Top
Image Alt

التعريف بالسنة وأهميتها في التشريع

  /  التعريف بالسنة وأهميتها في التشريع

التعريف بالسنة وأهميتها في التشريع

السنة في اللغة: عبارة عن الطريقة المعتادة المحافظ عليها التي يتكرر الفعل بموجبها ومنه قوله تعالى: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} [الأحزاب: 62]، وسنة الإنسان طريقته التي يلتزم بها فيما يصدر عنه ويحافظ عليها سواء أكان ذلك فيما يحمد عليه أو يذم.

السنة في اصطلاح الفقهاء: ما كان من العبادات نافلة ليس بواجب. وهذا هو المشهور حتى عند العامة يقولون: فرض وسنة. للظهر أربع ركعات فرض وأربع ركعات سنة، فالسنة في اصطلاح الفقهاء ما يقابل الفرض، ولكن المستفاد من كتب فروع الفقه أن السنة أيضًا تُطلق عند الفقهاء على ما هو مندوب من العبادات وغيرها، وقد تُطلق كلمة السنة في كلام بعض الفقهاء على ما يقابل البدعة؛ فيقال: فلان على سنة إذا عمل وفق عمل النبي -صلى الله عليه وسلم ويقال: فلان على بدعة إذا عمل على خلاف السنة.

السنة في اصطلاح الأصوليين: ما صدر عن النبي -صلى الله عليه وسلم غير القرآن من قول أو فعل أو تقرير. فهي بهذا الاعتبار دليل من أدلة الأحكام ومصدر من مصادر التشريع، والدليل على أن السنة هي المصدر الثاني للتشريع الكتاب والإجماع والمعقول. أما الكتاب فقد دلَّ على أن ما ينطق به النبي -صلى الله عليه وسلم على وجه التشريع مبناه الوحي أي: مصدره الوحي من الله قال تعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3، 4].

فقوله -صلى الله عليه وسلم كالقرآن من جهة أن الاثنين مصدرهما وحي من الله، إلا أن السنة مُوحًى بها بالمعنى فقط؛ أما القرآن فكما سبق في بيان المصدر الأول للدعوة وهو القرآن أن القرآن لفظه ومعناه من الله، أما السنة فمعناها من الله، ولفظها من عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم. وحيث إن القرآن واجب الاتباع لأنه من الله، فكذا أقوال الرسول -صلى الله عليه وسلم واجبة الاتباع لأن معناها من الله أيضًا.

ثانيًا: أعطى الله -تبارك وتعالى- نبيه -صلى الله عليه وسلم وظيفة البيان لمعاني القرآن والشرح لأحكامه المجملة قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، فأحكام القرآن المجملة الذي بيّنها النبي -صلى الله عليه وسلم. قال الله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [النور: 56] لم يبين عدد ركعاتها ولم يبين كيفيتها، لم يبين الأموال التي تجب فيها الزكاة، لم يبين الأنصبة والمقادير، كل ذلك بيَّنه النبي -صلى الله عليه وسلم بأمر الله: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]. فإذا كان كذلك فيكون بيانه -صلى الله عليه وسلم للقرآن متممًا للقرآن، وضروريًّا لاستفادة الحكم الشرعي ومعرفة المطلوب، فدل ذلك على أن السنة مصدر من مصادر الدعوة والتشريع.

ثالثًا: دلَّ على أن السنة مصدر للتشريع، فهناك نصوص كثيرة جدًّا واردة في القرآن تدل بصورة قاطعة على لزوم اتباع السنة، والالتزام بها، واعتبارها مصدرًا للتشريع، واستفادة الأحكام منها، وقد جاءت هذه النصوص دالة على ما ذكرنا بأساليب متنوعة، وصيغ مختلفة، فهي تأمر بطاعة الرسول -صلى الله عليه وسلم وتجعل طاعته طاعة لله، وتأمر برد المتنازع فيه إلى الله وإلى الرسول، أي: إلى كتاب الله وسنة الرسول -صلى الله عليه وسلم وتأمر بأخذ ما يأتينا به الرسول -صلى الله عليه وسلم والابتعاد عما ينهانا عنه، وتصرح ألا إيمان لمن لا يُحكّم رسول الله -صلى الله عليه وسلم فيما يختلف فيه مع غيره، وتقول: إنه لا اختيار لمسلم فيما قضى به رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وتحذر المخالفين لأمره من سوء العاقبة والعذاب الأليم. وهكذا دلَّ القرآن الكريم على وجوب اتباع سنة النبي -صلى الله عليه وسلم.

وكذلك دلَّ الإجماع: فقد اجتمع المسلمون من عهده -صلى الله عليه وسلم إلى اليوم على وجوب الأخذ بالأحكام التي جاءت بها السنة، وضرورة الرجوع إليها لمعرفة الأحكام الشرعية، والعمل بمقتضاها، فما كان الصحابة ولا من جاء بعدهم يفرقون بين حكم ورد في القرآن وبين حكم وردت به السنة، فالجميع عندهم واجب الاتباع؛ لأن المصدر واحد وهو وحي الله -عز وجل-، والوقائع الدالة على إجماعهم كثيرة لا تحصى.

ثالثًا: المعقول فقد ثبت بالدليل القاطع أن محمدًا -صلى الله عليه وسلم رسول الله، ومعنى الرسول هو المبلغ من الله، ومقتضى الإيمان برسالته لزوم طاعته والانقياد لحكمه، وقبول ما يأتي به وبدون ذلك لا يكون للإيمان به معنى، ولا تتصور طاعة الله والانقياد إلى حكمه مع مخالفة رسوله -صلى الله عليه وسلم. إذًا قد دل الكتاب والإجماع والمعقول على أن السنة هي المصدر الثاني للتشريع وللدعاة خاصة.

ولكن قد يرد سؤال: هل جميع ما صدر عن النبي -صلى الله عليه وسلم له هذا المقام أي: مقام لزوم الاتباع والاستدلال به على الحكم الشرعي، أم لا؟ وهل كل ما صدر عن النبي -صلى الله عليه وسلم يصلح أن يكون مصدرًا للتشريع أم لا؟ وللجواب على هذين السؤالين لا بد من الكلام عن أنواع السنة من حيث ماهيتها، أي: ذاتها، ثم الكلام عن أنواع السنة من حيث ورودها إلينا.

أولًا: أنواع السنة من حيث ماهيتها، السنة من حيث ماهيتها أي: ذاتها تنقسم إلى ثلاثة أقسام: سنة قولية، وسنة فعلية، وسنة تقريرية. أما السنة القولية: فهي أقوال الرسول -صلى الله عليه وسلم التي قالها في مناسبات مختلفة، وأغراض شتى، وهي التي يُطلق عليها اسم الحديث عادة؛ فإذا أطلق هذا الاسم –الحديث- تبادر إلى الفهم أن المقصود به السنة القولية.

فالسنة بهذا الاعتبار مرادفة للفظ الحديث، ويكون الحديث أخص من السنة بمعناها العام، ومع هذا فإن بعض العلماء يجعل معنى الحديث ما أُثر عن النبي -صلى الله عليه وسلم أي: نسب إليه من قول أو فعل أو تقرير، وبهذا المعنى يكون لفظ الحديث مرادفًا للفظ السنة بمعناها العام، وبهذا الاعتبار سمى الإمام البخاري كتابه الشهير بالصحيح من الحديث، مع أنه اشتمل على ما نُسب إلى النبي -صلى الله عليه وسلم من أقوال وأفعال وتقريرات.

والسنة القولية كثيرة جدًّا: ((العمد قود)) ((لا ضرر ولا ضرار)) ((من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان))، وأقوال النبي -صلى الله عليه وسلم إنما تكون مصدرًا للتشريع إذا كان المقصود بها بيان الأحكام أو تشريعها، أما إذا كانت الأقوال في أمور دنيوية بحتة لا علاقة لها بالتشريع ولا مبنية على الوحي؛ فلا تكون دليلًا من أدلة الأحكام، ولا مصدرًا تستنبط منه الأحكام الشرعية، ولا يلزم اتباعها ومن ذلك ما هو مشهور أن النبي-صلى الله عليه وسلم رأى قومًا في المدينة يؤبّرون النخل فأشار عليهم بتركه، ففسد الثمر ولم يؤت أكله، فقال لهم: ((أبروا أنتم أعلم بأمور دنياكم)). فإشارته عليهم بترك التأبير كان مجرد رأي دنيوي لم يكن من عند الله -عز وجل- فلما لم يؤت النخل أكله قال لهم: ((أبروا أنتم أعلم بأمور دنياكم)). إذن أقواله -صلى الله عليه وسلم إنما تكون مصدرًا للتشريع إذا كان المقصود بها بيان الأحكام أو تشريعها، أما إذا كانت الأقوال في أمور دنيوية بحتة فلا علاقة لها بالتشريع.

أما السنة الفعلية: فهي ما فعله -صلى الله عليه وسلم كأداء الصلاة بهيئاتها وأركانها، وكقضائه بشاهد واحد مع يمين المدعي ونحو ذلك، وأفعاله -صلى الله عليه وسلم كأقواله منها ما يكون مصدرًا للتشريع، ومنها ما لا يكون:

أولًا: الأفعال التي تصدر عن النبي -صلى الله عليه وسلم بحسب الطبيعة البشرية، وبصفته الإنسانية كالأكل والشرب والمشي، والقعود، ونحو ذلك؛ فهذه لا تدخل في باب التشريع إلا على اعتبار إباحتها في حق المكلفين، فلا تجب متابعة الرسول -صلى الله عليه وسلم في طريقة مباشرته لها، وإن كان بعض الصحابة يحرص على هذه المتابعة كعبد الله بن عمر، وهذه المتابعة له -صلى الله عليه وسلم في أفعاله في الأكل والشرب والمشي والقعود أمر حسن، لكن مما ينبغي التنبيه عليه أنه قد ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم في الشرب وفي المشي وفي القعود بعض الأوامر، وبعض النواهي. فحينئذ يكون ما أمر به من هيئات الشرب، وهيئات القعود يكون ما أمر به واجبًا، وما نهى عنه محرمًا.

ويُلحق بهذا النوع في عدم اعتباره مصدرًا للتشريع ما صدر عنه بمقتضى خبراته الإنسانية في الأمور الدنيوية مثل: تنظيم الجيوش والقيام بما يقتضيه تدبير الحرب وشئون التجارة ونحو ذلك، فهذه الأفعال لا تعتبر تشريعًا للأمة؛ لأن مبناها التجربة لا الوحي، والرسول -صلى الله عليه وسلم لم يلزم المسلمين بها، ولم يعتبرها من قبيل تشريع الأحكام، ولذلك كان في بعض الغزوات يستشير أصحابه، ويأخذ بآرائهم. ويلحق بهذا النوع أيضًا في عدم اعتباره مصدرًا للتشريع إثبات وقائع الدعوى التي ينظر فيها؛ لأن ذلك أمر تقديري له وليس تشريعًا للأمة، أما حكمه على فرض ثبوت وقائع الدعوى فهو تشريع للأمة، ولهذا قال -صلى الله عليه وسلم: ((إنما أنا بشر مثلكم وإنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له بنحو ما أسمع، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فإنما أقطع له قطعة من النار)). ومعنى أن يكون بعضكم ألحن بحجته من بعض أي: أقوم بها منه وأقدر عليها.

ثانيًا: ما ثبت كونه من خواصه -صلى الله عليه وسلم فهو له وحده لا تشاركه الأمة فيه، كاختصاصه بالوصال في الصوم، فقد كان يواصل لليومين والثلاثة لا يفطر بينهما، فلما أرادوا أن يواصلوا اقتداء بفعله قال: ((إنكم لستم كهيئتي))، وكالزيادة في النكاح على أربع، وغير ذلك، فهذه الأمور خاصة به -صلى الله عليه وسلم ولا يصح متابعته عليها.

ثالثًا: ما عُرف أن فعله -صلى الله عليه وسلم بيان لنص مجمل جاء في القرآن، فبيان تشريع الأمة ويثبت الحكم في حقنا، ويكون حكم الفعل الذي صدر منه في هذه الحالة كحكم النص الذي بيّنه الفعل من الوجوب والندب وغيرهما، ويكون الفعل بيانًا للمجمل إما بصريح المقال، أو بقرائن الأحوال، فمن الأول قوله -صلى الله عليه وسلم: ((صلوا كما رأيتموني أصلي)) فأمر بالاقتداء به في فعله في الصلاة، وفي الحج قال: ((خذوا عني مناسككم))، فأداؤه الصلاة بيان للصلاة التي أمر الله بها على وجه الإجمال في قوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ} [النور: 56]، وأداؤه -صلى الله عليه وسلم لمناسك الحج بيان للحج المفروض علينا بقول ربنا: { وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: 97].

أما قرائن الحال الدالة على البيان فمثل أمره بقطعه يد السارق من الكوع، فهذا الفعل بيان للمراد من قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]؛ لأن لفظ اليد في القرآن مجمل، فاليد تُطلق على ما بين رءوس الأصابع إلى الكوع، وتطلق من الكوع إلى المرفق، وتطلق على اليد كلها إلى المنكب {فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] فقطع -صلى الله عليه وسلم يد السارق إلى الكوع فدلّ على أن هذا هو المعتبر.

رابعًا: ما فعله -صلى الله عليه وسلم ابتداء وعرفت صفته الشرعية من وجوب وندب وإباحة، فإنه تشريع للأمة، فيثبت حكم ما فعله في حق المكلفين لقول الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21].

خامسًا: ما فعله -صلى الله عليه وسلم ولم تُعرف صفته الشرعية، ولكن عرف أن في الفعل قصد القربة كقيامه ببعض العبادات دون مواظبة عليها، فإن الفعل يكون مستحبًّا في حق الأمة،أما إذا لم يعرف في الفعل قصد القربة؛ فإن الفعل يكون دالًّا على إباحته في حق الأمة كالمزارعة والبيع ونحو ذلك.

أما السنة التقريرية: فهي سكوته -صلى الله عليه وسلم على إنكار قول أو فعل صدر في حضرته، أو في غيبته، وعلم به، قال بعض الصحابة قولًا بحضرة النبي -صلى الله عليه وسلم فسكت عليه ولم ينكره، أو فعل فعلًا بحضرته فسكت عليه ولم ينكره، أو قال بعضهم أو فعل في غيابه وبلغه أنه قال وفعل فسكت ولم ينكره، فهذا السكوت منه -صلى الله عليه وسلم يدل على أن القول الصادر أو الفعل الصادر من الصحابة أو بعضهم ليس منكرًا ولا باطلًا؛ لأنه لا يجوز للرسول أن يسكت عن باطل أو منكر، فسكوته يدل على جواز الفعل والقول وإباحته.

ومن أمثلة هذا النوع من السنة سكوته -صلى الله عليه وسلم وعدم إنكاره للغلمان الذين كانوا يلعبون بالحراب في المسجد في يوم العيد، وكذلك سكوته -صلى الله عليه وسلم عن الجاريتين اللتين كانتا تغنيان بغناء بعاث في بيته يوم العيد أيضًا، ومثل السكوت في الدلالة على جواز الفعل استبشاره -صلى الله عليه وسلم به أو إظهار رضاه عنه أو الاستحسان له، بل إن هذا الرضا والاستحسان أظهر في الدلالة على جواز الفعل من مجرد سكوته -صلى الله عليه وسلم.

ويلاحظ هنا أن إباحة الفعل المستفادة من سكوت النبي -صلى الله عليه وسلم لا تعني أن الفعل لا يكون إلا جائزًا فقط، فقد يكون الفعل واجبًا بدليل آخر وعلى هذا فمجرد سكوت النبي -صلى الله عليه وسلم لا يفيد أكثر من إباحة الفعل، وقد يستفيد الفعل صفة الوجوب أو الندب من دليل آخر.

error: النص محمي !!