Top
Image Alt

التعريف باللغة

  /  التعريف باللغة

التعريف باللغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فنقول -وبالله التوفيق-:

إن العلماء قد اهتموا بلغة الكلام على اختلاف تخصصاتهم، فالفلاسفة، والمناطقة تشغلهم علاقة الفكر باللغة، وعلماء النفس تشغلهم اللغة بوصف كونها أحد ألوان السلوك البشري المهمة، التي تكشف عن نفسية الإنسان، ودقائق عواطفه، وانفعالاته، من أول حياته إلى نهايتها، وعلماء الاجتماع تشغلهم اللغة أيضًا بوصف كونها ظاهرة اجتماعية، ويحاولون الوقوف على وظيفتها في المجتمع، وعلى سلوكها وآثارها وعلاقاتها بالظواهر الاجتماعية الأخرى، وعلماء الأجناس ينظرون إلى اللغة أيضًا بوصف كونها أساسًا من الأسس التي تكشف لهم كثيرًا من الحقائق عن الإنسان، ومراحله التي مر بها، وأجناسه المختلفة، وهكذا الحال بالنسبة لعلماء التاريخ، والفيزياء، والبيولوجيا، والفسيولوجيا، والرياضيات، والفضاء، والهندسة، والآلات، وإذا كانت اللغة بما لها من نفوذ قد جذبت كل هؤلاء وغيرهم، إلى محاولة الإفادة من طبيعتها ونظمها في ميادين المعرفة المختلفة؛ فإن اللغويين هم الذين درسوها بذاتها ولذاتها، ووقفوا على حقيقتها، ونظمها، ونشأتها، وتاريخها، وتطورها إلى غير ذلك مما يتصل بها.

أما معناها في اللغة، فلا يخلو معجم من معاجم العربية، بدءًا من كتاب: (العين)، للخليل بن أحمد، وانتهاءً بالمعاجم الحديثة، لا يخلو واحد منها من مادة اللام، والغين، والواو، وابن جني، يقول: “اللغة ككُرة أصلها لُغْو”، وفعلها، من باب: دعا، وسعى، ورضي، وهناك فرق بين هذه الأبواب الثلاثة، فحين نقول: إن اللغة، من باب: دعا، فهذا يعني: أن المضارع بوزن يفعُل، دعا يدعو، وكذا: لغا يلغو، وحين تكون من باب: سعى، فإن المضارع يكون بوزن يفعَل، فكما نقول: سعى يسعى نقول أيضًا: لغا يلغا، وحين تكون من باب: رضي، فإن المضارع أيضًا يكون على يفعَل، والفارق بين المضارع في هذا الباب -باب: رضي- والمضارع في باب: سعى، أن الماضي في سعى مفتوح العين وفي رضي مكسورها.

إذًا، الفعل الذي أتت منه اللغة يكون من باب من هذه الثلاثة؛ باب: دعا، وسعى، ورضي، ووزنها فُعة، حذفت لامها وعوض عنها بهاء التأنيث، ولكن ابن جني، يزنها فُعْلة بإثبات اللام وإثبات التأنيث أيضًا، ويلزم على كلام ابن جني، الجمع بين العوض والمعوض عنه، مع أن هذا الجمع لا يكون إلًَّا نادرًا، وأما إذا أردت أن تجمع اللغة فيمكنك أن تجمعها على لُغًى، أو لغات، أو لُغُون، فلغًى جمع تكسير، ولغات جمع بالألف والتاء، ولغون ملحق بجمع المذكر السالم، وقد مال أحد الباحثين المحْدَثين إلى القول بأن اللغة من أصل يوناني، يقصد لفظ اللغة.

وهذا الأصل اليوناني في نظره هو لغث، أو لُجث “Logos” التي تدل في اليونانية على معنى أصلي، هو الكلمة، والكلام، كما تدل معانيها الأخرى على التعبير اللفظي عن الفكر نحو: الحكمة، والمثل، والقصة، والمقالة، وقد بنى هذا الباحث رأيه هذا على عدم ورود لفظ اللغة في كلام عربي يعتد به، وأيضًا على استعمال العربي، كلمة: لسان؛ للدلالة على اللغة، شأنهم في ذلك شأن الأمم السامية، وأكثر أمم الدنيا.

وهكذا يطرد الأمر في القرآن الكريم أيضًا، ولكن هذا الرأي مردود عليه، بأن جذر اللغة -وهو اللام، والغين، والواو- جذر عربي صحيح، تدور ألفاظه -التي يمكن قراءتها في المعاجم اللغوية المختلفة- حول الأصوات الإنسانية وغيرها، وبأن اللغويين القدماء من أمثال أبي عمرو الشيباني، والجاحظ، وابن دريد، وابن فارس، وابن جني، وغيرهم قد استعملوا لفظ اللغة، إما بمعناها الجامع للسان العرب، أو بمعناها الضيق الذي يدل على لهجة من لهجاته، واستعمل القرآن الكريم ألفاظًا مؤاخية للفظ اللغة، تحتوي على الجذر نفسه، مثل: اللغو –مثلًا- في قوله تعالى: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان: 72]، وكذا في السنة المطهرة، نرى ألفاظًا مأخوذة من الجذر نفسه، كما في الحديث: ((من قال يوم الجمعة والإمام يخطب: صه؛ فقد لغا))، وكذا: ((من مس الحصى؛ فقد لغا)).

معنى اللغة في اصطلاح علماء اللغة:

وأما معنى اللغة في اصطلاح علماء اللغة، فليس مجرد كلمة تقال، وإنما تعددت تصورات اللغويين وغيرهم بتعدد تخصصاتهم.

أما التصور اللغوي القديم للغة عند علماء العربية، فيمثله العلامة ابن جني، في أواخر القرن الرابع الهجري، وكذا ابن خلدون، المتوفى في أوائل القرن التاسع الهجري؛ فقد عرفها ابن جني: بأنها أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم، وهذا التعريف على وجازته يشير إلى أربعة عناصر في تصور اللغة:

العنصر الأول: صوتية اللغة، بمعنى: أن الشق المادي منها، إنما هو نظام من الأصوات.

العنصر الثاني: عُرفية اللغة، بمعنى: أن أصحاب اللغة قد تقبلوا هذا الأصوات على معان معينة.

العنصر الثالث: اجتماعية اللغة، بمعنى: أن اللغة تنشأ بالمجتمع وتحيا به.

العنصر الرابع: وظيفة اللغة، فاللغة تعبر عن الأغراض.

أما ابن خلدون، فقد عرف اللغة: بأنها عبارة المتكلم عن مقصوده، مؤكدًا أن العبارة فعل لساني، ذاكرًا أن اللسان في كل أمة بحسب اصطلاحات هذه الأمة، وكلام ابن خلدون في مقدمته يشير إلى العناصر المستخلصة من تعريف ابن جني أيضًا.

وإذا انتقلنا إلى التصور الحديث للغة -سواء كان عربيًّا، أو غربيًّا- فإننا نراه لا يختلف كثيرًا عن التصور العربي القديم، فهي عند بعض المحْدثين: نظام عرفي لرموز صوتية، يستغلها الناس في الاتصال بعضهم ببعض، واللغة عند فريق آخر: هي نظام من العلامات الاصطلاحية ذات الدلالة الاصطلاحية، فهذا التعريف، وما قبله يشيران إلى العناصر الأربعة، التي تضمنها تعريف ابن جني.

واللغة عند بعض علماء الغرب -مثل العالم البريطاني “هنري سويت”، المتوفى في مطلع القرن العشرين الميلادي- هي: التعبير عن الأفكار بواسطة الألفاظ الكلامية المؤتلفة في كلمات، وهذا التعريف يشير إلى الجانب المادي من اللغة، كما يشير إلى وظيفتها، واللغة عند فريق غربيٍّ آخر -مثل العالم الأمريكي “إدوارد سابير”- هي: وسيلة إنسانية خالصة لتوصيل الأفكار، والانفعالات، والرغبات، عن طريق نظام من الرموز الصوتية الاصطلاحية التي تصدر بطريقة إرادية، فهذا التعريف يتضمن العناصر الأربعة السالفة الذكر، كما يشير إلى أن اللغة ترتبط بمخ الإنسان، حينما رآها تصدر بطريقة إرادية.

error: النص محمي !!