التعريف بالمصدر الأول: القرآن الكريم
القرآن الكريم أشهر من أن يُعرَّف، ومع هذا فقد اعتنى الأصوليون بتعريفه، وذكروا له تعاريف شتى حرص كل منهم أن يكون جامعًا مانعًا، ومن هذه التعاريف:
القرآن الكريم: هو الكتاب المنزل على رسول الله محمد -صلى الله عليه وسلم المكتوب في المصاحف، المنقول إلينا عنه نقلًا متواترًا بلا شبهة، ولا خلاف بين المسلمين أن القرآن حجة على الجميع، وأنه المصدر الأول للتشريع بل حجة على جميع البشر، والبرهان على حجيته أنه من عند الله، والبرهان على أنه من عند الله إعجازه.
فإذا ثبت كون القرآن من عند الله بدليل إعجازه؛ وجب اتباعه مِن قِبل الجميع، وللقرآن الكريم خواصه؛ منها: أنه كلام الله المنزل على رسوله -صلى الله عليه وسلم وعلى هذا لا تُعتبر من القرآن الكتب السماوية الأخرى كالتوراة والإنجيل؛ لأنها لم تنزَّل على محمد -صلى الله عليه وسلم.
ثانيًا: القرآن هو مجموع اللفظ والمعنى، وأن لفظه نزل باللسان العربي كما قال الله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُون} [يوسف: 2] فليس في القرآن الكريم لفظ غير عربي، يقول الإمام الشافعي -رحمه الله تعالى: “جميع كتاب الله نزل بلسان العرب”، وقال أيضًا: “ليس من كتاب الله شيء إلا بلسان العرب”، وعلى هذا لا تُعتبر الأحاديث النبوية من القرآن؛ لأن ألفاظها ليست من الله -عز وجل- وإن كان معناها موحًى به من الله، وكذا لا يُعتبر من القرآن تفسيره ولو كان باللغة العربية، وكذا ترجمته إلى غير العربية لا تعتبر من القرآن.
ثالثًا: أنه نقل إلينا بالتواتر أي: أن القرآن الكريم نقله قوم لا يتوهم اجتماعهم وتواطؤهم على الكذب؛ لكثرة عددهم وتباين أمكنتهم عن قوم مثلهم، وهكذا إلى أن يتصل النقل برسول الله -صلى الله عليه وسلم فيكون أول النقل كآخره، وأوسطه كطرفيه كله متواتر، وعلى هذا فما نقل من القراءات من غير طريق التواتر لا يُعتبر من القرآن مثل ما روي عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-أنه قرأ قول الله تعالى، وذلك في كفارة اليمين {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [البقرة: 196] قرأها ابن مسعود “فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام متتابعات”. فهذه القراءة محمولة على أنها تفسير لثلاثة أيام بكونها متتابعات على رأي ابن مسعود.
رابعًا: أنه محفوظ من الزيادة والنقصان؛ لقول الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُون} [الحجر: 9] فلا نقص فيه ولا زيادة، ولن يستطيع مخلوق أن يزيد عليه شيئًا أو ينقص منه شيئًا؛ لأن الله تعالى تولى بنفسه حفظه وما تولى الله حفظه لم تصل إليه يد العابثين المفسدين.
خامسًا: أن القرآن معجز، ومعنى كونه معجزًا عجز البشر أجمعين عن الإتيان بمثله، وقد ثبت إعجازه بتحدّيه للعرب المخالفين بأن يأتوا بمثله، فعجزوا، ثم تحداهم بأن يأتوا بعشر سور مثله فعجزوا، ثم تحداهم بسورة واحدة من سوره فعجزوا، ثم تحداهم أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا قال الله تعالى: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88].
وقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِين} [هود: 13] وقال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ} [يونس: 38]، وقال تعالى: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين} [البقرة: 23]، {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ} يعني: في الحاضر {وَلَن تَفْعَلُواْ} ولن تفعلوا في المستقبل، أي: لم تفعلوا ولن تفعلوا {فَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِين} [البقرة: 24]. اتقوها بالإيمان بأن القرآن كلام الله رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلب محمد -صلى الله عليه وسلم ليكون من المنذرين، بلسان عربي مبين.
ومع هذا التحدي المتكرر الذي يستفز الهمم، ويبعث على المعارضة عجز العرب عن المعارضة، بالرغم من وجود المقتضي لها، وعدم المانع منها، أما وجود المقتضي؛ فلأن العرب كانوا حريصين كل الحرص على إبطال دعوة محمد -صلى الله عليه وسلم فلو كانوا قادرين لجاءوا بما يعارض القرآن ويبطل دعوة محمد -صلى الله عليه وسلم. أما عدم المانع من المعارضة؛ فلأنهم أهل البلاغة والفصاحة والمعرفة التامة باللغة العربية وأصحاب الحكم والسلطان، فلمَّا ثبت عجزهم ثبت أن القرآن النازل بلغة العرب هو كتاب الله، وأن محمدًا رسول الله حقًّا.
وجوه إعجاز القرآن الكريم:
وجوه إعجاز القرآن الكريم كثيرة منها:
أولًا: بلاغته التي بهرت العرب، وجعلتهم مشدوهين على نحو لم تعهد في كلام العرب من قبل، لا في منظوم ولا منثور، مع بقائها في مستوى عالٍ في جميع أجزاء القرآن، وبالرغم من تناوله مواضيع شتى، وأحكامًا مختلفة، وبالرغم من نزوله في فترات متباعدة. إن أي قارئ لأي كتاب سوى كتاب الله -عز وجل- يجد أن الكاتب يصلُ إلى حد عظيم جدًّا من البلاغة في فصل من فصول هذا الكتاب. ثم إذا به يأتي إلى فصل آخر فيجده دون ما وصل إليه الكاتب من البلاغة في الفصل السابق، وهذه هي طبيعة البشر.
أما القرآن الكريم فاقرأه من الفاتحة إلى الناس تجد البلاغة في أطول سورة وفي أقصر سورة، وتجدها في أطول آية وأقصر آية، على الرغم من أن القرآن الكريم نزل على النبي -صلى الله عليه وسلم على مدار الثلاث والعشرين سنة، طرفان متباعدان ومع ذلك فأول ما نزل وآخر ما نزل من البلاغة على درجة واحدة، وهذا وجه من وجوه الإعجاز، وكذلك تناول القرآن الكريم مواضيع شتى وأحكامًا مختلفة تناول تشريعات وتناول قضايا، وحل مشكلات، وتناول حدودًا وأحكامًا وعبادات، ومع ذلك فعلى الرغم من تنوع المواضيع واختلاف الأحكام؛ فالبلاغة في كل آية منه.
ثانيًا: من وجوه إعجاز القرآن إخباره بوقائع تحدث في المستقبل، وقد حدثت فعلًا من ذلك قول ربنا سبحانه: {الم غُلِبَتِ الرُّوم فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُون فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُون} [الروم: 1- 4]، وهذا من الإخبار بما سيكون في المستقبل، وما كان لمحمد -صلى الله عليه وسلم أن يجرؤ على أن يقول هذا القول لو كان من عنده؛ لأنه لا يعلم الغيب؛ فلولا أنه على يقين تام من أن هذا القرآن كلام الله -عز وجل- ما استطاع أن يصدع بهذا القول، ومع ذلك صدع به، ثم تحقق ما أخبر به؛ لأنه كما قال تعالى: {قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [الفرقان: 6].
ثالثًا: ومن وجوه إعجاز القرآن الكريم: إخباره بوقائع الأمم السابقة المجهولة أخبارها عند العرب جهلًا تامًّا؛ لعدم وجود ما يدل عليها من آثار ومعالم، ولذلك فإن الذي يقرأ القصص القرآني يرى الله -عز وجل- دائمًا يُعقب على كل قصة بالإشارة إلى أنها وحي من الله إلى رسوله -صلى الله عليه وسلم ما كان ليعلمها لولا الوحي، نقرأ مثلًا في سورة هود قصة نوح -عليه السلام- ثم نرى الله -عز وجل- يعقّب عليها بقوله: {تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَـذَا} [هود: 49] ونقرأ قصة يوسف -عليه السلام- مع إخوته وما كان منهم معه، ثم نرى الله -عز وجل- يقول في آخر القصة: {ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُون} [يوسف: 102].
رابعًا: ومن إعجاز القرآن إشارته إلى بعض الحقائق الكونية التي أثبتها العلم الحديث، والتي لم تكن معروفة من قبل من ذلك قول ربنا -عز وجل-: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُون} [الأنبياء: 30] وقال تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِين} [الحجر: 22] فهذه بعض وجوه إعجاز القرآن الكريم.
أما أحكام القرآن فقد اشتمل القرآن الكريم على أحكام كثيرة متنوعة يُمكن تقسيمها إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: الأحكام المتعلقة بالعقيدة كالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وهذه هي الأحكام الاعتقادية، ومحل دراستها في علم التوحيد.
القسم الثاني: أحكام تتعلق بتهذيب النفس وتقويمها، وهذه هي الأحكام الأخلاقية ومحل دراستها في علم الأخلاق.
القسم الثالث: الأحكام العملية المتعلقة بأقوال وأفعال المكلفين، وهي المقصودة بعلم الفقه، والتي يهدف هذا العلم وأصوله إلى معرفتها والوصول إليها، وهذه الأحكام العملية نوعان:
الأول: العبادات كالصلاة والصيام، والغرض منها تنظيم علاقة الفرد بربه.
الثاني: ما عدا العبادات، وتُسمى في اصطلاح الفقهاء بالمعاملات، وهي تشمل الأحكام التي تدخل في نطاق القانون الخاص والقانون العام حسب الاصطلاح القانوني الحديث، وهذه الأحكام يُقصد بها تنظيم علاقة الفرد بالفرد، أو الفرد بالجماعة أو الجماعة بالجماعة، ومن هذه الأحكام الأحكام المتعلقة بالأسرة، وهي تدخل في نطاق ما يُسمى بقانون الأسرة، أو بمسائل الأحوال الشخصية كالنكاح، والطلاق، والبنوُّة، والنسب، والولاية، ونحو ذلك.
ويقصد بهذه الأحكام بناء الأسرة على أسس قويمة وبيان حقوق وواجبات أفرادها، وقد أخذت هذه الأحكام من آيات القرآن الكريم نحو سبعين آية.
ثانيًا: الأحكام المتعلقة بمعاملات الأفراد المالية كالبيع والرهن، وسائر العقود، وهي تدخل في نطاق ما يُسمى بالقانون المدني، وآياتها نحو سبعين آية.
ثالثًا: الأحكام المتعلقة بالقضاء والشهادة واليمين، ويُقصد بها تنظيم إجراءات التقاضي لتحقيق العدالة بين الناس وهي تدخل في ما يسمى اليوم بقانون المرافعات، وآياتها نحو ثلاث عشرة آية.
رابعًا: الأحكام المتعلقة بالجرائم والعقوبات وهي تكوّن القانون الجنائي الإسلامي، وآياتها نحو ثلاثين آية، ويقصد بها حفظ الناس وأعراضهم وأموالهم، وإشاعة الطمأنينة والاستقرار في المجتمع.
خامسًا: الأحكام المتعلقة بنظام الحكم ومدى علاقة الحاكم بالمحكوم، وبيان حقوق وواجبات كل من الحاكم والمحكومين، وهي تدخل فيما يسمى بالقانون الدستوري، وآياتها نحو عشر آيات.
سادسًا: الأحكام المتعلقة بمعاملة الدولة الإسلامية للدول الأخرى ومدى علاقاتها بها، ونوع هذه العلاقة في السلم والحرب، وما يترتب على ذلك من أحكام، وكذلك بيان علاقة المستأمنين مع الدولة الإسلامية، وهذه الأحكام منها ما يدخل في نطاق القانون الدولي العام، ومنها ما يدخل في نطاق القانون الدولي الخاص، وآياتها نحو من خمس وعشرين آية.
سابعًا: الأحكام الاقتصادية وهي المتعلقة بموارد الدولة ومصارفها وبحقوق الأفراد في أموال الأغنياء، وآياتها نحو من عشر آيات، كيف بيَّن القرآن الكريم هذه الأحكام للناس؟ قال الله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]، وقال تعالى: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ} [الأنعام: 38]