التعريفات المختلفة لخبر الآحاد، وصلتها بالمتواتر، وأقسامه، وآراء العلماء فيما يفيده خبر الواحد والأدلة على ذلك
التعريفات المختلفة لخبر الآحاد، وصلتها بالمتواتر:
خبر الواحد في اللغة: ما يلقيه الواحد، يعني: ما يرويه الفرد الواحد، أو الشخص الواحد، والعلماء يعنوِنون بأخبار الآحاد، والأخبار جمع خبر، والآحاد جمع واحد، وخبر الواحد، يعني لغةً: ما يلقيه الواحد.
خبر الواحد في الاصطلاح:
لم تتفق كلمة العلماء على تعريفٍ واحدٍ لخبر الواحد، إلا أنه يجمعهم معنى واحد مشترك وهم يعرِّفونه فيقولون مثلًا: خبر الواحد هو:
- الذي لم يجمع شروط التواتر.
- ما لم تجتمع فيه شروط المتواتر.
- ما كان من الأخبار غير منتهٍ إلى حد التواتر.
- ما روي من طريق لا تحيل العادة توافق رواته على الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقولهم: “لا تحيل العادة” قيد في التعريف يخرج به المتواتر؛ لأنَّ العادة تحيل اتفاق رواته على الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما مثلنا عند تعريفنا للخبر المتواتر.
هذه بعض تعريفات العلماء لخبر الواحد اصطلاحًا، وكما يبدو أنَّها تعريفات -وإن اختلفت اختلافًا بسيطًا في الألفاظ- يفيد مجموعها معنًى واحدًا، وهو أنَّ خبر الواحد ما لم تجتمع فيه شروط المتواتر.
إذن نستطيع أن نقرر الآن أنَّ خبر الواحد هو: ما انحط عن حد التواتر. أو هو كل خبر فقد شروط التواتر كلها.
2. أقسام خبر الآحاد:
يقسم العلماء خبر الواحد إلى أقسام ثلاثة:
القسم الأول: المشهور: الذي يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم بطريق الآحاد، واشتهر في عصر التابعين أو تابعي التابعين، وقيل: الخبر المشهور هو الذي رواه ثلاثة، ولا بد أن ننبه إلى أنَّ الحديث المشهور فيه الصحيح، وفيه الحسن وفيه الضعيف.
القسم الثاني: الغريب: الذي تفرد راويه بروايته، أو هو ما يتفرد بروايته شخص واحد في أي موضع وقع التفرد به من السند، والحديث الغريب فيه أيضًا: الصحيح، والحسن، والضعيف، غير أن الغالب فيه هو الضعف، ويندر فيه الصحيح.
الحديث الغريب نوعان:
غريب متن وإسناد: يعني: الغرابة فيه في المتن والإسناد، والمتن هو: ألفاظ النبي صلى الله عليه وسلم نص الحديث، هذا يسميه العلماء متنًا، والطريق الموصل إلى هذا المتن يسميه العلماء السند أو الإسناد، فالحديث الغريب قد يكون غريبًا متنًا وإسنادًا وهو الذي انفرد بمتنه وإسناده واحد.
غريب إسناد فقط: كالحديث الذي متنه معروف مروي عن جماعة من الصحابة إذا تفرد بعضهم بروايته عن صحابي آخر، فهو غريب من هذا الوجه ومتنه غير غريب، وهو الذي يقول في الترمذي: غريب من هذا الوجه، ومقصوده أنه غريب إسناد فقط.
القسم الثالث: العزيز: الذي لا يرويه أقل من اثنين عن اثنين، قال ابن حجر -رحمه الله: وسمي بذلك إما لقلة وجوده، وإما لكونه عز -أي: قوي بمجيئه من طريق آخر. وقال بعض أهل العلم في تعريفه: هو الذي يرويه جماعة، عن جماعة غير أن عددها في بعض الطبقات يكون اثنين فقط.
مثال الحديث العزيز: ما رواه الشيخان من حديث أنس، والبخاري من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين)) فهذا الحديث رواه عن أنس: قتادة، وعبد العزيز بن صهيب، ورواه عن قتادة: شعبة، وسعيد، ورواه عن عبد العزيز: إسماعيل بن عُلية، وعبد الوارث، ورواه عن كلٍّ جماعة.
3. آراء العلماء فيما يفيده خبر الواحد:
ذكرنا -عند كلامنا على الحديث المتواتر- أنَّ الخبر المتواتر يفيد العلم، فما الذي يفيده خبر الواحد؟
هذه مسألة بدأ بها ابن قدامة -رحمه الله- بعد تعريفه للحديث أو خبر الواحد، وإذا كان علماء الأمة -كما سبق وقررنا- قد اتفقوا على أنَّ الخبر المتواتر يفيد العلم، فقد تباينت أقوالهم وتشعبت آرائهم بالنسبة لما يفيده خبر الواحد العدل، غير أنَّه يمكن رد أقوالهم في هذه المسألة إلى ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنَّ خبر الواحد يفيد الظن مطلقًا، ومعنى مطلقًا يعني: سواء اقترنت به قرينة أو لا، فغاية ما يفيده خبر الواحد هو الظن، وهذا القول قول أكثر العلماء، والأظهر من قول الإمام أحمد -رحمه الله.
استدل أصحاب هذا القول بأدلة كثيرة:
الدليل الأول: كما قال ابن قدامة -رحمه الله: إننا نعلم ضرورةً أننا لا نصدق كل خبر نسمعه، بمعنى لو أفاد خبر الواحد العلم؛ لصدقنا كل خبر نسمعه، لكن لو سألتُ هل نحن نصدق كل خبر نسمعه؟ الجواب: لا، لا نصدق كل خبر نسمعه، إذن النتيجة ما هي؟ النتيجة أن خبر الواحد لا يفيد العلم، إذ لو أفاد العلم لصدقنا كل خبر نسمعه، لكننا لا نصدق كل خبر نسمعه، وإنما نتثبت في أخبار كثيرة.
الدليل الثاني: لو كان خبر الواحد يفيد العلم؛ لما وجدنا خبرين متعارضين، لماذا؟ لأن ما يفيد العلم لا يتعارض إذا كان هذا الخبر يفيد العلم، وهذا الخبر يفيد العلم فلا يقع التعارض بينهما أبدًا، هذا مقرر عند علماء الأصول في باب التعارض والتراجيح.
الدليل الثالث: لو كان خبر الواحد يفيد العلم؛ لجاز نسخ القرآن والسنة المتواترة به، يعني: بخبر الواحد، وهنا سؤال: هل خبر الواحد ينسخ القرآن وينسخ النسخة المتواترة؟ نقول: لا، هذا ما قررناه عند دراستنا للنسخ، لماذا؟ لأنَّ خبر الواحد أقل رتبة وأقل درجة من القرآن ومن السنة المتواترة، ولو كان خبر الواحد يفيد العلم؛ لجاز نسخ القرآن والسنة المتواترة به عند التعارض، وعند تعذر الجمع، وعند تعذر الترجيح، لكونه بمنزلة القرآن والسنة المتواترة في إفادة العلم. لكن نسخ القرآن والسنة المتواترة بخبر الواحد لا يجوز لضعفه عنهما فدل ذلك على أنه لا يفيد العلم.
الدليل الرابع: لو أفاد خبر الواحد العلم لجاز الحكم بشاهدٍ واحد، كان القاضي يكتفي بشاهد واحد، أو الحاكم يكتفي بشاهد واحد، ولم يحتج معه إلى شاهد آخر، ولا إلى يمين عند عدمه، فالشاهد إذا لم يوجد غيره ضممنا إليه اليمين، ولو كان خبر الواحد يفيد العلم لجاز للحاكم أن يحكم بشاهد واحد، ولم يحتج معه إلى شاهد آخر، ولا إلى يمين عند عدمه، لكن الحكم بشهادة واحد بمجرده لا يجوز، وذلك يدل على أنه لا يفيد العلم.
الدليل الخامس: ذكره ابن قدامة -رحمه الله- وحاصله لو كان خبر الواحد يوجب العلم لما اعتبر فيه صفات المخبر من الإسلام والعدالة وغيرهما، كما لم يعتبر ذلك في أخبار التواتر، لكننا نشترط في خبر الواحد أن يكون الراوي له مسلمًا، وأن يكون عدلًا، وأن يكون كذا، وأن يكون كذا، الشروط المذكورة. فهذا يدل على أن خبر الواحد لا يفيد العلم.
الدليل السادس: لو كان خبر الواحد يوجب العلم لأوجب خبر كل واحد، ولو كان كذلك؛ لوجب أن يقع العلم بخبر من يدعي النبوة، إذا قلنا: خبر الواحد يفيد العلم فجاء شخص وادعى أنه نبي على قولكم أنه يفيد العلم يلزمنا أن نصدق مدعي النبوة.
الدليل السابع: لو كان يوجب العلم لوجب إذا عارضه خبر متواتر أن يتعارضا، فلو تعارض خبر الواحد مع خبر متواتر؛ لكان التعارض حقيقي، وحاولنا دفع هذا التعارض، لكن من المقرر أنه لو وجد خبر واحد يعارض خبر المتواتر قدمنا خبر المتواتر؛ لأن الخبر المتواتر يفيد العلم، أما خبر الآحاد فإنه يفيد الظن، فلو كان خبر الواحد يوجب العلم لوجب إذا عارضه خبر متواتر أن يتعارضا، ولما ثبت أنه يقدم عليه المتواتر دل على أنه غير موجب للعلم.
الدليل الثامن: يجوز السهو والخطأ والكذب على الواحد فيما نقله، وهذا كلام عقلي وكلام صحيح، وكلام مسلم، فإن الواحد إذا ما نقل خبرًا؛ فنحن نجوز عليه السهو، ونجوز عليه الخطأ، ونجوز عليه الكذب، بخلاف ما لو نقل الخبر عدد كبير تحيل العادة تواطؤهم على الكذب. فلما كان السهو والخطأ والكذب، لما كانت هذه الأمور جائزة على الواحد فيما ينقله من أخبار؛ دل ذلك على أن خبر الواحد لا يفيد العلم، وإنما يفيد الظن.
هذه مجموعة من الأدلة التي استدل بها أصحاب القول الأول على أن خبر الواحد لا يفيد العلم، وإنما يفيد الظن، وهي أظهر الروايتين عند الإمام أحمد وقول أكثر العلماء.
القول الثاني: خبر الواحد يفيد العلم بنفسه، إذن يكون مثله مثل المتواتر تمامًا بتمام. وهذا القول لبعض المحدثين وبعض الظاهرية، وقد انتصر لهذا القول ابن القيم -رحمه الله- وهذا القول هو الرواية الثانية عن الإمام أحمد لأننا ذكرنا أن للإمام أحمد في المسألة روايتين، الأظهر منهما أنه مع أكثر العلماء في أنه لا يفيد العلم، والرواية الثانية عن الإمام أحمد توافق القول الثاني وهو لبعض المحدثين وبعض الظاهرية وانتصر له ابن القيم، ويرون أن خبر الواحد يفيد العلم بنفسه، فقد روي عن الإمام أحمد أنه قال في أحاديث الرؤية -يعني: رؤية الله تبارك وتعالى: “نعلم أنها حق ونقطع على العلم بها” يعني: في القيامة طبعًا.
وقد نسب بعض العلماء إلى الإمام أحمد -رحمه الله- أنه يقول بحصول العلم بخبر الواحد في كل وقت -وإن لم يكن ثمة قرينة.
حاصل الأمر:
نستطيع أن تستخلص من كلام ابن قدامة أن الإمام أحمد يقول: إن خبر الواحد يفيد العلم لو توفرت فيه الأمور التالية:
الأمر الأول: أن يكون رواته كثيرين، يعني: لو كثر رواة خبر الواحد فإنه يفيد العلم.
الأمر الثاني: أنَّ تتلقاه الأمة بالقبول، يعني: خبر الواحد إذا ما تلقته الأمة بالقبول؛ فإنه يفيد العلم، لماذا؟ لأنَّ الأمة لا تجتمع على خطأ، ولأن قبول الأمة لخبر الواحد يدل على أن الحجة قد قامت عندهم بصحته، فهم لا يقبلونه إلا وقد صح عندهم حيث إنَّ العادة جرت على أنَّ خبر الواحد الذي لم تقم الحجة به لا تجتمع الأمة على قبوله، وإنما يقبله بعضها دون الآخرين.
إذن القول الثاني في مسألتنا: أن خبر الواحد يفيد العلم، وهو مذهب بعض المحدثين، وبعض الظاهرية، والرواية الثانية عن الإمام أحمد، وهناك احتمالات استخرجت من كلام الإمام أحمد. وظاهر أن الإمام أحمد لا يرى إفادة خبر الواحد العلم مطلقًا، وإنَّما يرى ذلك كما جاء في الرواية الثانية في أخبار مخصوصة احتفت بها قرائن، أو بشروط مخصوصة.
3. أدلة إفادة خبر الواحد العلم:
الدليل الأول: أن المسلمين لما أخبرهم الواحد وهم بقباء في صلاة الصبح: أن القبلة قد حولت إلى الكعبة، قبلوا خبره. وهذا الخبر أشرنا إليه عند كلامنا عن النسخ مرات عديدة، هذا هو الدليل الأول.
الدليل الثاني: أن الله تعالى قال في القرآن: {يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيّنُوَاْ} [الحجرات: 6] وفي قراءة حمزة والكسائي “فتثبتوا” يعني: من التثبت. وهذا يدل على أن خبر غير الفاسق مقبول ولا يتثبت منه؛ فهو يفيد العلم. ولو كان خبر العدل لا يفيد العلم؛ لأمر الله تعالى بالتثبت منه، لكن نص الآية الكريمة يأمرنا أن نتثبت إذا جاء خبر الفاسق لا خبر العدل: {يَأَيّهَا الّذِينَ آمَنُوَاْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيّنُوَاْ} وعليه إن جاءنا عدل بنبأ نتبين؟ لا نتبين، وطالما لا نتبين معناه: أن خبر العدل هذا يفيد العلم، هذا الدليل الثاني.
الدليل الثالث: كما هو مذهب بعض المحدثين، وبعض أهل الظاهر، والرواية الثانية عن الإمام أحمد: قالوا: قال الله تعالى كما في “سورة التوبة”: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلّ فِرْقَةٍ مّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لّيَتَفَقّهُواْ فِي الدّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوَاْ إِلَيْهِمْ لَعَلّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122]، ووجه الدلالة من الآية أن الطائفة تقع على الواحد فما فوقه، فأخبر الله تعالى أن الطائفة تنذر قومهم إذا رجعوا إليهم، والإنذار هو الإعلام بما يفيد العلم. هذا هو الدليل الثالث على أن خبر الواحد يفيد العلم.
الدليل الرابع: قول الله تعالى: {يَـَأَيّهَا الرّسُولُ بَلّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رّبّكَ وَإِن لّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67] وقال سبحانه: {وَمَا عَلَى الرّسُولِ إِلاّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ} [النور: 54] وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري وأحمد: ((بلغوا عني ولو آية)) ومعلوم أنَّ البلاغ هو الذي تقوم به الحجة على المبلغ، ويحصل به العلم، فلو كان خبر الواحد لا يحصل به العلم، لم يقع به التبليغ الذي تقوم به حجة الله على عبده؛ فإن الحجة إنما تقوم بما يحصل به العلم.
وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم وهذا من أقوى الأدلة على إفادة خبر الواحد للعلم على رأي بعض الظاهرية وبعض أهل الحديث: كان الرسول صلى الله عليه وسلم يرسل الواحد من أصحابه يبلغ عنه؛ فهو أرسل معاذًا إلى اليمن، وأرسل عليًّا، وأرسل فلانًا وفلانًا وفلان، فتقوم الحجة على من بلغه.
وكذلك قامت حجته علينا بما بلغنا العدول الثقات من أقواله، وأفعاله، وسننه صلى الله عليه وسلم ولو لم يفد العلم -يعني: خبر الواحد- لم تقم علينا بذلك حجة.
الدليل الخامس: لو لم يفد خبر الواحد العلم لم يثبت به الصحابة التحليل، والتحريم، والإباحة، والفروض، ويجعل ذلك دينا يدان به في الأرض إلى آخر الدهر، لكن الصحابة أثبتوا بأخبار الآحاد أحكامًا تكليفية كثيرة، من تحليل، وتحريم، وإباحة، وفرض، وندب… ونحو ذلك، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن خبر الواحد يفيد العلم. والوقائع في ذلك كثيرة، وقد سبق ذكرها منها أبو بكر وإعطائه السدس للجدة، وغير ذلك.
الدليل السادس: أنَّ الرسل صلى الله عليه وسلم كانوا يقبلون خبر الواحد ويقطعون بمضمونه، الرسل أنفسهم -صلوات الله عليهم- كانوا يقبلون خبر الواحد، وقبول الرسل والأنبياء لخبر الواحد دليل على أن خبر الواحد يفيد العلم، والأمثلة على ذلك كثيرة: فقد قبل موسى عليه السلام خبر الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى قائلًا له -كما حكى القرآن: {إِنّ الْمَلأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنّي لَكَ مِنَ النّاصِحِينَ} [القصص: 20] فجزم صلى الله عليه وسلم بخبر هذا الرجل وخرج هاربًا من المدينة.
ورسل الله -صلوات الله وسلامه عليهم- لم يرتبوا على تلك الأخبار أحكامها, وهم يجوزون أن تكون كذبًا وغلطًا، وهذا يدل على أنها تفيد العلم في نظرهم.
الدليل السابع: كما هو أصحاب الرأي الثاني: قول الله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] فقد نهى سبحانه عن اتباع غير العلم، وقد أجمعنا على جواز اتباع خبر الواحد في أحكام الشرع، يعني: خبر الواحد هناك إجماع على قبول خبر الواحد في أحكام الشرع.
أما الخلاف هو فيما يفيده خبر الواحد: هل يفيد العلم أو يفيد الظن؟ لكن هناك اتفاق على قبوله في كلا الحالتين والعمل بمقتضاه. وقد أجمعنا على جواز اتباع خبر الواحد في أحكام الشرع ولزوم العمل به، فلو لم يكن خبر الواحد مفيدًا للعلم؛ لكان الإجماع منعقدًا على مخالفة النص، وهو ممتنع، سيأتي -إن شاء الله- عند دراستنا للدليل الثالث من أدلة التشريع أن الإجماع لا بد أن يكون له مستند، وأن الإجماع المخالف للنص غير معتبر وغير معتدٍّ به؛ لذلك يقولون: لو لم يكن خبر الواحد مفيدًا للعلم؛ لكان الإجماع منعقدًا على مخالفة النص وهو ممتنع.
الدليل الثامن: لو لم يفد خبر الواحد العلم؛ لما جاز العمل به. وهذا كلام جيد، وكلام معقول لكن العمل به ثابت عند الجمهور -كما قلنا لكم- مما يدل على أنه يفيد العلم.
الدليل التاسع: قول الله تعالى: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذّكْرِ إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] ووجه الاستدلال من هذه الآية: أنَّ الله تعالى أمر من لم يعلم أن يسأل أهل الذكر، وهم أولو الكتاب والعلم، ولولا أن أخبارهم تفيد العلم لم يأمر بسؤال من يفيد خبره علمًا، وهو سبحانه لم يقل: سلوا عدد التواتر، بل أمر بسؤال أهل الذكر مطلقًا، يعني: الذي ينظر في الآية يجدها تقول: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذّكْرِ} ولم يقل رب العالمين: فاسألوا عدد التواتر، أو اسألوا من توفرت فيهم شروط التواتر، وإنما قال: {فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذّكْرِ} مطلقًا، وأهل الذكر مطلقًا يصح أن يكون: أخبار آحاد، وأخبار متواترة، فلو كان المسئول واحدًا؛ لكان سؤاله وجوابه كافيًا، هذا ظاهر الآية، مما يدل على أن خبره يفيد العلم.
الرد على أصحاب القول الثاني:
نظرًا لأنَّ هذا القول ليس هو الراجح رده كثير من أهل العلم، منهم أبو حامد الغزالي -رحمه الله- في (المستصفى) فقال -يعني: ردًّا على أصحاب القول الثاني: وما حكي عن المحدثين من أن ذلك يوجب العلم، فلعلهم أرادوا أنه يفيد العلم بوجوب العمل. يعني: هذه الأدلة تفيد العلم بوجوب العمل بخبر الواحد، لا أن خبر الواحد يفيد العلم؛ إذ يسمى الظن علمًا؛ ولهذا قال بعضهم: يورث العلم الظاهر، والعلم ليس له ظاهر وباطن، وإنما هو الظن، ولا تمسك لهم في قوله تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنّ مُؤْمِنَاتٍ} [الممتحنة: 10] وأنه أراد الظاهر؛ لأن المراد به العلم الحقيقي، بكلمة الشهادة التي هي ظاهر الإيمان، دون الباطن الذي لم يكلف به. والإيمان باللسان يسمى إيمانًا مجازًا.
قال: ولا تمسك لهم في قوله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] وأن الخبر لو لم يفد العلم لما جاز العمل به؛ لأن المراد بالآية منع الشاهد عن جزم الشهادة إلا بما يتحقق. يعني: الشاهد بشيء لا يجزم بالشهادة إلا إذا كان متحققًا، هذا معنى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} كما يفهم أبو حامد الغزالي. ولعل هذا يؤيده ما ورد: على مثل الشمس فاشهد أو دع.
القول الثالث: خبرُ الواحد يفيد العلم إذا انضمت إليه قرينة، وهذا قول النظام، واختاره الرازي، والآمدي، وابن الحاجب، وابن السبكي.. وغيرهم كما سبق وأشرت. وفي هذا يقول الرازي -رحمه الله- في كتابه (المحصول):
“والمختار -يعني: في مسألة: أيفيد الخبر الواحد العلم أو الظن؟- أن القرينة قد تفيد العلم -يعني: خبر الواحد يفيد العلم إذا ما احتفت به قرينة- وبالجملة -والكلام للرازي- فكل من استقرأ العرف عرف أن مستند اليقين في الأخبار ليس إلا القرائن؛ فثبت أن الذي قاله النّظّام حقٌّ”. انتهى كلام الرازي.
وقال الحافظ ابن حجر -رحمه الله: “وقد يقع فيها ما يفيد العلم النظري بالقرائن على المختار”.
الترجيح:
الذي تستريح إليه النفس وتركن إليه هو القول الأول، القائل: بأن خبر الواحد العدل يفيد الظن؛ إذ لا يعقل أبدًا أن يفيد العلم كالمتواتر، وإلا وقف أمامه وعارضه، ولم يقدم المتواتر عليه، لكننا نقدم المتواتر على الآحاد؛ لذلك نرى العلماء الذين كتبوا في تعارض الأدلة يقولون: إن من شروط التعارض أن يتساوى الدليلان في القوة؛ وذلك حتى يتحقق التقابل والتعارض؛ ومن ثَمّ فلا تعارض بين دليلين تختلف قوتهما من ناحية الدليل نفسه كالمتواتر والآحاد؛ وذلك لأن التعارض فرع التماثل، ولا تماثل بينهما.