التعريف بأحمد زكي أبي شادي، وأهم آرائه في الشعر
التعريف بأحمد زكي أبي شادي:
ولد الشاعر أحمد زكي أبو شادي في 9/2/1892 بحي عابدين في القاهرة، وكان أبوه محمد أبو شادي محاميًا ذائع الصيت، وكان يشغل منصب نقيب المحامين، وكان عضوًا في مجلس النواب، وكان هذا الوالد قد حصل قسطًا من التعليم في الأزهر، لكنه تركه واشتغل بالمحاماة، ثم اشتغل بالصحافة، وأصدر مجلة أسبوعية أدبية باسم: “الإمام”، وأخرج كذلك جريدة يومية أسماها: “الظاهر”. ومن خلال العمل بالمحاماة والصحافة قدم محمد أبو شادي خدمات جليلة للحياة الوطنية في عصره، وكان زميلًا لمصطفى كامل، وسعد زغلول، ورائدًا من رواد الوطنية والأدب. أما والدة الشاعر والناقد أحمد زكي أبو شادي، فهي السيدة أمينة نجيب، شقيقة الشاعر الوطني مصطفى نجيب، زميل مصطفى كامل أيضًا في الكفاح الوطني. وكانت هذه الأم شاعرة، كما كان الأب شاعرًا كذلك، وكان خال أحمد زكي أبي شادي شاعرًا أيضًا. إذن ولد أحمد زكي أبو شادي، ونشأ في بيئة أدبية ثقافية وطنية.
تعلم أحمد زكي أبو شادي تعليمه الأولي في القاهرة، ثم التحق بمدرسة الطب، ومكث فيها سنة واحدة صادفته في أثنائها أزمة عاطفية حادة، سافر بعدها إلى إنجلترا وظل بها من سنة 1912 إلى سنة 1922، أي: قضى فيها عشر سنوات.
وأتم أحمد زكي أبو شادي دراسة الطب، وكانت اهتماماته العلمية، والثقافية، والأدبية متنوعة، وفي عمله الوظيفي تنقل بين القاهرة، والإسكندرية، والسويس، وبورسعيد. وفي سنة 1946 هاجر إلى أمريكا واستقر بها حتى توفي في 12/4/1955.
إذن عاش أحمد زكي أبو شادي فترة من عمره في مصر، وفترة في إنجلترا، ثم عاد إلى مصر وعاش فيها مرة ثانية من سنة 1922 إلى 1946، ثم الفترة التي قضاها في أمريكا حتى وفاته.
هذا الترحل، وهذا التنقل بين بيئات مختلفة، والتخصص العلمي، والثقافة التي حصلها الشاعر من هوايته للقراءة في العلوم المختلفة، بالإضافة إلى فطرته الأدبية، وسليقته الشعرية، ونشأته التي أشرت إليها من قبل، في وسط ثقافي أدبي وطني، كل هذه روافد غذت شاعرية أحمد زكي أبي شادي، وغذت رؤيته النقدية، وجعلته صاحب جهد كبير، ونتاج غزير ومتنوع. شمل هذا النتاج العديد من الدواوين الشعرية، والعديد من الكتب والدراسات العلمية والأدبية، والمقالات الصحفية، وكل ذلك أهله لأن يقود مرحلة أدبية أو جماعة أدبية، وأن يؤسس لها مجلة، هي: “مجلة أبوللو”. هذه المجلة التي كان لها أثر كبير في الحياة الأدبية والنقدية في مصر، وفي العالم العربي أيضًا.
أهم آراء أحمد زكي أبي شادي في الشعر:
أما آراء أحمد زكي أبي شادي في الشعر، وتوجيهه: فإن ديوانه: “الشفق الباكي” تضمن الكثير من القصائد، والعديد من المقالات التي تدل على الآراء التي كان يراها أحمد زكي أبو شادي أساسًا لدعوته التجديدية، ووجهته النقدية.
وديوان “الشفق الباكي” ديوان كبير الحجم، وكما يقول الدكتور عبد العزيز الدسوقي: لعله أول ديوان في مصر تصل صفحاته إلى هذا الحد. فقد بلغت ألفًا وثلاثمائة وستًّا وثلاثين صفحة. وقد بدأ الديوان بمقدمة لناشره الأستاذ حسن صالح الجداوي، ثم جاء بعد ذلك بحث فلسفي عن الشعر والشاعر لصاحب الديوان: لأحمد زكي أبي شادي نفسه، ثم بحث آخر عنوانه: “هدم الأدب وبناؤه” لناشر الديوان، ثم يبدأ شعر الديوان من صفحة: 87، وينتهي الشعر عند صفحة: 1120، لتبدأ مجموعة أخرى من النورات، والملاحظات، والمقالات التي تجمع كلها على الإشادة بشاعرية أبي شادي، وتتلمس الأسباب إلى ارتفاع مستواه الفني. وكتب هذه الملاحظات والآراء الأساتذة: أحمد الشايب، ومحمد سعيد إبراهيم، وسلامة موسى.
وهذا الديوان موسوعة شعرية تجمع بين دفتيها كل المستويات الشعرية التي كان أبو شادي يمثلها، وتعكس صورًا كثيرة لحياته وآرائه ونظراته في الحياة، والأحياء، والشعر، والوطنية، والحب، والسلام، والإنسانية، والعروبة، والكفاح، وكل ما يخطر على البال من قيم وأفكار. هذا ما قاله الدكتور عبد العزيز الدسوقي عن ديوان “الشفق الباكي”.
وأهم الآراء التي يراها أبو شادي في الشعر: تتمثل فيما يلي:
أولا: يرى أبو شادي: أن الشعر تعبير الحنان بين الحواس والطبيعة، فهو لغة الجاذبية، وإن تنوع بيانها. هو أوحدي الأصل في المنشأ والغاية، وصفًا، وغزلًا، ومداعبة، ورثاءً، ووعظًا، وقصصًا، وتمثيلًا، وفلسفة، وتصويرًا. فإن مبعثه، أي: مبعث الشعر، والتفاعل بين الحواس، ومؤثرات الطبيعة، وغايته غاية الشعر، العزاء والاحتماء بهذه الطبيعة.
ثانيًا: يرى أبو شادي: أن الغرض من الشعر هو درس الحياة، وتحميلها، وبحثها، وإذاعة خيرها، ومكافحة شرها، وهو غرض نبيل جامع، وإن تكيف بصور شتى. فقد يظهر في لباس الإنسانية العامة، أو في لباس الجامعة القومية، أو الجامعة الدينية، وأن يكون رسول السلام، ونصير الإصلاح.
ثالثًا: يرى أبو شادي: أن الشاعر رسول قومه؛ ولهذا يتحتم عليه أن يكون بيانه من بيانهم، ومهما تأنق في تعبيره فيجب ألا يرتفع صوته فوق مستوى آلامهم ومداركهم، وإلا كان غريبًا عنهم. كما يرى: أن الشاعر عليه أن يلتزم عقيدة مقدسة، وأن يكون نبيًّا يعيش لنوعه، لا لذاته. طبعًا، “نبيًّا”: تعبير مجازي، أي: أن يعيش كنبي لنوعه، يخدم قومه لا لذاته.
ومن المبادئ التي حاول أبو شادي أن يبثها وينشرها فكرة التعاون الأدبي، واحتضان المواهب الناشئة، والأخذ بيدها، وفكرة الإخاء الأدبي. وكان يرى أن النهضات الأدبية الحقيقية لا بد أن تكون وليدة التعاون والتآزر.
الشاعر عنده: موسيقي حساس، بعيد النظر، قوي التعبير، مطبوع، يتأثر مزاجه بثقافته وبيئته، وعالمه تأثيرًا عظيمًا، فيلهمه كل ذلك ما يلهمه من إسعاد لنوعه، في أوصافه، وأخيلته، وأحلامه، وحينئذ يكون الشعر محاولة لجعل الحياة منسجمة.
الفن عنده: هو البلاغة الرمزية الجميلة التي تفسح المجال أمام التأمل، وتنقل الإنسان إلى أجواء النفوس العبقرية؛ حيث ترى في الأمور الدقيقة أشياء عظيمة، وترى في الحرية مبتغاها. من هذه المبادئ أيضًا: بث الروح الخلقية المتفائلة. ومنها أيضا:ً استيعاب العلم، وإخضاع الشعر له، وهو يرى أن هذا النوع من الشعر العلمي الذي صار جزءًا من عاطفته وإيمانه، هو غير مسبوق إليه، وهو يتفق مع ثقافة هذا الجيل. يشير أبو شادي بذلك إلى شعره الذي ينحو فيه منحى العلم، يتحدث فيه عن نظريات علمية وأفكار علمية؛ فهو يرى أن استيعاب العلم في الشعر أمر ضروري، ويتفق مع ثقافة جيله.
من مبادئه أيضًا التي دعا إليها: التجديد في الشعر، وإدخال قيم فنية جديدة، وتشجيع الشعر المرسل، والشعر الحر، وتنويع الأوزان، والابتداع فيها، وإدخال الشعر القصصي والتمثيلي في أدبنا الحديث. وهذه المبادئ كما قال عنها الناقدون والدارسون: تسبح في مجالات فسيحة متعددة، وتختلط فيها مجموعة من المذاهب الأدبية التي قرأ الشاعر عنها، وتأثر بها، ففيها: ملامح من الرمزية، ومن الواقعية، ومن الرومانسية. ولعل ظروف الحياة وأحداثها، والمراحل التي مرت بها حياة الشاعر، والبيئات المختلفة التي عاش فيها، الثقافة المتنوعة المعالم، والاتجاهات التي ألم بها، لعل ذلك كله هو الذي جعل هذه المبادئ تنتمي إلى عدد من المذاهب المختلفة.
وقد حاول أحمد زكي أبو شادي أن يجعل من شعره تطبيقًا لما دعا إليه، فكان ينشد مثلًا أعلى في الحياة، ويحاول أن يضيف إلى الشعر العربي ألوانا غير مسبوقة، وأساليب جديدة. وله قصيدة عنوانها: “الجديد”، تشتمل على بعض الخطوط العامة التي وضعها لمذهبه في التجديد. يقول الدكتور عبد العزيز الدسوقي عن هذا المذهب: فهو لا يجاري في ألحانه أحدًا، وإنما يغني كل جديد، ويرفض الإثارة، ولا يقول الشعر استجابة لوحي شيطان، أو لإظهار المقدرة اللغوية، أو البراعة الفنية، ولكنه يقول الشعر لهدف جليل، فهو يحمل الحكمة للدنيا، ويصور نعيمها وشقاءها، ويهديها طريقها، وهو لا يسير في الدروب الآهلة للشعراء، وهو لا يَرِدُ المعين الذي وَرَدَهُ أبو العلاء، أو المتنبي، أو شوقي، وإنما يدرس الوجود ويتعمق الحياة، ويسألها الوحي، فتفضي إليه بأسراها، ثم ينطلق كالإعصار يناجي العوالم الجبارة، ويمتزج بالطبيعة، ويهديها صلواته، ويتبتل في محرابها الصوفي، ويسجل مع ذلك أحزان الشعب وأحلامه، وينافح عنه في قوة لا يبالي بضربات البطش. والشعر عنده ليس زخرفًا، ولا عبثًا بيانيًا، ولا مدحًا واغتباطًا بباذخ الألقاب، بل هو نفحة من الشعور، وحكمة وهداية، يخلق الشعب من جديد، ويوحي إليه بكل معاني الرفعة والمجد.
هذه القصيدة التي عنوانها: “الجديد”، يقول فيها أبو شادي راسمًا منهجه، وموضحًا طريقته، وأهدافه من الشعر:
أنا في اللحن لا أجاري هزاره | * | بل أغني جديده أشعاره |
طائر بينما يلذك إسماعًا | * | يهز المشاعر المستثاره |
ثائر يرفض الإثارة فعذرًا | * | كل حي الشعور يأبى إثاره |
ما نظمت القريض طوعًا لشيطان | * | ولا للعلا ولا للمهاره |
بل ولوعًا بها فللشعر أحلامي | * | وللشعر ما أجل اعتباره |
هو روحي أبثه دون ضن | * | لوجود مجددًا أعماره |
يحمل الحكمة السرية للدنيا | * | شفاء ونعمة سياره |
لا يناجي بها حديث ابن سينا | * | بل يناجي العوالم الجباره |
لا يجاري بها معاني المعري | * | للقريض الحزين أو بشاره |
أو عظاة أتى بها المتنبي | * | وابن هاني مداعبًا خماره |
أو أغاريد من ملذات شوقي | * | وتجليه تارة وعثاره |
إنما يدرس الوجود فيسمو | * | لأقاصيه ثم يلقى قراره |
طائفًا بالحياة يسألها الوحي | * | فتفضي به وتلقي ستاره |
باعثًا للوجود من شعره الحر | * | هدايا وفية وابتكاره |
مرجعًا ما استعاره منه موفورًا | * | غنيًّا وقد نمى ما استعاره |
ويحي الطبيعة الشعر نجواه | * | فتزهى وتشتهي تكراره |
ناقشًا عازفًا فما يبخس الوصف | * | حقوقًا مخلدًا آثاره |
سحره مجمع من النقش والعزف | * | فتلقى منقاشه مزماره |
لا يغالي بصبغة أو بلحن | * | كل معنى لديه يعطى وقاره |
عابد الحسن في الطبيعة | * | يهديها صلاة الصوفي بل أذكاره |
والأمير الذي يسجل للشعب | * | نشيد الخلود أو أوتاره |
عارضًا فنه وتاريخه الفخم | * | جمالًا وروعة وجداره |
كاشفًا بأسه القديم ليزجيه | * | إلى منزل يضاهي فخاره |
صارخًا صرخة اليقين فيهتز | * | ضلال ويستبين اندحاره |
لا يبالي برضبة البطش إن هم | * | ولكن يخاف للحق ناره |
يبذل النفس في سخاء لدى الجل | * | ولا يرتضي بها أعذاره |
هذه صورة الجديد من الشعر | * | وفاء وقوة وإماره |
ما يبالي بزخرف في نظام | * | أو يغالي برونق في عباره |
كالربيع الفنان لا ينظم الإزهار | * | لهوًا إذا حبا أزهاره |
أو يضاهي الجنيب يعبث بالفكر | * | وبالحس واللغة والإشاره |
بين مدح وتهنئات وأنواع | * | جنون وسكرة ودعاره |
واحتيال على الأنام | * | وإفساد كأن الرباح منه الخساره |
واغتباط ببالخات من الألقاب | * | في دولة له منهاره |
بل هو الشعر نفحة من شعور | * | وحياة من حكمة أماره |
يخلق الشعب من جديد | * | ويوحي كل معنى إلى العلا لا صغاره |
باعثًا بالنفوس للمثل الأعلى | * | معيدًا أمامها أنواره |
هكذا مذهبي وحسبي تتويجًا | * | يقيني وأن أوفي شعاره |
هذا هو المنهج الذي يريده أحمد زكي أبو شادي للشعر، وهذا هو الجديد الذي يدعو إليه، وهذه هي الغاية التي يؤمن بها، غاية نبيلة رفيعة للشعر. وهذا الذي جاء في هذه القصيدة متسق تمامًا مع المبادئ التي دعا إليها أحمد زكي أبو شادي، والتي آمن بها، وحاول أن يجمع عليها الشعراء الشبان الذين التفوا حوله، وانضووا حتى لواء جماعة أبوللو، واحتضنتهم مجلتها، ونشرت لهم إبداعهم.
وأكثر هذه المبادئ في حقيقتها راجعة إلى ما دعا إليه المجددون، أو جيل المجددين: شكري، والعقاد، والمازني، وكذلك المهجريون فأن يكون الشاعر كالنبي في قومه، وأن يكون للشعر غايات سامية، وأن يكون الشاعر صادقًا في تعبيره عن نفسه وعن الحياة، وصادرًا عن عاطفة صحيحة وفكر صحيح، كل هذا في جوهره من المبادئ التي دعا إليها المجددون قبل أحمد زكي أبي شادي.
ولهذا؛ فإننا سنتوقف مع ناقد آخر من نقاد أبوللو، أو من هذا الجيل، هو الشاعر والأديب والناقد: سيد قطب. وسنرى أن سيد قطب يتأثر تأثرًا كبيرًا بالعقاد في دعواته، وآرائه النقدية، وفي أسلوبه وموضوعاته الشعرية أيضا؛ مما يدل على أن جماعة أبوللو كانت امتدادًا لما سبقها من دعوات تجديدية، أهمها: ما جاء عند مدرسة الجيل الجديد: العقاد، وشكري، والمازني.