدرة على اختيار التعبير المناسب لهذه المعاناة؛ حتى يصور الأديب ما في نفسه في صورة لفظية هي الأدب، فإذا صدرت أو صُورت هذه المشاعر والأفكار -بعد أن تنصهر وتنضج في نفس الأديب- في صورة شعرية؛ فهذه تجربة شعرية، وإذا صورت في تجربة أو في صيغة نثرية؛ فهذه تجربة أدبية، فالتجربة الأدبية إذًا أعم من التجربة الشعرية.

والاثنتان -التجربة الشعرية الأخص، أو التجربة الأدبية الأعم- مبنيتان على ما يُمكن أن يُسمى التجربة الشعورية، فالتجربة الشعورية هي أساس العمل الأدبي، هي الجنين الذي يتخلَّق في نفس الأديب ويتكون، ثم يختار لها الأديب الصيغة التي تُناسبها في التعبير عنها، فتخرج من إطار الشعور إلى إطار الواقع، فتصبح تجربة شعرية أو نثرية بعد أن كانت تجربة شعورية.

وهو يفصلون ويشرحون هذا الأمر، كما نجد مثلًا في قول الدكتور طه أبو كريشة، فالشاعر يفكر في أمر نفسي أو كوني.

وهذا التفكير يملك عليه شعوره وإحساسه إلى أن يخرجه في صورة شعرية يرضي بها نفسه أولًا كتعبير ملفوظ عما يفكر فيه.

ثم إنه يكشف لغيره حديث النفس والحياة، وما في ذلك من إحساس بالمتعة والجمال؛ فالنفس والكون هما محطُّ التجارب الشعرية.

وإذا كان النقد القديم لم يذكر التجربة الشعرية، أو التجربة الشعورية بهذا المصطلح، فإنهم تحدثوا عنها من غير أن يسموها، فابن طباطبا يقول: “إن أشعار العرب تضمنت من التشبيهات ما أدركه من ذلك عيانها وحسها إلى ما في طبائعها وأنفسها، من محمود الأخلاق ومذمومها، في رخائها وشدتها، ورضاها وغضبها، وفرحها وغمها، وأمنها وخوفها، وصحتها وسقمها، والحالات المتصرفة في خَلْقِهَا وخُلُقِهَا من حال الطفولة إلى حال الهرم، ومن حال الحياة إلى حال الموت”.

ويقول بصورة أوضح في موضع آخر: “وليست تخلو الأشعار من أن يقتص فيها أشياء هي قائمة في النفوس والعقول، فيُحسن العبارة عنها، وإظهار ما يكمن في الضمائر منها؛ فيبتهج السامع لما يرد عليه مما قد عرفه طبعه وقبله فهمه؛ فيثار بذلك ما كان دفينًا.

ويبرز فيه ما كان مكنونًا، فينكشف للفهم غطاؤه، فيتمكن من وجدانه بعد العناء في نشدانه، أو تودع حكمة تألفها النفوس، وترتاح لصدق القول فيها، وما أتت به التجارب منها… أو تضمن أشياء يوجبها أحوال الزمان على اختلافه وحوادثه على تصرفها، فيكون فيها غرائب مستحسنة، وعجائب بديعة مستطرفة، من صفات، وحكايات، ومخاطبات، في كل فن توجبه الحال التي ينشأ قول الشعر من أجلها”.

في كلام ابن طباطبا هذا شرح لعملية الخلق الشعري، وكيف يتم، وهو حديث واضح عما يسمى بالتجربة الشعرية، لكنه لم يستخدم مصطلح التجربة الشعرية. فالتجربة الشعرية إذًا معاناة فكرية ونفسية تنشأ بفعل مثير، والمثير في العمل الأدبي هو الموقف الذي يحرك الإحساس، ويؤثر في العاطفة، ويحرك الفكر، ويستدعي التأمل، هذا الموقف أو هذا المثير هو الدافع الأول للأدب، تأتي بعد ذلك المعاناة الشعورية والفكرية التي من خلالها يتخلَّق هذا العمل الأدبي في نفس الأديب، كما يتخلَّق الجنين في الرحم، ثم يُلبس الأديب هذه المعاناة الثوب الأدبي المناسب لها، فتخرج التجربة من إطار الشعور إلى حيز الوجود، فيقرؤها الناس ويتعاملون معها، ويعرفون هذه التجربة الشعورية التي مر بها الأديب، وقد يجدون في أنفسهم تشابهًا في الموقف والشعور والإحساس، بين ما يجدونه في أنفسهم، وما يجدونه مُعَبرًا عنه في هذه التجربة الأدبية، وهذه هي الفائدة الكبرى من الأدب؛ لأن القارئ يجد في العمل الأدبي تجربة يُمكن أن يكون قد مر بها، أو أحس بها لكنه لم يستطع التعبير عنها، فعندما يجد تعبيرًا عنها ينفعل مع هذا التعبير ويتأثر به، وإذا لم تكن عنده هذه التجربة، أو مر بما يشبهها؛ فإنه يستفيد من هذه التجارب التي يقرؤها غنًى في وجدانه، وثراء في فكره وإحساسه.

من هذا نستطيع أن نفهم أن للتجربة الشعرية عناصر، هذه العناصر تتمثل فيما يلي:

العنصر الأول: الدافع أو المثير أو الموقف الذي يُحرك العواطف والانفعالات والأفكار.

العنصر الثاني: المشاعر والأحاسيس، التي تتحرك بسبب المثير أو الدافع.

العنصر الثالث: الفكر الذي يشرف على هذه العواطف، وينظمها حتى لا تكون مجرد أحاسيس مضطربة، لا يسودها نظام؛ بشرط ألا يخرجها هذا الفكر من عالمها -عالم النفس- ويحولها إلى حقائق عقلية.

العنصر الرابع: عنصر الخيال الذي يمد الأديب بصور، فتكون الأفكار صالحة للظهور في صور، يستطيع القارئ أن يتخيلها ويتعامل معها.

العنصر الخامس: عنصر اللغة التي تجمع هذه العناصر كلها في صورة تعبيرية، تكون هي الرسالة التي من خلالها ينقل الأديب أو الشاعر تجربته إلى غيره من المتلقين السامعين، أو القراء، وقد اشترط النقد شروطًا مهمة؛ لتكون التجربة ناجحة، من أهمها: أن يصدر الشعر أو الأدب عمومًا عن دافع قوي، وباعث مثير؛ فالدافع القوي يجعل الأديب يقع على المعاني والصياغة دون تكلف وكثير عناء.

وكلما كان الأديب قريبًا من التجربة ومعانيًا لها بنفسه، يكون أقرب إلى النجاح في التعبير عنها؛ لأنه سيكون أقرب إلى الصدق بفضل معاناته وقربه من هذه التجربة، ولذلك شعر الغزل عند من عانى الحب أصدق وأروع من شعر الغزل عند من يأتي إليه مقلدًا، دون أن تكون له معاناة في الحب، ومن هنا أيضًا كان شعر الرثاء، خاصة رثاء الأقارب عندما يرثي الرجل ولده، أو زوجه، أو أخاه يكون أقرب إلى الجودة والصدق؛ لأن المعاناة فيه -معاناة التجربة- من جهة المشاعر والأحاسيس أشد.

فالصدق إذًا -بالإضافة إلى قوة الدافع- في التعبير عن التجربة، من أهم أسباب نجاحها، ومن أسباب نجاح التجربة الشعرية أيضًا حرص الشاعر على أن يُخرجها ناضجة متقنة من غير تعجل.

ولا تسرع في إيجاد التلاؤم والتناسب بين أجزائها، فلا بد من الصبر والأناة حتى تنضج التجربة، وحتى تخرج مستوفية لشروط اكتمالها، ولأن المصادر التي يستمد منها الأديب تجاربه متنوعة ومتعددة؛ فقد تنوعت التجارب تبعًا لتنوع هذه المصادر، فيذكرون من أنواع التجربة التجربة الشخصية، وهي التي تسوقها للأديب أحداث الحياة، ولا يفتعلها افتعالًا، فالأحداث التي تحدث للأديب في ذات نفسه، وينفعل بها، ويتعاطف معها، ثم يُخرجها في صورة أدبية، هذه تُسمَّى تجربة شخصية، ومن هذه التجربة الشخصية أكثر شعر الغزل، وشعر الرثاء؛ لأنه مبني على حدث وقع عند الشاعر، أو في دائرة شخصه، ولذلك تسمى تجربة شخصية.

وهناك التجربة التاريخية، وهي التي يستمدها الأديب من أحداث التاريخ وتجارب البشر، وباستطاعة الأديب أن يتخير من التاريخ وأحداثه ما يشاء، ويجعله موضوعًا ومادة لأدبه، فتسمى التجربة عندئذٍ تجربة تاريخية؛ لأنه يأتي بحدث من التاريخ، أو بقصة معروفة في التاريخ، ويتفاعل ويتعايش معها بفكره وإحساسه وعواطفه، ثم يخرجها في صورة أدبية، هذه الصورة مستمدة من التاريخ فتسمى تجربة تاريخية.

من هذا مثلًا: القصص والمسرحيات التي أخذت مادتها من التاريخ، كأعمال شكسبير مثلًا في اللغة الإنجليزية، وكبعض القصص في أدبنا العربي المستمد من التاريخ الفرعوني، أو التاريخ الإسلامي، ومثل: المطولات الشعرية كالقصيدة العمرية التي كتبها حافظ إبراهيم عن حياة عمر بن الخطاب مثلًا، فهذه تجارب تاريخية.

هناك أيضًا ما يسمى بالتجربة الأسطورية، وهي التي تُحدثنا عن موقف الإنسان من قوى الطبيعة، وما في الكون من كائنات خيالية، ويتعامل الأديب مع هذه الكائنات التي لم يرها الناس ولم يعرفوها، ويصورها بخياله، وهذا له مثال حتى في شعرنا العربي القديم، وإن كانت التجربة ليست كاملة، وإنما فيها استفادة.

من هذا المجال تشبيه امرئ القيس، عندما يقول:

أيقتلني والمشرفي مضاجعي

*  ومسنونة زرق كأنياب أغوال؟

فيشبه الرماح بأنياب الغول، والغول كائن لا يعرفه الناس، والأدب الغربي فيه هذه التجارب الأسطورية كثيرة.

هناك أيضًا التجربة الخيالية، وهي تجربة ليست مستمدة من الأساطير، ولا من التاريخ، ولا من حياة الأديب، وإنما هو يتخيلها تخيلًا، فهي إذًا مستمدة من الخيال، وليست مستمدة من الواقع حتى نسميها واقعية تاريخية، أو واقعية شخصية، وليست مستمدة من الأساطير.

هذه هي أنواع التجارب، وهذه عناصرها وشروط نجاحها.

error: النص محمي !!