التعرف بمدرسة الديوان وأصحابها
عبد الرحمن شكري وعباس محمود العقاد وإبراهيم عبد القادر المازني:
نتحدث عن مدرسة الديوان أو جماعة الديوان هذه الجماعة، أو هذه المدرسة التي يمثلها ثلاثة من رواد التجديد في الأدب العربي شعره ونثره ونقده، والثلاثة هم: عبد الرحمن شكري وعباس محمود العقاد وإبراهيم عبد القادر المازني، هذه الجماعة ومرحلتها يقف عندها كل مؤرخي النقد الأدبي الحديث، بوصفها أهم مرحلة في تاريخ النقد الحديث؛ لما تضمنته من آراء ونظريات، وممارسة النقد التطبيقي على أشهر الشعراء والكتاب المعاصرين لهذه الجماعة.
فالنظريات والآراء التي قدمها هؤلاء النقاد الثلاثة، كان لها أثر كبير جدًّا في الحياة الأدبية في وقتها، والتطبيق النقدي الذي مارسه العقاد على شعر شوقي وعلى شعر حافظ، وكذلك التطبيق النقدي، الذي كتبه المازني عن شعر حافظ، وعن كتابات المنفلوطي، كل هذا كان محاولة لإبراز الآراء التي آمنوا بها ودعوا إليها، مع تطبيق ما كانوا يدعون إليه، وبيان عيوب الأدب الذي نقدوه، وهذا الأدب الذي نقدوه كان لمشاهير الشعراء والكتاب، فلم يكن هناك أكبر ولا أشهر من حافظ وشوقي في مجال الشعر، ولم يكن هناك أشهر ولا أكبر من المنفلوطي والرافعي في مجال النثر، وهؤلاء المجددون -خاصة العقاد والمازني- سلطوا نقدهم اللاذع والعنيف على هؤلاء الرواد المشهورين من الشعراء، والكتاب المحافظين.
وفي إطلاق اسم جماعة الديوان، أو مدرسة الديوان على مذهب هؤلاء الثلاثة، فيه شيء من التسامح والتجاوز؛ لأن هذه التسمية جماعة الديوان، أو مدرسة الديوان نسبة إلى كتاب عنوانه (الديوان)، كتبه العقاد والمازني، وقد صدر هذا الكتاب عام ألف وتسعمائة وواحد وعشرين صدر منه جزءان، وكان مقررًا له كما كتب على غلاف الجزء الأول أن يتم في عشرة أجزاء، قلت: هذه التسمية فيها تجوز أو تسامح؛ لأن كتاب الديوان الذي تنسب إليه هذه الجماعة، لم يكتب فيه عبد الرحمن شكري كلمة واحدة، وإنما الذي كتبه هو العقاد والمازني.
والأمر الآخر أن المازني تعرض في هذا الكتاب لنقد عبد الرحمن شكري، بعد أن فسدت العلاقة بينهما، فالثلاثة كانوا أصدقاء كما سأبين فيما بعد، لكن عندما صدر كتاب الديوان، كانت هناك خصومة أدبية نقدية بين عبد الرحمن شكري والمازني، كان عبد الرحمن شكري اتهم المازني بالسرقة الأدبية من الشعر الإنجليزي، وغضب المازني من عبد الرحمن شكري، ونقده نقدًا عنيفًا في هذا الكتاب، المسمى بـ(الديوان)، فإذًا عندما نقول عن هؤلاء الثلاثة: هم جماعة الديوان هذا فيه تسامح.
لكن القواعد التي دعا إليها شكري هي نفسها القواعد، التي يؤمن بها المازني، هي القواعد التي كان يؤمن بها العقاد في تجديد الشعر والأدب، فالثلاثة مجتمعون على الهدف والوسيلة، لكن نسبتهم جميعًا إلى الديوان فيها تسامح، وقد ذكر ذلك أيضًا قبلي، وأنا أنقل عنه الأستاذ عبد الحي دياب في كتابه (التراث النقدي قبل مدرسة الجيل الجديد).
هؤلاء الرواد الثلاثة شكري والعقاد والمازني، وحدت بينهم النشأة الاجتماعية المتشابهة، وظروف الحياة وأحداثها، والثقافة المتقاربة، والطموح الجارف الذي كانت تعوقه ظروف العصر، الذي نشأوا فيه.
وفي ذلك يقول الدكتور عبد العزيز الدسوقي: بدأوا في سفح الحياة الأدبية يتطلعون في أسًى عميق إلى قمة الحياة الأدبية؛ حيث يتربع فوقها نفر قليل من الشعراء والكتاب، من أشهرهم شوقي وحافظ والمنفلوطي، يملأون الدنيا ويشغلون الناس، وكانوا أي: الثلاثة شكري والعقاد والمازني في سفح الحياة الاجتماعية أيضًا، ينظرون إلى الطبقة الكبيرة في المجتمع المصري في حزن؛ لأنها تحول دون تحقق أحلامهم، وتكبت في ضراوة وعنف أشواقهم الفكرية والروحية، وقد كانوا جميعًا من منابت متشابهة.
ثم يحدثنا الدكتور عبد العزيز الدسوقي، فيعرفنا بنشأة هؤلاء الشبان الثلاثة، فيقول: العقاد ولد في أسوان في الثامن والعشرين من يونيو، عام ألف وثمانمائة وتسعة وثمانين، من أسرة فقيرة كادحة، ولم يتمكن من إتمام تعليمه، فحصل على الابتدائية، وخرج يواجه ظروف العيش في غضارة الصبا، فوظف كاتبًا بالقسم المالي في مديرية قنا، سنة ألف وتسعمائة وخمس واشتغل في عدة أعمال، ثم هاجر إلى القاهرة وطن الفكر والأدب، ومهوى قلوب الشبان الطامحين المتطلعين إلى قمة الحياة.
وعبد الرحمن شكري ولد في بورسعيد في الثامن عشر من أكتوبر، سنة ألف وثمانمائة وست وثمانين، وأتم تعلميه الابتدائي والثانوي، والتحق بمدرسة المعلمين العليا، وتخرج فيها عام ألف وتسعمائة وتسعة، وقد أرسل في بعثة إلى جامعة شيفلد بإنجلترا لمدة ثلاث سنوات، ثم عاد إلى وطنه؛ ليعمل مدرسًا بمدرسة ثانوية وهو يشابه العقاد في نشأته المتواضعة.
أما المازني فقد ولد في عام ألف وثمانمائة وتسعين في القاهرة، وبعد أن أتم تعليمه الابتدائي والثانوي، التحق بمدرسة المعلمين العليا، وتخرج فيها عام ألف وتسعمائة وتسعة وعمل مدرسًا، ثم استقال أيام الحرب العالمية الأولى.
إذًا النشأة المتواضعة تجمع بين هؤلاء الثلاثة، لم يكونوا من أهل اليسار، ولا من الطبقات المتميزة في المجتمع المصري، والفترة التي نشأ فيها هؤلاء الثلاثة كانت فترة صعبة في تاريخ البلاد.
وهؤلاء الثلاثة كان عندهم من المواهب الأدبية ما أحسوا به، وأرادوا أن ينفثوا عنه، ويعرضوا إبداعهم الذي توحي به هذه المواهب على الناس، وكانت الظروف الاجتماعية الخانقة تصيبهم بكثير من اليأس، وتحول دون تحقيق طموحهم الاجتماعي، والظروف الأدبية أيضًا تحول دون طموحهم الأدبي، فالمحافظون كشوقي وحافظ والمنفلوطي والرافعي، هم الذين تنشر الصحف أعمالهم، ويعرفهم جمهور الأدب، والثلاثة الناشئون الطامحون أرادوا أن يثبتوا ذواتهم، وأن يقدموا أنفسهم إلى هذا المجتمع.
وكان الثلاثة يملكون تصورًا جديدًا في النقد والدراسة الأدبية، وكانوا يملكون مواهب أصيلة في الإبداع الشعري، وكتابة النقد والمنابع الفكرية، التي استقى منها هؤلاء الثلاثة ثقافتهم منابع واحدة، يتحدث العقاد عن المنابع التي استمد منها ثلاثتهم أفكارهم، فيقول: الجيل الذي نشأ بعد شوقي -يقصد بهذا الجيل نفسَه، وزميليه شكري والمازني- لم يتأثر به -أي: بشوقي- أقل تأثير لا من حيث اللغة، ولا من حيث الروح، بل ربما كان الأصح أن شوقيًّا تأثر بمن نشأوا بعده، فجنح في أخريات أيامه إلى أغراض من النظم تخالف أغراضه الأولى، التي كان يعيبها عليه الجيل الناشئ في أوائل القرن العشرين.
أما اللغة فلم يتأثر فيها الجيل الناشئ بشوقي؛ لأن هذا الجيل كان يقرأ دواوين الأقدمين ويدرسها، ويعجب بما يوافقه من أساليبها، فكان لكل شاعر حديث -أي لكل شاعر من هؤلاء الثلاثة- شاعر قديم، أو أكثر من شاعر واحد يدمن قراءتهم ويفضلهم على غيرهم، ولولا التوافق بين الشعراء المحدثين في المشرب، لاتسعت الشقة بينهم أيما اتساع، من جراء اختلافهم في تفاضل الأساليب العربية بين شعراء، كالمتنبي والمعري وابن الرومي والشريف الرضي وابن حمديس وابن زيدون، ولكنهم كانوا لا يختلفون إلا في إدراك معنى الشعر ومعاير نقده؛ لأنهم كانوا يقرأون كل شاعر عربي، وإن فضل بعضهم واحدًا يتعصب له على نظرائه.
وأما الروح فالجيل الناشئ بعد شوقي كان وليد مدرسة، لا شبه بينها وبين من سبقها في تاريخ الأدب العربي الحديث، فهي مدرسة أوغلت في القراءة الإنجليزية، ولم تقصر قراءتها على أطراف من الأدب الفرنسي، كما كان يغلب على أدباء الشرق الناشئين في أواخر القرن الغابر، وهي على إيغالها في قراءة الأدباء والشعراء الإنجليز، لم تنسَ الألمان والطليان والروس والأسبان واليونان واللاتين الأقدمين، ولعلها استفادت من النقد الإنجليزي، فوق فائدتها من الشعر، وفنون الكتابة الأخرى.
ويستمر العقاد في الكلام عن المنابع الثقافية، التي استمدوا منها أفكارهم فيقول: ولا أخطئ إذا قلت: إن هزلت هو إمام هذه المدرسة كلها في النقد؛ لأنه هو الذي هداها إلى معاني الشعر والفنون، وأغراض الكتابة ومواضع المقارنة والاستشهاد، ولقد كانت المدرسة الغالبة على الفكر الإنجليزي الأمريكي بين أواخر القرن الثامن عشر، وأوائل القرن التاسع عشر هي المدرسة، التي كانت معروفة عندهم بمدرس النبوءة والمجاز، أو هي المدرسة التي تتألق بين نجومها أسماء كارليل وجون استيوارت مِل، وشيللي وبيرون ووردزورث، ثم خلفتها مدرسة قريبة منها تجمع بين الواقعية والمجازية، وهي مدرسة بروننج وتنيسون وأمريسون ولنجليفو بوتمان وهاردي، وغيرهم ممن هم دونهم في الدرجة والشهرة.
يقول: وقد سرى من روح هؤلاء الشيء الكثير إلى الشعراء، الذين نشأوا بعد شوقي وزملائه، ولكنه كان سريان التشابه في المزاج واتجاه العصر كله، ولم يكن تشابه التقليد، في هذا الكلام ينفي العقاد عن نفسه وعن زميليه التأثر بشوقي، في اللغة أو الأسلوب أو الشعر، ويذهب إلى أن شوقي هو الذي تأثر بآرائهم فيما بعد، بعد أن طرحوا آراءهم وبعد أن تعرض العقاد لشوقي بالنقد العنيف في كتاب (الديوان)، يقول العقاد: إن شوقي هو الذي تأثر بآرائهم، لكنهم هم لم يتأثروا بشوقي في اللغة، وقال: إن تأثرهم في اللغة كان بالشعراء العرب القدماء، وذكر منهم المتنبي والمعري وابن الرومي والشريف الرضي وابن حمديس وابن زيدون.
وأما روح الإبداع عندهم فيقول: إنها تأثرت بالأدب الغربي، وبما قرأوه في الأدب الإنجليزي خاصة، وذكر أنهم توسعوا في التزود من الثقافة الغربية، فلم يقتصروا على الشعراء والأدباء الإنجليز، وإنما أضافوا إلى ذلك الألمان والطليان والروس والأسبان واليونان، واللاتين الأقدمين، يشير إلى سعة ثقافتهم من الأدب الغربي، وذكر أنهم تأثروا بالنقد الانجليزي تأثرًا كبيرًا، وأشار إلى الشعراء والنقاد الذين تأثروا بهم، وقال: إن التأثر بهؤلاء كان سريان روح وتشابه في المزاج، واتجاه العصر، ولم يكن تشابه تقليد.
العقاد يركز على سعة الثقافة بالنسبة لهؤلاء الثلاثة، وأصالتها في الوقت ذاته، فهم ليسوا مقطوعي الصلة بالتراث العربي، وليسوا أصحاب بضاعة قليلة من الأدب الغربي، ولم يكونوا مقلدين للعرب ولم يكونوا أيضًا مقلدين لشعراء الغرب، ويركز العقاد أيضًا على استقلال هذه المدرسة، ووضوح شخصيتها عن طريق نفيه الشبه بينها، وبين من سبقها في تاريخ الأدب العربي الحديث، من هنا كانت لهم شخصيتهم المتميزة في الشعر، وفي النقد وحدت الطموحات، والمنابع الثقافية بين هؤلاء الثلاثة، وأصبحت شركتهم الأدبية مضرب الأمثال في التحصيل والتجديد، كما يقول الدكتور عبد العزيز الدسوقي.
وكان كل من الثلاثة يعترف بفضل زميليه عليه، قبل أن يحدث الانقلاب في هذه الصداقة بين المازني وشكري، فالمازني مثلًا يتحدث عن تحصيله الأدبي هو وزميليه، فيقول: عرفنا القراءة والاطلاع، ونحن تلاميذ في المدرسة الثانوية، وأدع غيري وأتحدث عن نفسي فأقول: إن مواردي كانت محدودة جدًّا وكان حسبي أن أؤدي نفقات التعليم، وكنت أحمد الله إذا وجدت بعد ذلك قرشًا في اليوم، وكان فريق منا يعنى بأن يحضر دروس الإمام الشيخ محمد عبده، والشيخ سيد المرصفي.
وانتقلنا إلى التعليم العالي، وكتب الله لي على خلاف ما كنت أريد أن أدخل مدرسة المعلمين، فكان مرشدي فيها وأستاذي زميلي وصديقي الأستاذ عبد الرحمن شكري، فقد كان شاعرًا ناضجًا ذا مذهب في الأدب يدعو إليه، وكنت أنا مبتدئًا فصرفني عن البهاء زهير وابن الفارض وابن نباتة، ومَن إلى هؤلاء، ووجهني إلى الأدب الجاهلي والأموي والعباسي، ودلني على ما ينبغي أن أقرأ من الأدب الغربي، ثم يضيف المازني فيقول: وكان حديثنا إذ نجتمع في الأدب والكتب، وكانت رسائلنا التي نتبادلها في الصيف حين نتفرق، لا تدور إلى على ما نقرأ.
وكان أساتذتنا في مدرسة المعلمين، يحثوننا على التحصيل، وييسرون لنا أسبابه ما وسعهم ذلك، فلما تركنا المدرسة وفرغنا من الطلب الرسمي كنا قد عرفنا أمهات الكتب في الأدبين العربي والإنجليزي، وغيرهما أيضًا من الآداب، ودرسنا أكثر شعراء العرب والغرب، وكان لكل منا مكتبته الخاصة المتخيرة، ويشير المازني إلى تميز شكري والعقاد عليه في القراءة والتحصيل، فيقول: وأنا مع ذلك أقل الثلاثة -العقاد وشكري وهو طبعًا- اطلاعًا وصبرًا على التحصيل، يقول: وأدع للقارئ أن يتصور مبلغ شرههم العقلي، ولا خوف من المبالغة هنا، فإن كل ظني دون الحقيقة التي أعرفها عنهما، وأنا أجتر كالخروف ولكنهم يقضمان قضم الأسود، ويهضمان كالنعامة فليتني مثلهما.
وكما أشاد المازني بتحصيل زميليه العقاد وشكري، أشاد العقاد كذلك بتحصيل المازني، وأثنى عليه ثناءً كبيرًا، وذكر أن المازني كان صاحب مقدرة فذة في الترجمة، وقال: إنني لا أعرف فيما عرفت من ترجمات النظم والنثر أديبًا واحدًا، يفوق المازني في الترجمة من لغة إلى لغة، ويملك هذه القدرة شعرًا، كما يملكها نثرًا، ويجيد منها اللفظ كما يجيد المعنى والنسق والطلاوة.
وعن تحصيل شكري قال العقاد: عرفت عبد الرحمن شكري قبل خمس وأربعين سنة، فلم أعرف قبله ولا بعده أحدًا من شعرائنا وكُتَّابنا أوسع منه اطلاعًا على أدب اللغة العربية، وأدب اللغة الإنجليزية، وما يترجم إليها من اللغات الأخرى، ولا أذكر أنني حدثته عن كتاب قرأته، إلا وجدت عنده علمًا به وإحاطة بخير ما فيه، وكان يحدثنا أحيانًا عن كتب لم نقرأها، ولم نلتفت إليها، ولا سيما كتب القصة والتاريخ.
وقد كان مع سعة اطلاعه صادق الملاحظة، نافذ الفطنة حسن التخيل، سريع التمييز بين ألوان الكلام، فلا جرم أن تهيأت له ملكة النقد على أوفاها؛ لأنه يطلع على الكثير، ويميز منه ما يستحسنه وما يأباه، فلا يكلفه نقد الأدب غير نظرة في الصفحة والصفحات، يلقي بعدها الكتاب، وقد وزنه وزنًا لا يتأتى لغيره في الجلسات الطوال، لم يسبقه أحد فيما أذكر إلى تطبيق البلاغة النفسية السيكولوجية، المستمدة من أدب الغرب على ما يقرأه من أدب الفحول.
هذه الصداقة وهذا التنوع الثقافي، وهذا النهم المعرفي كل هذا كان له أثر كبير في نتاج هؤلاء الثلاثة الإبداعي والنقدي، وأمر آخر كان له أثر كبير في نفوسهم، وهو الأمر الذي أدى إلى ما ظهر في أدبهم أحيانًا من ثورة، وفي نقدهم في كثير من الأحيان من عنف، هذا الأمر هو الظروف السياسية والاجتماعية، التي عاشها الثلاثة، وأهم عامل في هذه الظروف هو الحرب العالمية التي أشار العقاد إليها، وذكر أن هذه الفترة فترة الحرب العالمية، كانت في حياة المازني نقطة تحول، ومحنة عقل وسريرة.
وذكر العقاد أنها شملتهم جميعًا بهذه المحنة الأليمة، فنفضها شكري عنه بقصائده العابثة في ديوانيه: الثالث والرابع، ونفضتها عني بقصيدتي التي نظمتها على نمط الملاحم، وسميتها ترجمة شيطان، وراضها المازني كما راضته، فاستراح إليها غاية ما استطاع إليه من راحة، وعالجها يومئذ ولم يزل يعالجها بعد ذلك بنزعة الاستخفاف وقلة الاكتراث.
ظروف هذه الفترة -فترة الحرب العالمية إذًا التي أشار إليها العقاد- كانت سببًا في ما أحس به كثير من الشباب، ومنهم هؤلاء الثلاثة، وقد كانوا مرهفي الحس والذوق، فأحسوا باليأس والتمزق السياسي والاجتماعي، وتعرضوا للعمل فترات وللتعطل عن العمل، وترك الوظيفة فترات فتحولت الحياة في نظرهم إلى وهم زائف، واهتزت أمامهم القيم، وتزعزعت الحقائق وملأ الشك نفوسهم في كثير من الأحيان، فظهر في أدبهم كثير من الشك وكثير من التمرد، وظهر في نقدهم أيضًا كثير من العنف والثورة؛ لأنهم أرادوا أن يحققوا أنفسهم، وأن يفتحوا أمام مواهبهم الطريق؛ لتظهر ولتؤثر.
وكان الشعراء والكتاب المحافظون هم الذين يتربعون على قمة المجد الأدبي، فلجأوا في نقدهم لهؤلاء المحافظين إلى نقد عنيف، يوصف في بعض المؤلفات التي أرخت لهذه المرحلة بأنه يمثل مرحلة الثورة في النقد الأدبي، وهذه الثورة النفسية أعطت لأدبهم، ولنقدهم أيضًا مسحة وجدانية نابضة، فامتزجت الآراء النقدية العميقة عندهم بالصور الشعرية، والخواطر الذاتية، كما اختلطت النظرات النقدية عندهم بالتعبيرات الوجدانية عن محنة السرائر، وقلق النفوس.
وقد نشر كل من الثلاثة آراءه النقدية في الصحف والمجلات، وجمعت هذه الآراء بعد ذلك في كتب، ونشروا كذلك آراءهم في مقدمات الدواوين، التي كتبها بعضهم لبعض، كأن يكتب العقاد مقدمة لديوان واحد من صديقيه أو زميليه، أو مقدمة لديوانه هو، والمقدمات التي كتبها كذلك شكري لدواوينه، وهذه الآراء عند الثلاثة متشابهة؛ لأنهم متفقون في النظر إلى غايات الأدب ووسائطه.
ومن هذا الاتفاق انطلق الثلاثة يكتبون شعرهم الجديد، كما انطلق الثلاثة في نظراتهم إلى الأدب، الذي يبدعه المحافظون؛ ولهذا على الرغم من أن كتاب الديوان لم يكتب فيه شكري كلمة، وأنه هوجم فيه من صديقه القديم المازني، فإن الآراء النقدية في خلاصتها، التي يتضمنها هذا الكتاب، لا تبعد عن الآراء النقدية، التي كان يؤمن بها شكري، ومن هنا دأب كثير من الدارسين على تسمية هؤلاء الثلاثة بجماعة الديوان.