Top
Image Alt

التعريف بعلم اللغة الاجتماعي

  /  التعريف بعلم اللغة الاجتماعي

التعريف بعلم اللغة الاجتماعي

اللغة لا تعيش في فراغ، ولا تدرس أيضًا من فراغ، إنها تعيش في مجتمع، وترتبط به فهو صاحبها وهي وسليته في الحياة، في التخاطب والتفاهم والتعامل، وتبادل المنافع، وهي سجله الحافل، ووعائه الحضاري الذي هو جزء منه، وهي المرآه التي يرى فيها المجتمع صورته في الماضي، وفي الحاضر إنها ظل المجتمع ترقى برقيه، وتلبي رغباته، وتقوى بقوته، وتضعف بضعفه وتموت بموته.

وانظر مثلًا في لغتنا العربية، لقد عاشت معبرة عن كل ما يحتاجه العربي في حياته البدوية في العصر الجاهلي؛ حيث كانت حياته بسيطة، وكانت محدودة بمحدودية الثقافة آنذاك، وبمحدودية الحضارة وقتئذ، ثم حدث لها تحول بظهور الإسلام، ونزول القرآن الكريم تغيرت صورة العربية بسبب هذا الأمر العظيم، فاكتسبت معاني ودلالات جديدة، لم تكن معروفة من قبل، فنمت ألفاظها وتنوعت أساليبها، ويكفيها فخرًا أنها وسعت كتاب الله عز وجل، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم

بل إنها واكبت حياة المجتمع الإسلامي في كل زمان ومكان، فواكبت حضارة هذا المجتمع بعد انتشار الإسلام شرقًا وغربًا، عبرت عن حضارة المجتمع في العصر العباسي وما تلاه من قرون، وتطورت بتطور الحياة، كما أنها واكبت العلاقة التي قامت بين المجتمع العربي، وبين غيره من المجتمعات المجاورة، كالفرس والترك وغيرهما.

إذن اللغة مرتبطة بالمجتمع ارتباطًا وثيقًا، وقد أدرك هذا علماء الاجتماع، فاعتبروا اللغة ظاهرة اجتماعية، فاهتموا بها ودرسوها، كما انتبه أيضًا إلى هذا الأمر علماؤنا العرب القدماء، ومنهم العلامة أبو الفتح عثمان بن جني، الذي عرف اللغة بأنها أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم، فربط اللغة بالمجتمع، وعلم اللغة الحديث التفت أيضًا إلى هذه العلاقة، وأدرك تأثير اللغة في المجتمع، وتأثير المجتمع في اللغة أيضًا، فأخذ على عاتقه دراسة الظواهر اللغوية في ضوء ارتباطها بالظواهر الاجتماعية، وحاول الكشف عن كل ما يحدثه العامل الاجتماعي في اللغة؛ ولذلك رأينا هذا الفرع من الدراسات اللغوية ينمو ويتسع، متناولًا العلاقة بين اللغة والمجتمع، فحاول تحليلها والكشف عن التأثير المتبادل بين اللغة والمجتمع، فتعاون علماء اللغة والاجتماع على دراسة هذه القضايا الكاشفة عن هذه العلاقة، وصار لهذا التعاون المشترك علم لغوي اجتماعي، يعرف بعلم اللغة الاجتماعي، أو علم الاجتماع اللغوي، ولغتنا العربية في حاجة ماسة إلى تأصيل هذا العلم، وتراثنا في حاجة إلى دراسته في ضوء هذا الفتح الجديد، الذي تشابكت فيه قرائح اللغويين والاجتماعيين، في سبيل الكشف عن مظاهر العلاقة بين اللغة والمجتمع.

تراثنا في حاجة إلى إعادة قراءة؛ لنثبت للعلماء المؤرخين للدراسات اللغوية والاجتماعية؛ لنثبت لهم أن في تراثنا نظرات ونظريات لا يحق لها أن تهمل، تراثنا في حاجة إلى جهد للكشف عما فيه من نظرات مفيدة، في ربط اللغة بالمجتمع، سواء عند أولئك الأدباء العلماء البلغاء من أمثال الجاحظ، أو من أمثال علماء اللغة الأفذاذ، كابن جني، أو من أمثال علماء الاجتماع كابن خلدون.

 علم اللغة الاجتماعي يعني باختصار شديد: العلم الذي يدرس اللغة في علاقاتها بالمجتمع، إنه ينتظم كل جوانب بنية اللغة، وطرائق استعمالها التي ترتبط بوظائفها الاجتماعية والثقافية، وقد أخذ هذا العلم تسميات مختلفة مثل علم اللغة الاجتماعي، أو علم اجتماع اللغة، أو علم الاجتماع اللغوي، أو علم الأنثربولوجي، أو الأنثربولوجيا اللغوية، أو علم اللغة الأثنولوجي، إن هذه تسميات تدور في محيط واحد، وتكشف عن علاقة هذه اللغة بالمجتمع، الذي يعيش فيه الإنسان.

وعلم الاجتماع اللغوي واحد من علوم الاجتماع المتعددة، فعلم الاجتماع بصفة عامة يتناول النظم الاجتماعية والاقتصادية، كما يتناول الأديان، وعلم النفس والثقافة واللغة، وله اهتمام بالتربية والسياسة والجغرافيا؛ ولذلك نرى مصطلحات عديدة تبعًا لهذه الاهتمامات، فهناك علم الاجتماع الحقوقي، وعلم الاجتماع الاقتصادي، وعلم الاجتماع الديني، وعلم الاجتماع النفسي، وعلم الاجتماع الثقافي، وعلم الاجتماع التربوي، وعلم الاجتماع السياسي، وعلم الاجتماع الجغرافي، وأيضًا علم الاجتماع اللغوي.

فالواقع الجغرافي مثلًا يعالجه علم الاجتماع الجغرافي، أو ما يسمى بالمرفولوجيا الاجتماعي، والواقع النفسي يعالجه علم النفس الاجتماعي، والواقع الثقافي يعالجه علم الثقافة الاجتماعي، والواقع اللغوي يعالجه علم اللغة الاجتماعي وهكذا.

بل إن علم الاجتماع اللغوي ذاته، أو علم اللغة الاجتماعي يمكن أن تنبثق منه، وقد انبثقت بالفعل فروع متعددة، كعلم اللغة الأنثربولوجي، وعلم اللغة الأثنولوجي، وعلم اللغة الجغرافي، وعلم اللغة السياسي، وعلم اللغة التربوي إلى آخره، فعلم اللغة الاجتماعي وظيفته بصفة عامة البحث في الكيفيات، التي تتفاعل بها اللغة مع المجتمع، إنه ينظر في التغيرات، التي تصيب بنيةَ اللغة استجابة لوظائفها الاجتماعية المختلفة، مع بيان هذه الوظائف وتحديدها، وهو فرع من الفروع الملحقة بعلم اللغة الآن أيضًا، بوصف كونه علمًا يدرس اللغة في علاقاتها في المجتمع.

وهو حديث العهد بالوجود نسبيًّا، إذ برز على الساحة العلمية في أواخر الستينيات، وأوائل السبعينيات من القرن العشرين المنصرم، ومنذ ذلك الوقت وهو يزداد نموًّا واتساعًا، وأصبح له علماؤه وطلابه على مستوى اللغويين الاجتماعيين منهم بوجه خاص، وكذا على مستوى رجال علم الاجتماع بتفرعاته، وتنوع مجالات البحث فيه، وليس معنى هذا أن هذا العلم لم يكن معروفًا من قبل، أو أن نقاط البحث فيه لم تكن مطروقة، أو خاضعة للنظر قبل هذا التاريخ، إن كثيرًا من مواضيعه كانت محل نظر اللغويين بصورة أو بأخرى، وإن كانت قد تعالج ضمن الإطار العام لعلم اللغة.

فقد آمن بعض اللغويين أن اللغة ظاهرة اجتماعية؛ ولذلك نرى بعضهم يعالج قضايا معينة، تدخل في إطار علم اللغة الاجتماعي.

وإن لم تكن قد دخلت في علم له مصطلح حديث؛ ولذلك رأيناهم يتحدثون عن الوظيفة الاجتماعية، أو ما يسمى بالاتصال اللغوي ونراهم كذلك يتحدثون عن تنوع اللغة إلى لهجات.

ويتحدثون عن أساليب اجتماعية، أو عن أنماط عن الكلام وفق البيئة، أو الثقافة، أو الحرفة، أو الصنعة أو نحو ذلك.

وكل الذي حدث في السنوات الأخيرة هو نوع من التجميع لنقاطه ومسائله، والحقيقة أن علم اللغة الاجتماعي قد نشأ في الآونة الأخيرة علمًا، بوصفه رد فعل مباشر للمدرستين البنيوية والتوليدية التحويلية، وقد علمنا أن المدرسة البنيوية انتشرت في أمريكا، وفي أوروبا؛ حيث ظهرت في مطلع القرن العشرين على يد العالم السويسري دوسيسير، ثم انتشرت بعد ذلك في أنحاء أوروبا، وامتدت إلى أمريكا، وقد علمت أيضًا أن المدرسة التوليدية التحويلية نشأت على يد “تشوميسكي”، في أمريكا في منتصف القرن العشرين تقريبًا، سنة (سبع وخمسين وتسعمائة وألف) من الميلاد.

وقد علمت أن العالم دوسيسير قد فرق بين اللغة والكلام، وقد وجهت البنيوية الأوروبية جل اهتماماتها إلى اللغة بوصف كونها بناءً هيكلًا منعزلًا عن صانعه أو صاحبه وعن الظروف والملابسات الاجتماعية المحيطة به، وأهملت من النظر الكلام المتمثل في الأداء الفعلي الحي المنطوق من الفرد المعين في الموقف المعين، وإن كان بعض إتباع دوسيسير قد راعوا الكلام وتنوعاته من وقت إلى آخر، ولكن ذلك منهم كان لأسباب فنية أسلوبية.

والبنيوية حين انتقلت إلى أمريكا وعرفت ببنيوية بلونفيلد قد أهملت أيضًا الجانب الاجتماعي للغة؛ معنى ذلك أن البنيوية بجناحيها الأوروبي والأمريكي قد أهملت البعد الاجتماعي للغة؛ فلم تربط بين القواعد اللغوية وما يمكن أن نسميه بالقواعد أو الأساليب الاجتماعية والثقافية لمجتمع اللغة، والمدرسة التوليدية التحويلية هي الأخرى في بداياتها الأولى قد استبعدت علاقة اللغة بالمجتمع في أعمالها، وقد علمت أنها تقوم على ما يسمى بالكفاءة والأداء، والكفاءة أو الطاقة هي معرفة الإنسان بلغته ونظام القواعد التي يسيطر عليها الإنسان بصفة لا شعورية، أما الأداء فهو التوظيف أو الاستخدام الفعلي للغة في المواقف الحياتية المختلفة.

ثم قامت محاولات من قبل أتباع “تشوميسكي”، حاولت الربط بين البنية السطحية أو الأداء الفعلي والبنية الاجتماعية، وهي محاولة اقتصرت على جانب واحد فقط من جانب هذه الثنائية، أما الجانب الآخر وهو الكفاءة أو الطاقة فقد بقي على حاله دون تفسير اجتماعي.

لهذا كله انشغل الاجتماعيون باللغة من زاويتها الاجتماعية، وصار الربط بين اللغة والمجتمع أو بين القواعد اللغوية والأساليب الاجتماعية الشغل الشاغل لعلماء اللغة الاجتماعيين وعلماء الاجتماع اللغويين؛ حيث ينظر كل فريق في هذا الربط من الزاوية التي تتسق مع حاجاته فتلقي الضوء على اهتماماته.

error: النص محمي !!