التشهد، الصلاة على النبي والتعوذ والدعاء في آخر التشهد، التسليم والقنوت في الصلاة
أولًا: التّشهّد:
التّشهّد نوعان: تشهّد أوسط: في الصلوات الرباعية أو المغرب، وتشهد أخير: وهو الذي يكون قبل التسليم والخروج من الصلاة.
يقول ابن رشد -رحمه الله- : إنّ الفقهاء اختلفوا في وجوب التّشهّد، وفي المختار منه، أي: الصيغة المختارة من ألفاظ التشهد.
فذهب مالك، وأبو حنيفة، وجماعة غيرهم إلى: أنّ التّشهّد ليس بواجب. فلا يُعدّ ركنًا من أركان الصلاة.
وذهبت طائفة إلى وجوبه؛ وبه قال الشافعي، وأحمد، وداود. وبهذا يكون التشهد ركنًا من أركان الصلاة.
ويفصل ابن قدامة القول في هذه القضية فيقول في كتابه “المغني” تحت المسألة التي ذكرها الخرقي بقوله: “ويتشهّد فيقول: ((التحيات لله، والصلوات والطيبات. السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته. السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله)). وهو التشهد الذي علّمه النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه”.
هذا كلام الخرقي، يُعلّق عليه ابن قدامة بقوله: هذا التشهد هو المختار عند إمامنا، وعليه أكثر أهل العلْم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومَن بعدهم من التابعين. قاله الترمذي. وبه يقول: الثوري، وإسحاق، وأبو ثور، وأصحاب الرأي، وكثير من أهل المشرق.
وقال مالك: أفضل التشهد: تشهّد عمر بن الخطاب رضي الله عنه وصيغته: ((التحيات لله، الزاكيات لله، الصلوات لله…)). وسائره كتشهد ابن مسعود؛ لأنّ عمر قاله على المنبر بمحضر من الصحابة وغيرهم، فلم ينكروه، فكان إجماعًا.
وقال الشافعي: أفضل التّشهّد: ما روي عن ابن عباس، قال: كان رسول اللهصلى الله عليه وسلم يعلِّمنا التّشهّد كما يُعلِّمنا السورة من القرآن، فيقول: ((قولوا: التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله. سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته. سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله)) أخرجه مسلم، والترمذي وقال: حديث حسن صحيح، إلا أن في رواية مسلم: ((وأشهد أنّ محمدًا عبدُه ورسوله)).
فابن قدامة يرجّح صيغة عبد الله بن مسعود التي اختارها الإمام أحمد بن حنبل، فيقول: ولنا ما روى عبد الله بن مسعود قال: “علّمني رسول الله صلى الله عليه وسلم التّشهّد، كفّي بين كفّيْه، كما يُعلِّمني السورة من القرآن: ((التحيات لله، والصلوات والطيبات. السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته. السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله))”. وفي لفظ: ((إذا قعد أحدُكم في الصلاة، فلْيقُلْ: التحيات لله))، وفيه: ((فإنكم إذا فعلتم ذلك فقد سلّمتُم على كلّ عبدٍ لله صالح في السماء وفي الأرض))، وفيه: ((فليتخيّرْ من المسألة ما شاء)) أي: الدعاء. متفق عليه.
والتشهد بأيّ تشهد ممّا صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم جاز؛ نصّ عليه أحمد، فقال: تشهّد عبد الله -ابن مسعود- أعجب إليَّ، وإنْ تشهّد بغيره كتشهّد ابن عباس أو عمر فهو جائز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لمّا علّمه الصحابة مختلفًا دلّ على جواز الجميع، كالقراءات المختلفة التي اشتمل عليها المصحف.
قال القاضي: وهذا يدلّ على أنه إذا أسقط لفظة هي ساقطة في بعض التّشهّدات المرويّة صحّ تشهده. فعلى هذا، يجوز أن يقال: أقلّ ما يُجزئ من التشهد: ((التحيات لله. السلام عليك أيها النبي ورحمة الله. السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين. أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله)). أو ((أنّ محمدًا رسول الله)).
الشاهد من هذا كلّه هو: قول ابن قدامة -رحمه الله-: وهذا التشهد، والجلوس له من أركان الصلاة؛ وممّن قال بوجوبه: عمر، وابنه، وأبو مسعود البدري، والحسن، والشافعي.
ولم يوجبه مالك ولا أبو حنيفة، إلا أن أبا حنيفة أوجب الجلوس قَدْر التّشهّد، وتعلّقَا -أي: مالك وأبو حنيفة- بعدم وجوب التّشهّد بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُعلِّمْه الأعرابي الذي علّمه الصلاة فدلّ على أنه غير واجب.
يردّ ابن قدامة على هذا القول، بقوله: لنا أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أمَر به فقال: ((قولوا: التحيات لله))، وأمْره صلى الله عليه وسلم يقتضي الوجوب، وفَعََلَه وداوم عليه. وقد روي عن ابن مسعود أنه قال: “كنّا نقول قبل أن يُفرض علينا التشهد: “السلام على الله قبل عباده. السلام على جبريل. السلام على ميكائيل”. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تقولوا: “السلام على الله”، ولكن قولوا: “التحيات لله”…)) إلخ. وهذا يدلّ على أنه فُرض بعد أن لم يكن فرضًا. وحديث الأعرابي يحتمل أنه كان قبل أن يُفرض التّشهّد، ويحتمل أنه تَرَك تعليمه؛ لأنه لم يره أساء في ترْكه.
بعد هذا التفصيل الذي أورده ابن قدامة -رحمه الله- في قضية التّشهّد، نأتي إلى بيان ومعرفة أسباب الاختلاف، كما حكاها ابن رشد في موضوع التّشهّد.
أسباب الاختلاف، كما حكاها ابن رشد في موضوع التّشهّد:
يرجع سبب اختلافهم إلى معارضة القياس لظاهر الآثار؛ فالقياس يقتضي إلحاق التّشهّد بسائر الأركان التي ليست بواجبة في الصلاة، لاتفاقهم على وجوب القرآن، والتشهّد ليس بقرآن حتى يجب.
وحديث ابن عباس، أنه قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعملِّنا التّشهّد كما يُعلِّمنا السورة من القرآن)).
إذًا، القياس تعارض مع تعليم التّشهّد: فهذا الحديث يقتضي وجوب التّشهّد، مع أنّ الأصل عند هؤلاء: أنّ أفعاله وأقواله صلى الله عليه وسلم يجب أن تكون محمولة على الوجوب، حتى يدل الدليل على خلاف ذلك.
والأصل عند غيرهم: على خلاف هذا، وهو: أنّ ما ثبت وجوبه في الصلاة ممّا اتفق عليه أو صُرِّح بوجوبه، فلا يجب أن يُلحق به إلا ما صُرِّح به ونصّ عليه. فهما كما ترى أصلان متعارضان.
الصيغة المختارة من التّشهّد:
ثم يحكي ابن رشد الصيغة المختارة من التّشهّد، ويذكر:
أنّ مالكًا اختار تشهّد عمر رضي الله عنه وكان يُعلِّمه للناس على المنبر.
أمّا أهل الكوفة -أبو حنيفة وغيره- فقد اختاروا تشهّد عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال أبو عمر بن عبد البَر: وبه قال أحمد وأكثر أهل الحديث، لثبوت نقْله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد عرفناه عند ابن قدامة.
واختار الشافعي وأصحابه، وأحمد أيضًا في رواية أخرى: تشهد عبد الله بن عباس الذي رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم وقال: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعلِّمنا التّشهّد كما يُعلِّمنا السورة من القرآن”.
ثم يقول: سبب الاختلاف في اختيار صيغة من هذه الصيغ الثلاث، مع أنّ الجميع متّفقون على أنّ الصلاة تصحّ بأيّ صيغة من هذه الصيغ: اختلاف ظنونهم في الأرجح منها. فمَن غلب على ظنِّه رُجحان حديث ما من هذه الأحاديث الثلاثة مال إليه.
وقد ذهب كثير من الفقهاء إلى: أنّ هذا كلّه على التخيير، فبأيّ صيغة يصحَ، كالأذان، والتكبير على الجنائز، وفي العيديْن، وفي غير ذلك ممّا تواتر نقْله؛ وهو الصواب – والله أعلم.
ثانيًا: الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم:
الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التّشهّد، هل هي ركن من أركان الصلاة؟
وهل هذا باتفاق الفقهاء، أم هناك اختلاف في ذلك؟
يقول ابن رشد: اشترط الشافعي الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم في التّشهّد – أي: التشهد الأخير.
وقال أبو حنيفة ومالك: هو سُنّة. وقال أحمد في أشهر روايتيْه: تبطل صلاته بترْك الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
واستشهد الشافعي وأحمد بقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا } [الأحزاب: 56]. وقد ذهب الشافعي إلى أن هذا أمْر من الله تعالى، وهذا الأمر يدلّ على الوجوب؛ لأن التسليم هنا هو التسليم مِن الصلاة، أي: تسليم الخروج من الصلاة.
ذهب الحنفية والمالكية إلى: أنه التسليم الذي يؤتَى به عقِب الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم دون أن يكون ذلك واجبًا في الصلاة. فهو: التسليم، يعني: صلى الله عليه وسلم.
يعلّق ابن قدامة على موضوع الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم تحت المسألة التي ذكَرها الخرقي في “المغني”، يقول:
“ويتشهّد بالتّشهّد الأول، ويصلّي على النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: ((اللّهم صلِّ على محمد وآل محمد، كما صلّيْتَ على آل إبراهيم؛ إنك حميد مجيد. وباركْ على محمد وعلى آل محمد، كما باركْتَ على آل إبراهيم؛ إنك حميد مجيد)).
وجُملته: أنه إذا جلس في آخِر صلاته فإنه يتشهّد بالتشهد الذي سبق ذكْره: تشهّد ابن مسعود، أو تشهّد عمر، أو تشهّد ابن عباس. ثم يصلِّي على النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكر الخرقي. وهي واجب -أي: الصلاة على النبي واجبة في صحيح المذهب- وهو قول الشافعي وإسحاق.
ولأحمد رواية أخرى: أنها غير واجبة. لكن الأصح: الوجوب.
والقول بعدم الوجوب هو: قول مالك، والثوري، وأصحاب الرأي، وأكثر أهل العلْم. وقال ابن المنذر: هو قول جُلِّ أهل العلْم، إلا الشافعي.
ثالثًا: التّعوّذ والدّعاء في آخِر التّشهّد:
يقول ابن رشد: ذهب قوم من أهل الظاهر إلى: أنه واجب أن يتعوّذ المُتشهِّد من الأربع التي جاءت في الحديث، يقول: ((اللهم إنّي أعوذ بك من عذاب القبر، وأعوذ بك من عذاب جهنم، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدّجّال، وأعوذ بك من فتنة المحيا والممات))؛ لأنه ثبت عند الجماعة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتعوّذ منها في آخِر تشهّده.
وفي بعض طُرقه: ((إذا فرغ أحدُكم من التشهد الأخير فلْيتعوّذْ من أربع)) أخرجه مسلم، وأبو داود، والنسائي.
رابعًا: التّسليم:
التّسليم هو: نيّة الخروج من الصلاة، أو القول الذي نَخرج به من الصلاة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لنا: «تحريمُها التكبير، وتحليلها التّسليم»، أي: بمجرّد أن يُكبِّر الإنسان تكبيرة الإحرام يكون كلّ شيء كان مباحًا قبْلها أصبح مُحرَّمًا بعد التكبيرة «تحريمها التكبير».
وضع ابن رشد هذا “التسليم” تحت المسألة الثامنة، وأخذ يُبيِّن أقوال الفقهاء في ذلك، فيقول: اختلفوا في التسليم من الصلاة، وكذلك في نية الخروج من الصلاة.
فقال الجمهور بوجوب التّسليم.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: ليس بواجب.
ثم الذين أوجبوه اختلفوا: فمنهم من قال: الواجب على المنفرد والإمام تسليمة واحدة.
ومنهم من قال: تسليمتان.
إذًا، نحن أمام عدّة أقوال في موضوع التسليم، وهل هو ركن من أركان الصلاة أو لا؟
جمهور العلماء على أنه ركن واجب، وإلا فكيف نخرج من الصلاة.
أبو حنيفة وأصحابه لم يوجبوه؛ لأنه إذا تمّت الصلاة بالتشهد فقد تمّت الصلاة.
هل الواجب تسليمة واحدة أم تسليمتان؟
يقول ابن رشد: ذهب الجمهور مذهب ظاهر حديث علي، هو: قوله صلى الله عليه وسلم: «وتحليلها التسليم» رواه أبو داود، والترمذي، وغيرهما، بإسناد صحيح.
ومَن ذهب إلى أنّ الواجب من ذلك تسليمتان، لِما ثبت عند مسلم وأصحاب السنن من أنه صلى الله عليه وسلم كان يُسلِّم تسليمتيْن؛ وذلك عند مَن حمَل فِعْل النبي صلى الله عليه وسلم على الوجوب.
واختار مالك للمأموم تسليمتيْن وللإمام تسليمة واحدة. وقد قيل عنه أيضًا: إن المأموم يسلِّم ثلاثًا: الواحدة للتحليل، والثانية للإمام، والثالثة لمن هم عن يساره.
ماذا عن القائلين بعدم الوجوب؟
يقول: أمّا أبو حنيفة، فذهب إلى ما رواه عبد الرحمن بن زياد الإفريقي: أنّ عبد الرحمن بن رافع وبكر بن سوادة حدّثاه عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا جلس الرّجُل في آخِر صلاته فأحْدث قبل أن يُسلِّم- فقد تمّتْ صلاته».
إذًا، لم يجعل التسليم هو تمام الصلاة، وإنما جعل الجلوس الأخير والتّشهّد فيه هو المتمِّم للصلاة.
قال أبو عمر ابن عبد البَر: وحديث علي المتقدّم: «تحليلها التّسليم» أثبت عند أهل النقْل، يعني: أكثر صحة؛ لأن حديث عبد الله بن عمرو بن العاص انفرد به الإفريقي، وهو عند أهل النقل ضعيف.
إذًا، نحن أمام حديثيْن: أحدهما ثابت وصحيح، وهو حديث علي، وهذا الذي جعل الجمهور يأخذ به ويأخذ بظاهره، وهو: أن التسليم واجب وركن من أركان الصلاة. ولم يأخذوا بالحديث الآخَر حديث عبد الرحمن بن زياد الإفريقي؛ فهو ضعيف.
يفصل ابن قدامة القول في هذا المسألة، فيقول تحت مسألة الخرقي: “ثم يسلّم عن يمينه، فيقول: السلام عليكم ورحمة الله. وعن يساره كذلك”. يقول ابن قدامة:
جُملة هذه القضية: أنّ المصلّي إذا فرغ من صلاته وأراد الخروج منها سلّم عن يمينه ويساره؛ وهذا التسليم واجب لا يقوم غيرُه مقامَه. وبهذا قال مالك والشافعي، وهذا كلام أحمد.
وقال أبو حنيفة: لا يتعيّن السلام للخروج من الصلاة، فالسّلام مسنون وليس واجبً؛ لأن النبيصلى الله عليه وسلم لم يعلِّمه الأعرابي الذي أساء في صلاته. ولو كان السلام واجبًا لأمَره به؛ لأنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، ولأن إحدى التسليمتيْن غير واجبة، فكذلك الأخرى.
ويردّ عليه ابن قدامة، فيقول:
لنا حجّتنا: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «مفتاح الصلاة: الطّهور، وتحريمها: التكبير، وتحليلها: التسليم»؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسلِّم من صلاته ويديم ذلك، ولا يخلّ بها. وقد قال: «صلّوا كما رأيتموني أصلِّي»؛ ولأنّ الحدث ينافي الصلاة، فلا يجب فيها أو لا يصحّ فيها. وحديث الأعرابي سبقت الإجابة عليه، بأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُعلِّمه ما أخلّ فيه. فلعلّ الرجُل كان قد سلّم في المرّات السابقة ويعرف ذلك، أو أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يعلِّمه إلا الحدّ الأدنى، وترَك الكمال.
ثم يقول: ويُشرع أن يسلّم تسليمتيْن عن يمينه ويساره؛ هذا مذهب الإمام أحمد. وروي ذلك عن: أبي بكر الصديق، وعلي، وعمار، وابن مسعود رضي الله عنه. وبه قال: نافع بن عبد الحارث، وعلقمة، وأبو عبد الرحمن السلمي، وعطاء، والشعبي، والثوري، والشافعي، وإسحاق، وابن المنذر، وأصحاب الرأي: يُسلِّم تسليمتيْن.
وقال ابن عمر، وأنس، وسلمة بن الأكوع، وعائشة، والحسن، وابن سيرين، وعمر بن عبد العزيز، ومالك، والأوزاعي: يسلِّم تسليمة واحدة.
وقال عمار بن أبي عمار: كان مسجد الأنصار يُسلِّمون فيه تسليمتيْن. وكان مسجد المهاجرين يسلِّمون فيه تسليمة.
ولِما روت عائشة قالت: “كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسلِّم تسليمة واحدة تلقاء وجهه”.
ولأنّ التسليمة الأولى قد خرج بها من الصلاة، فلم يُشرع بعدها أو ما بعدها، كالثانية.
يردّ ابن قدامة على هذا، ويقول: “لنا ما روى ابن مسعود، قال: «رأيتُ النبيصلى الله عليه وسلم يُسلِّم حتى يُرى بياضُ خدِّه عن يمينه ويساره». أي: رآه في الصلاة وهو يسلِّم حتى يُرى بياض خدِّه لِمَن خلْفه عن يمينه، ويُرى بياض خدِّه عن يساره لِمَن خلْفه أو إلى جواره.
وعن جابر بن سمرة أن النبيصلى الله عليه وسلمقال: «إنّما يكفي أحدَكم أن يضَع يدَه على فخِذه، ثم يُسلِّم على أخيه من على يمينه وشماله» رواهما مسلم.
وفي لفظ لحديث ابن مسعود: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُسلِّم عن يمينه: السلام عليكم ورحمة الله. وعن يساره: السلام عليكم ورحمة الله)).
قال الترمذي: “حديث ابن مسعود حديث حسن صحيح”.
وقال ابن المنذر: أجْمَع كلّ من أحفظ عنه من أهل العلْم: أنّ صلاة من اقتصر على تسليمة واحدة جائزة. وقال القاضي في رواية أخرى: إن الثانية واجبة، وقال: وهي أصحّ، لحديث جابر بن سمرة، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفْعلها ويداوم عليها. ولأنها عبادة لها تحلّلان، فكانا واجبيْن كتحلّل الحج. ولأنها إحدى التسليمتيْن فكانت واجبة كالأولى. والصحيح: ما ذكرناه، وليس نص أحمد بصريح بوجوب التسليمتين، إنما قال: التسليمتان أصحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وحديث ابن مسعود وغيره أذهب إليه، ويجوز أن يذهب إليه في المشروعية والاستحباب دون الإيجاب، كما ذهب إلى ذلك غيره، وقد دل عليه قوله في رواية مهنا: “أعجب إليّ التسليمتان”؛ ولأن عائشة، وسلمة بن الأكوع، وسهل بن سعد، قد روَوْا: “أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يسلِّم تسليمة واحدة”.
وفيما ذكرناه يكون المشروع والمسنون تسليمتيْن، والواجب واحدة. وقد دلّ على صحة هذا الإجماع الذي حكاه ابن المنذر فلا مَعدل عنه. ولأن التسليمة الواحدة يخرج بها من الصلاة، فلم يجب عليه شيء آخر فيها. ولأن هذه صلاة فتُجزئه فيها تسليمة واحدة، ولأن هذه واحدة كصلاة الجنازة والنافلة.
وأمّا قوله في حديث جابر: «إنما يكفي أحدكم» فإنه يعني في إصابة السُّنّة، بدليل أنه قال: «أن يضع يده على فخذه، ثم يسلّم على أخيه عن يمينه وشماله»؛ وكل هذا غير واجب.
ثم يضيف ابن قدامة: وهذا الخلاف الذي ذكرناه في الصلاة المفروضة. أمّا صلاة الجنازة، والنافلة، وسجود التلاوة- فلا خوف في أنه يخرج منها بتسليمة واحدة.
قال القاضي: هذه رواية واحدة نصّ عليها أحمد في صلاة الجنازة وسجود التلاوة، ولأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لم يسلِّموا في صلاة الجنازة إلا تسليمة واحدة – والله أعلم.
وبهذا نكون قد أتينا على ما ذكَره ابن قدامة في موضوع التسليم، وتبيّن لنا من هذا: أن الواجب هو: تسليمة واحدة، والخروج من الصلاة بالتسليم، وأن هذا هو قول الجمهور. أما التسليمة الثانية فسُنّة، وأما ما يراه أبو حنيفة أو غيره من عدم وجوب التسليم، فهو خلاف قول الجمهور.
خامسًا: القنوت في الصلاة:
القنوت كلمة تعني: الخضوع للهسبحانه وتعالى وكثرة الخشوع له، والتقرب إليه بالطاعة، كما جاء في الآية الكريمة:{ وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ }[البقرة: 238]. ومِن هذا القبيل أيضًا قولهسبحانه وتعالى لأمّهات المؤمنين:{ وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ }[الأحزاب: 31]، وقولهسبحانه وتعالى عن مريم أم عيسى -عليهما السلام-:{ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ }[التحريم: 12]، وقولهسبحانه وتعالى لمريم: { يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ } [آل عمران: 43].
فكلمة “القنوت” في هذه المسألة تعني: الدعاء بأدعية مأثورة، قبل الركوع أو بعده في الصلاة، إمّا صلاة الصبح كما يقول بعض العلماء، وإمّا صلاة الوتر كما يقول آخَرون، وإمّا في الصلوات المفروضة عند النوازل كما يقول آخَرون، أو في النصف الأخير من شهر رمضان فقط، أو النصف الأوّل منه كما يقول آخَرون، وهكذا..
يبين ابن رشد اختلاف الفقهاء في هذه المسألة، فيقول:
اختلفوا في القنوت، فذهب مالك إلى: أنّ القنوت في صلاة الصبح مُستحبّ. وذهب الشافعي إلى: أنه سُنّة. وذهب أبو حنيفة إلى: أنه لا يجوز القنوت في صلاة الصبح. وقال أيضًا: وأنّ القنوت إنما هو موضعه الوتر. وقال أحمد: القنوت للأئمة يدْعون للجيوش، فإن ذهب إليه ذاهب فلا بأس به في الصبح، وهو سُنّة في الوتر بعد الركوع.
وقال قوم: بل يقنت في كلّ صلاة. وقال قوم: لا قنوت إلا في رمضان. وقال قوم: بل في النصف الأخير منه. وقال قوم: بل في النصف الأوّل منه.
ويقول ابن قدامة في شرح هذه الجزئية:
إنّ القنوت مسنون في الوتر في الركعة الواحدة، في جميع السَّنَة.
يقول: هذا هو المنصوص عليه عند أصحابنا؛ وهو قول ابن مسعود، وإبراهيم، وإسحاق، وأصحاب الرأي.
وروي ذلك عن الحسن، وعن أحمد رواية أخرى: أنه لا يقنت إلا في النصف الأخير من رمضان؛ وروي ذلك عن علي، وبه قال ابن سيرين، وسعيد بن أبي الحسن، والزهري، ويحيى بن ثابت، ومالك، والشافعي. واختاره أبو بكر الأثرم، وذلك لِما روي عن الحسن: “أن عمر جمَع الناس على أبيّ بن كعب، فكان يصلّي لهم عشرين ليلة، ولا يقنت إلا في النصف الثاني” رواه أبو داود. وهذا كالإجماع.
وقال قتادة: يقنت في السَّنَة كلِّها، إلا في النصف الأول من رمضان، لهذا الخبر.
وعن ابن عمر: أنه لا يقنت إلا في النصف الأخير من رمضان، وعنه: لا يقنت في صلاة بحال.
والرواية الأولى هي المختارة عند أكثر الأصحاب. وقد قال أحمد في رواية المروزي: كنت أذهب إلى أنه في النصف من شهر رمضان، ثم إني أقنت، وهو دعاء وخير. ووجهه ما روي عن أبيّ: «أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوتر، فيقنت قبل الركوع». وعن علي رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في آخِر وتره: «اللّهمّ إني أعوذ برضاك مِن سخطك، وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك. لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيتَ على نفسك». وكان للدّوام، وفعْل أبيّ يدل على أنه رآه. ولا يُنكَر اختلاف الصحابة في هذا. ولأنه وتر، فيُشرع فيه القنوت كالنصف الآخر. ولأنه ذكْر يُشرع في الوتر، فيُشرع في جميع السَّنَة كسائر الأذكار.
يضيف أيضًا ابن قدامة إلى هذه الجزئية قوله: ويقنت بعد الركوع.
فهو يشير بذلك إلى موضع القنوت، نصّ عليه أحمد. وروي نحو ذلك عن أبي بكر الصديق، وعمر، وعثمان، وعلي، وأبي قلابة، وأبي المتوكّل، وأيوب السختياني؛ وبه قال الشافعي.
وروي عن أحمد أنه قال: أنا أذهب إلى أنه بعد الركوع، فإن قنت قبْله فلا بأس. ونحو هذا قال أيوب السختياني، لِما روى حميد قال: “سئل أنس عن القنوت في صلاة الصبح، فقال: كنا نقنت قبل الركوع وبعده” رواه ابن ماجه.
وقال مالك وأبو حنيفة: يقنت قبل الركوع. وروي ذلك عن أبيّ، وابن مسعود، وأبي موسى، والبراء، وابن عباس، وأنس، وعمر بن عبد العزيز، وعبيدة، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وحميد الطويل؛ لأن في حديث أُبيّ: «ويقنت قبل الركوع». وعن ابن مسعود: «أن النبي صلى الله عليه وسلم قنت بعد الركوع» رواه مسلم.
ويُستحب أن يقول في قنوت الوتر الأدعية المأثورة. وهناك أكثر من دعاء في القنوت.
هناك مَن يستحب ما روى الحسن بن علي قال: “علّمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلماتٍ أقولهنّ في الوتر: ((اللهم اهدني فيمن هديتَ. وعافِني فيمن عافيتَ. وتولَّني فيمن تولّيتَ. وباركْ لي فيما أعطيتَ. وقِني شرّ ما قضيتَ. إنك تقضي ولا يُقضى عليك. وإنه لا يذلّ من واليْتَ، ولا يعزّ مَن عاديْتَ. تباركت ربّنا وتعاليتَ))” أخرجه أبو داود، والترمذي وقال: “هذا حديث حسن”.
ولا نعرف عن النبي صلى الله عليه وسلم في القنوت شيئًا أحسن منه. ويقول: ما روى علي رضي الله عنه: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في وتره -وقد ذكرناه-.
أسباب اختلاف الفقهاء حول القنوت:
هل هو واجب؟ أو ليس واجبًا؟ وإن كان واجبًا فهل يكون ذلك في صلاة الصبح، أو في صلاة الوتر، أو في سائر الصلوات؟ وهل يكون القنوت قبل الركوع أو بعد الركوع؟ وهل يكون في النصف الأخير أو في النصف الأوّل؟
لماذا اختلف الفقهاء في هذه القضية، مع أنها عبادة وخضوع وطاعة لله سبحانه وتعالى؟
يُرجع ابن رشد -رحمه الله- أسباب الاختلاف في ذلك، إلى:
اختلاف الآثار، وقياس بعض الصلوات في ذلك على بعض، أي: بعض الصلوات التي قنت فيها على التي لم يقنت فيها صلى الله عليه وسلم.
قال أبو عمر ابن عبد البَر: “والقنوت بِلَعْن الكفرة في رمضان مستفيض في الصدر الأول، أي: كثير ومنتشر، رواه كثير من الصحابة اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في دعائه على رعل، وذكوان، والنّفر الذين قتلوا أصحاب بئر معونة”.
“النّفر الذين قتلوا أصحاب بئر معونة كانوا قد طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يُرسل معهم قراءً يُحفِّظونهم القرآن الكريم، بعد أن أعلنوا إسلامهم. فأرسل النبيصلى الله عليه وسلم معهم عددًا من الصحابة حفّاظ القرآن الكريم، ليُقرئوا تلك القبيلة: رعل وذكوان. فلما ذهبوا بعيدًا عن النبي صلى الله عليه وسلم قتلوا هؤلاء الصحابة حفّاظ القرآن، ولحقوا بقبيلتهم. فعلِم النبي صلى الله عليه وسلم حكايتهم، فظلّ يقنت -أي: يدعو عليهم أربعين يومًا، وقيل أكثر من ذلك”.
فالصحابة اقتدَوْا بالنبيصلى الله عليه وسلم في هذه الجزئية، وبما أنه قد قنت على المعتدين، فلنا أن نقنت في سائر الصلوات على الظالمين والمعتدين.
وخرَّج مسلم والبخاري أيضًا عن أبي هريرة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم قنَت في صلاة الصبح، ثم بلغنا أنه ترَك ذلك لَمّا نزل قوله تعالى: { لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ}».
وخرَّج الجماعة إلا الترمذي، عن أبي هريرة: «أنه صلى الله عليه وسلم قنت في الظهر، والعِشاء الأخيرة، وصلاة الصبح». وخرَّج عنه صلى الله عليه وسلم: «أنه قنت شهرًا في صلاة الصبح، يدعو على بني عُصَيَّة».
تلك الأحاديث الواردة في أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قنت في الصّلوات كلّها، يدعو على رعل وذكوان، بتلك المناسبة التي أشرنا إليها.
من هنا، نشأ الاختلاف بين الفقهاء: هل القنوت في الصبح؟ هل القنوت في جميع الصلوات؟ هل القنوت في الوتر كما رأينا وعرفنا؟
وعلى كل حال، فالإنسان مخيّر في القنوت أو عدمه.